صوتُ كريستينا بين الحجرات

The Blue Room, Suzanne Valadon, 1923

نغم حيدر

روائية من سوريا

بعدما أمضيت النهار خارجاً عدتُ إلى الغرفة مساءً. أشغلتُ جهاز التلفاز و رحتُ أُنصت إلى نشرة أخبار المساء. بدا النور الشحيح القادم من الفسحة الخالية في الخارج أكثر ألفة، و بعثت ظلاله العشوائية على جدران الغرفة  فيّ الرغبة في التأمل. أطفأتُ جهاز التلفاز و عدتُ إلى السكون.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

14/04/2023

تصوير: اسماء الغول

نغم حيدر

روائية من سوريا

نغم حيدر

في واحدةٍ من الرحلات التي قمتُ بها وحدي حجزتُ غرفةً صغيرةً بلا إطلالة في فندق وسط المدينة. كنتُ أبحث وقتها عن أيّة غرفةٍ متوفرةٍ في التوقيت الذي أريده و طالعتني صورة تلك الغرفة الفندقية المؤثثة بشكل بسيط ذات النافذة المستطيلة و التي أًسدلت فوقها ستارةٌ سميكةٌ طويلة. لم أهتم حقاً بإطلالتها و لا في أيّ طابقٍ تقع و قمت بحجزها على الفور. 

وصلتُ المدينة صباحاً و دخلتُ الفندق المصمم  طولياً بردهاتٍ وممراتٍ طويلة. استلمتُ مفتاح الغرفة و جررتُ معي حقيبتي عبر ردهةٍ مفروشةٍ بموكيتٍ كحليٍّ غامق. كانت بعض عاملاتِ التنظيف ينظفن الغرف مشرعاتٍ أبوابها. ألقيتُ نظرةً سريعة على غرف الآخرين ووجدتها رحبة و مضيئة، دخلتها أشعة الشمس حتّى من حواف الستائر التي لم تُحرك بشكلٍ كاملٍ. مررت بأبواب غرف الطابق المتباعدة و التي توحي بكبر مساحة الغرف هناك. ثم وصلتُ إلى غرفتي المنشودة و فتحتُ الباب لأفاجأ بأن الغرفة ضيقة جداً. بائسة، موحشة و باردة بشكلٍ مخيف. مطلّة على فسحةٍ مكشوفةٍ في داخل الفندق مضاءةٍ بالكاد  بنورٍ شحيح. كانت مصممةً بشكلٍ مختلفٍ عن بقية الغرف كأنّها ممرٌ طويل أو  مساحةٌ زائدة قرر أصحاب الفندق تحويلها إلى غرفة. وضعتُ حقيبتي داخلها ثم جلستُ على سريرها الضيق. فكرتُ: لو كانت ردهة هذا الفندق كيان إنسان، فأنا حظيتُ بأكثر بقعةٍ ظلاماً فيه.

بعدما أمضيت النهار خارجاً عدتُ إلى الغرفة مساءً. أشغلتُ جهاز التلفاز و رحتُ أُنصت إلى نشرة أخبار المساء. بدا النور الشحيح القادم من الفسحة الخالية في الخارج أكثر ألفة، و بعثت ظلاله العشوائية على جدران الغرفة  فيّ الرغبة في التأمل. أطفأتُ جهاز التلفاز و عدتُ إلى السكون. لا أعرف لمَ بدا لي سكون هذه الغرفة المنبوذة جميلاً، عذباً إلى درجةِ أنني أحببتها. تذكرتُ أنني شبهتها بأشد الأماكن حلكةً في كيان إنسان ثم فكرت بأن ظلاماً عميقاً كهذا ليس إلّا داخلاً عذباً مسكوناً بالأسرار و الرغبات و الأطياف. هكذا يغور المرء أعمق و أعمق في ذاته الطيبة. يجابه الحياة العنيدة ثم يعود في نهاية المطاف إلى سكونه الخاص وبقعه الداكنة. نمت في تلك الليلة بعميق متقوقعةً تحت الغطاء وأنا أشعر بحنين كبير إلى كل الأشياء الجميلة التي عرفتها. لقد كانت تلك الغرفةً حجرتي الخاصّة التي سافرتُ ساعاتٍ طويلة حتى أصلها و أكتشف وجودها. 

