لم يخطط محمد أبو غيث وقت تفكيره في فيلمٍ يعالجُ الجغرافيا الفلسطينيّة المُركبة ما بين مناطق العيزرية ويطا ورام الله، أن صدفةً ما، ستحولُ اتجاه التفكير إلى موضوع فيلم “سائقو الشيطان” حيث يُحدِثُ لقاءهُ بحمودة رغبةً في تناول موضوع السائقين المُهربين ومعايشاتِهم ويومياتِهم التي يحيطُ بها الخطرُ والترّقب والانتظار، وهو فيلم وثائقيّ من إخراج: دانييل كارسينتي ومحمد أبو غيث، يتناول الفيلم جوانب من حياة حمودة وابن عمه اسماعيل: سائقان يعملان في تهريبِ العمال الفلسطينيين الراغبين في العمل داخل “الخط الأخضر” والذين لا تمنحهم سلطات الاحتلال التصاريح اللازمة للعمل بصورةٍ “قانونيّة”، يعيش حمودة واسماعيل في جنوب الضفة الغربية، يخاطران في عملهم هذا، حيث تتطلّب عملية التهريب الولوج في طريقٍ صحراويّة يتناوبُ على مراقبتها بصورةٍ شبه دائمة دورياتٍ من جيشِ الاحتلالِ الإسرائيلي، إلا أنهما يُخاطران في سبيل إيجاد ما يُعيلان به عائلاتهم.
تُجري “رمّان ثقافيّة” هذه المقابلة مع محمد أبو غيث من مواليد القدس العام 1986 درس علوم الحاسوب في جامعة القدس وعمل مساعد انتاج في شركة “إديومز فيلم” برام الله، انتقل إلى ألمانيا لدراسة إدارة وسائل الإعلام الدوليّة في أكاديميّة “دويتسه فيليه” وتخرج في العام 2015 ومنذ ذلك الوقت يعمل أبو غيث في برلين مراسل تلفزيوني مستقل. أخرج محمد أبو غيث فيلم “سائقو الشيطان” بالشراكة مع دانييل كارسينتي ولقد عُرض الفيلم في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي للوثائقيات، العام 2021 وحاز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة “مهرجان تسالونيكي للأفلام الوثائقية” اليونان 2022.
دعنا نبدأ من العنوان “سائقو الشيطان” والذي يعطي دلالات ربمّا تكون مختلفة عن حقيقة موضوع الفيلم والذي يتناول جوانب من حياة فلسطينيين يبحثان عن وسيلة يعيلان بواسطتها عائلاتهما، لماذا أضفت الشيطان، إلى المهنة المهرّب/ السائق؟ هل المقصود هنا هو إضافة صفة الشيطنة إلى عمل التهريب؟ أم أن هناك دلالات أخرى؟ وإلى أي مدى تعتقد أن الاسم يحمل مضامين الفيلم دون مبالغة؟
حين بدأنا العملَ على الفيلم، كنا نفكر في أن الفيلم سيكون موجهاً إلى الجمهور الفلسطيني والجمهور العربي والعالمي، وهذا لأننا أردنا أن يصل إلى أكبر عدد من المشاهدين حول العالم، المختلفين بطبيعة الحال من حيث قومياتهم وهوياتهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم، والاسم تبعاً لذلك هو اسم قادر على جذبِ المشاهد، كما أنه قادر على إثارة سؤال: لماذا هذا الاسم؟ أو من هم سائقو الشيطان؟ وهذا يعطي الاسم القدرة على الوصول إلى أكبرِ عدد ممكن من المشاهدين، السبب الآخر هو أن الشخصيات في الفيلم: حمودة واسماعيل وعلي جميعهم لم يكونوا راغبين في امتهان هذه المهنة، هم مجبرون عليها لإيجاد مصدر يُعيلون بواسطته عائلاتهم، مثلاً علي يعمل في نفس الشركة التي هدمت بيته، فهم جميعاً داخل دائرة مفرغة من الإكراه والإجبار الدائمين، ولا فرص أمامهم للخروج منها، أنهم الضحايا ومساعدو الجلاد في الوقتِ ذاتِهِ، يعملون في شركاء البناء ذاتها التي تهدم بيوتهم، ويقودون العمال للعمل والبناء في كيانِ العدو، أنها دائرة من الشيطنة الإجبارية.
تسير الوتيرة الإيقاعيّة للفيلم بين قفزاتٍ لإحداثٍ تاريخيّة جوهريّة في السياق الفلسطيني، الانتفاضة الأولى، اتفاقية أوسلو وعودة السلطة إلى قطاع غزة والضفة الغربية، ثم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وبناء جدار الفصل العنصري، ثم الهبة الفلسطينية الثالثة 2015، برأيك كيف يمكن لهذا الاستخدام أن يخلق فهمًا وإداركاً متقدماً لسلوك الفلسطيني بعد كل هذه الأزمات؟ إلى أي مدى يخدم هذا الترتيب قضية الفيلم؟
الُمحرك الأول للتفكيرِ في الفيلم، هو تناول موضوع جدار الفصل العنصري، كان هناك أكثر من فكرة لأفلامٍ مختلفة، واستقرّينا في النهاية على هذه الفكرة، ما جعلنا نقوم بإضافة مقاطع الانميشن التي تعرض مجموعة من المحطات التاريخية الجوهرية، هو أننا في فترة اختبار الفيلم مع عينة عشوائية من المشاهدين في برلين، اكتشفنا أنه ليس لديهم معرفة حول وجود جدار الفصل العنصري، كما أن هناك تضليل إعلامي كبير حول موضوع الجدار، لذلك كانت مقاطع الانميشن توضيح للمشاهد العالمي كيف وصلت الأمور إلى وجود الجدار، وما هو التسلسل التاريخي والسياق الموضوعي الذي جعل العمال الفلسطينيون يعملون بهذه الطريقة، كما أن هذا التسلسل يعطي المشاهد توضحياً لفهم الطريقة التي يتصرف بواسطتها العمال، بمعنى البعد السياسي المسؤول عن تشكّل هذه الطريقة.
ضمن مشاهد كبيرة ومتنوعة لحياة الفلسطيني تحت الاحتلال، القتل، الأسر، المصادرة، والفقدان، ما الذي جعلك تختار هذا الهامش الذي يجنح إلى الواقعية الفلسطينية تحت الاحتلال بصورة مختلفة هذه المرّة عن المشاهد الكلاسيكية التي نشاهد من خلالها حياة الفلسطيني في ظل الاحتلال؟ كيف يمكن أن يعطي هذا الانحياز الواقعي قيمة مضافة لموضوع الفيلم؟
الحقيقة كما قلت في البداية، أن المحرك الأساسي وراء التفكير في الفيلم هو الحديث عن الجدار بصورة أساسية، الجدار فقط لا أكثر ولا أقل، لذلك فإن المُشاهد للفيلم وحتى الدقيقة 30 ربمّا يشعر أنه فيلم روائي وليس فيلم وثائقي، فهو تتبع لحيوات مجموعة من الأشخاص المُشوقين ارتباطاً بطبيعة المهنة التي يعملون بها، فهم سائقو سيارات في طرقٍ وعرة ومحفوفة بالمخاطر، والملاحقات، بعد ذلك يذهب الفيلم بوتيرة توثيقية ليُتيح فرصة التعّرف عن قرب وبطريقةٍ أعمق على تكوين الشخصيات وحيواتها الذاتية وصراعاتها، ولذلك عند إمعان النظر في طبيعة حياة الفلسطيني كما تظهر في الفيلم، نجد شكلاً مغايراً للمعاناة، فهو في حقيقة الأمر يعيش داخل السيارة، لا يستطيع إن أراد وبصورةٍ حرّة أن يتنقل ما بين رام الله ونابلس إلا بواسطة السيارة، لا يُمكنِهُ السير الحرّ بين المناطق، الشعور بالخطر هو الحالة المسيطرة، ما يؤكد ذلك حديث أجريته مع أحد الأشخاص لديه فرع آخر لمحل عمله في نابلس، إلا أنه لا يستطيع أن يذهب هناك لإدارة العمل، يقوم بذلك عبر الاتصالات الهاتفيّة، لقد حوّلت اجراءات الاحتلال المساحات بين المدن إلى مساحاتٍ خطرة، تُشكّل حالة من الخوف لدى الفلسطيني وكأنها مساحات غريبة أو غير فلسطينية، كما يحاول الاحتلال إنهاء حالة الوجود داخل القرى والخرائب، وتكريس وجود الفلسطيني في المدن، ليكون الاحتلال هو المُتحكم في حركة تنقله من مدينةٍ إلى مدينة، هذا هو الواقع الجديد للفلسطيني الذي يعيش داخل السيارة في مدن تفصلها مساحات غير آمنة، محاطة بالخطر والترقب والملاحقة.
يمكننا بعد مشاهدة الفيلم القول: إن صناعة الفيلم لم تكون تصويراً مريحاً لمجموعة من المشاهد بقدر ما كان معايشة حقيقية وربما تكون خطر لتجربة تهريب العمال إلى الأراضي المحتلة، أخبرنا عن هذه المغامرة، على المستوى الشخصي والعام كيف تصفها؟
بالتأكيد هذا صحيح، لم تكنْ تجربة مريحة، حين بدأنا تصوير الفيلم كنا نخطط أنه بالإمكان انجازه بعد عامين، لم نكن نريد أن ينتهي بعد تسعة أعوام، أول عامين كانت تكاليف الانتاج على نفقتي الخاصة إلى أن بحثت على تمويل وحصلت عليه، والمُموّل بطبيعةِ الحال يريد أن ننتهي من الانتاج في وقتٍ قصير، لا يكترث كثيراً بالمتغيرات التي تحصل، يريد أن ينتهي ويحقق الربح، وأنا أفكر في الموضوع والرسائل لتي نريد أن يقولها الفيلم، الأمر الذي دفعني إلى الانفصال عنه، والتفكير في عدم الاستمرار في انتاج الفيلم أحياناً، ثم تحدث متغيرات تدفعنا إلى الاستمرار في مشروع الفيلم مجدداً، في الكثير من الأحيان كنا نذهب إلى التصوير دون أن نكون متأكدين تماماً أننا سنصور شيء، أحياناً تغيب الشخصيات/ العمال ومهربو العمال، عشر أيام دون أن يردوا على الاتصالات المتكررة، ونكتشف أنهم كانوا في أوضاع لا تسمح لهم بالرد على الهواتف، يكونون في ملاحقة ما، أو داخل السجن، آخر ثلاث سنوات من التصوير وحين دخل اسماعيل السجن كان من الصعب جداً والخطير سياسياً استمرار التصوير معه، الأمر الذي كاد يدفعني أحياناً إلى القول: أنه يكفي ما تم تصويره، أو أنه من الممكن التوقف عن الاستمرار في انتاج الفيلم، لم يكن من السهل موضوعياً الاستمرار في انتاج فيلم بهذه الظروف، لكن ذاتياً وكتجربة أولى كان لدى إصرار ورغبة كبيرة في انجاز فيلمي الأول، واثبات القدرة على فعل ذلك، بعد أن خرج اسماعيل من السجن في 2018 أتممت أجراء المقابلة معه وبذلك كانت كافة المقابلات والمواد الازمة لانتاج 90 دقيقة من التصوير قد اكتملت.
بين أبو الخيزران في “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، وحمودة واسماعيل في “سائقو الشيطان”، كيف يمكن لك أن تقارب بين براغماتية أبو الخيرزان وواقعية حمودة واسماعيل؟ إلى من تنحاز وماذا تريد أن تقول؟
لقد قرأت “رجال في الشمس” لغسان كنفاني قديمًا، وأعتقد أن العمل ترك أثراً ما لدي، لكني في الحقيقة حين بدأت في صناعة فيلم “سائقو الشيطان” تركت الشخصيات في الفيلم تعيش حياتها وتواجه مصيرها دون أن يكون لديّ أي تدخلات مقصودة، وهذا يشير إلى أن حكاية الفلسطيني ومن أي وقت تريد أن تنطلق منه لسردها، لا بد أنك سترجع إلى حكاية العام 1948. علي في الفيلم هو ترجمة لحكاية الـ 48 يقول: أن الاحتلال هدم قريتي للمرّة الأولى في الـ 48 ثم أكمل عملية تدميرها بالكامل في الـ 67، ثم نرى مشاهد التهديم والدمار مجدداً في الـ 2017 مرّة ثالثة، هذا يشير إلى أن الواقع لم يختلف كثيراً، هو ذاته ويتكرر، حين كنت في رام الله كان البعض يقول: أن المخرجين الفلسطينيين يعودون في أفلامهم إلى الـ48 وأعتقد أن هذا صحيح، لا بد من العودة إلى الحكاية الأصلية.
أخيراً كيف ترى المكان الفلسطيني بعد التغييرات المعمارية والديمغرافية التي أفرزها وجود الاحتلال الإسرائيلي منذ نكبة العام 1948 إلى اليوم، الخرائب والقرى المتقلصة والتي تعاني مقابل المعمار الأوروبي الحديث والمصطنع، والصحراء بين كونها مركزاً للتأمل والتقاط الأنفاس للفلسطيني المتعب والطريق المحفوفة بالمخاطر التي توصل إلى السجن في طريق التهريب؟ كيف يقدم الفيلم المكان من منظور “المهرب”؟
بالنسبة لي وبشكلٍ شخصيّ لا اعتبر بناء العمارات السكنية المرتفعة شكلاً من أشكال التَحضّر، هذا ما تفعله اسرائيل أنها تصادر مساحات واسعة من الأراضي التي تبني عليها العديد من المستوطنات ومن ثم تجلب إليها سكان من مناطق مختلفة من العالم وتدعي أن هذا كله يمكن أن يكون تحضّراً. أعتبر أن زراعة شجرة تحضّراً وليس تدمير أرض زراعية لبناء تجمع سكاني حداثي، ما فعلته اسرائيل هي أنها أحدثت تدميراً هائلاً في حياة المزارع الفلسطيني، وهذا ما حدث مع علي في الفيلم على سبيل المثال، يمنع الاحتلال الإسرائيلي علي من الدخول إلى أرضهِ وتقوم بمصادرة الأرض، وما يزال هذا التهديد مستمراً إلى اليوم، ما زلت أتابع أخبار علي والعائلات الفلسطينية في القرى، إسرائيل تهدد عشرات القرى في يطا وترغب في تهجير سكانها ومصادرتها، أنه حقيقة التخلّف والهمجية التي لا يمكن أن يغطيها المعمار الحداثي المصطنع والسريع الذي تقيمه اسرائيل في القرى والأراضي الزراعية الفلسطينية، أعتبر أن الحياة الفلسطينية الطبيعية لفلاح فلسطيني يقيم في أرضه ويأكل من خيرها هو الشكل الحقيقي للتحضّر، ما يحدث في فلسطين احتلال أكثر بشاعة مما يحدث في جنوب افريقيا، وهذا ما يحاول الفيلم قوله، طول الوقت أنت تنظر إلى أرضك من خلف زجاج السيارة المتحركة، نظرة ترقب وشعور بالخطر والخوف هذه واحدة من أبشع أشكال الاحتلال، أعتقد أنها فلسفة الفيلم، اسرائيل حوّلت الأراضي الفلسطينية إلى أرضي محرّمة على الفلسطيني، أرض يحتاج إلى أن يجتاز حدود خطرة لكي يدخلها. لكن الفلسطيني المتمثل في الفيلم بعلي يحاول طول الوقت الصمود والبقاء في أرضه، الأرض الطبيعية التي يأكل من خيرها والتي لا يحتاج من يأكل منها زيارة الطبيب على حد قوله، أنها أرض ما قبل قوالب الاسمنت الاسرائيلية الزائفة.