لاحقاً، بعد أشهرٍ معدودة وقع بين يديّ كتابٌ لكريستينا فرناندث عنوانه: مع أغاثا في اسطنبول ردّني فوراً إلى غرفة الفندق المهجورة، ليس إليها بالتحديد و لكن إلى ذلك الشعور الذي انتابني يومها بأنني مغمورةٌ بالضباب إذ أتنقّل بين غرف رحبة و مضيئة وأعود في نهاية المطاف إلى العتمة. بدت لي كريستينا كما لو أنّها صديقةٌ شاركتني الرحلة وقاسمتني الحجرة المنبوذة. شخصيات كتابها تحتمل عدّة احتمالات فهي إما غريبةً تماماً عن بعضها البعض لكن تؤلّف رواية واحدة، أو هي قصص من الممكن أن تكون لامرأةٍ واحدة عاشتها بكل تقلّباتها. وهكذا أجبرتني هذه الكاتبة على أن أحاورها أكثر من أن أقرأها. وأن أًسائلها كما لو أننا صديقتان نعرف بعضنا منذ مدّة.  كأن الكتاب كلّه يدور حول تلك الليلة المعتمة التي قضيتها وحيدةً في غرفة الفندق، وأنا أشعر أنّ الخارج كلّه مُضاء.

حالما عرفت أن لكريستينا كتاباً آخر قد ترجم حديثاً سارعتُ بالحصول عليه. طبعاً فأنا بحاجة إلى لقاء مع صديقة، وإلى أن ندخل معاً حلقة الضباب الأبيض المنعشة ونتحدث عن الحلم والرغبات والفصول والطبقات التي نتنقّل فيما بينها ونعيشها. كان عنوان كتاب كريستينا الثاني هو: حجرة نونا. وهو أيضاً عن قصصٍ لشخصياتٍ متداخلة كلّ واحدةٍ هي صدى الأخرى. لكلّ راويةٍ منهنّ حجرة مغلقة لا يُسمح بالدخول إليها سوى لكريستينا. ولهذا السبب بالذات كنتُ سعيدةً بصدقاتها، إذ من سيخبرني بما يجري في الحجرات سواها؟ وأخذت أقلّب الكتاب وأتنقّل بينها. جعلتني أنتفض كلّ حين لأقول نعم! هذه تشبه حجرتي، أو لا، لا يمكن أن تكون هذه الحجرة سوى لي. وتخيلتُ نفسي أطرد الشخصيات كلّها وأسرق حجراتها وأنام فيها كما فعلت في غرفة الفندق تلك، متقوقعة على نفسي، حالمة بكل ما يشبهني، راضية بالظلمة التي في داخلي والتي عرفتها كريستينا. 

ليست الحجرات في كتاب كريستينا متشابهة بل لها أشكالٌ عديدة. في إحدى القصص هي قفص، وفي أُخرى هي بيتٌ كامل لا يتسع للجميع. في واحدةٍ منها كانت الحجرة فترةً من العمر علقت البطلة فيها وفي القصة الأخيرة ما كانت إلّأ غابة، مُذهلة ومٌبهرة في غموضها. والجميل أن كلّ القصص مشرّعة وممتدة نحو بعضها البعض كأن كل بطلةٍ وفي نهاية قصتها تمدّ يدها لتتشابك وتتلاقى مع يد البطلة في القصة التالية. أو أن البطلاتِ في ارتباطهنّ سربٌ محلّق. وليس هناك أجمل من التحديق في طيرانهنّ معاً وهنّ يضربن بأجنحتهنّ سكون الهواء. 

أحياناً، حين نُغرم بكاتب ما نتمنى أن نشاهد صورته، أو نسمع صوته، أو نعرف أكثر عن حياته الخاصة، لكنني لم أبحث كثيراً عن كريستينا فنحن كما قلت صديقتين، نعرف بعضنا البعض جيداً، نتقاسم كامرأتين الإحساس ذاته بالأشياء. تنقّلنا معاً بين حجراتٍ عديدة ونمنا هناك بكلّ سلام. لقد رأيتُ كريستينا في غرفة الفندق تلك حتى قبل أن أعرفها. لأنها تشبه الضوء الشحيح القادم من الفسحة في الخارج نحوي. لقد كانت تماماً هناك.  

الكاتب: نغم حيدر

هوامش

موضوعات

...للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع