لم يلتفت الكثيرون إلى معنى المكان في دراما وليد سيف وحاتم علي، علماً أنّه من المحاور المركزية في التكوين الإبداعي الدلالي فيها؛ فالمكان في مسلسل “التغريبة الفلسطينية”، مصطنع، بُني على سردية الكاتب نفسه، ووفق المشاهد التي كتبها. وفعل صناعة المكان، بهذه الطريقة، دليل آخر على القدرة الإبداعية التي أسهم فيها هذان الثنائيان؛ حيث أعادا فكرة بيت الفلسطيني قبل النكبة، واستلهما عناصره المعمارية كافة، وفق المرويات، والصورة الفوتوغرافية التي قد نشاهدها قبل مشاهد حلقات التغريبة. تتكون دار الفلسطيني الفلاح البسيط من غرفة واسعة، وعتبة، وساحة صغيرة، وحدّ مكاني يتألف من حجارة متراصة، وهي ما يطلق عليها اسم “السنسال”، وطابون، وبيت (خوم) الدجاج، وبئر ماء.
ولتقريب هذا البيت إلى “المشاهد” اتخذت الكاميرا من دار أبو أحمد نموذجاً تقريبياً، ومتتابعاً لتمثيل هذا المكان، وتعريفه إلى المتلقي، إلا أنّ فعل هذا التقريب، باللقطات القريبة والبعيدة، لم يأت عبثاً، كما أرى، وإنما هو جزء تكميلي لتفسير الأبعاد الدلالية التي يتضمنها المسلسل كله؛ ويمكن أن أستمد قيمة هذا الجزء من المعنى اللغوي لكلمة الدار، فيشير ابن منظور في “لسان العرب” إلى أنّ مفردة الدار مشتقة من الفعل (دور)، وتعني: المكان الذي يحط النّاس فيه رحالهم، وما يُبنى في هذا المكان: دار، والدار: القبيلة أيضاً” (ابن منظور، م4، ص298)، وأشار إلى هذا المعنى أيضاً الناقد الفني جون برجر في كتابه “وجهات في النظر”، حيث يرى أن مفردة “الدار” Home، مُشتقة، ومستمدة من كلمة Komi في الإغريقية، وهي بمعنى (قرية) (برجر، ص80)، والمُلاحظ أن كلا المعنيين يربط الدار بالفضاء العام للمكان، وهو القرية، أو القبيلة، أي أنّ علاقة الجزء مستمدة من الكل، وهذا مهم لتفسير القيمة الدلالية للدار في الفكر الإنساني؛ فالكثيرون عبّروا عن أسطورة الدار وأهميتها في مخيلتنا؛ فهي المسكن، والمأمن، ومكمن الأسرار، ومجمّع الألفة بين الساكنين.
والمعنى الشمولي للدار جعل من دار أبو أحمد “الفضاء التكويني” لتصوير التفاعلات الدرامية التي حدثت في القرية الفلسطينية؛ أي أنّ هذه الدار أسهمت في إنتاج أحداث درامية، ومثّلت “هوية العائلة” الفلسطينية البسيطة، التي تتنقل من مكان إلى آخر؛ سعياً في الحصول على رزقها. ولأنّ من عادات الكثير من القرى وجود النظرة “الآخروية” إلى “الغريب”، فقد كانوا يُعيّبون على هذه العائلة فقدانها إلى نسبها، إلا أنّ الكاتب والمخرج جعلا من دار أبو أحمد نفسها الفضاء الاستدلالي للدفاع عن هوية هذه العائلة، وإظهار أصالة نسبها، من خلال اتخاذ مصطفى السبعاوي من هذه الدار مأواً له من الإنجليز، ليأتلف جسد المُطارد مع هذا المكان، وينتج معنى جديداً لهذه الدراما، ممثلة في الهوية الفعلية لعائلة أبي أحمد؛ فالدار هي المكان الجامع لهذا كله.
كما أسهمت هذه الدار في خلق المشاهد العاطفية بين شخصيات المسلسل؛ ففضاء الدار، ممثلة بعتبة بابها الرئيس، وساحتها، كان المؤسس الفعلي للتقارب الغرامي بين حسن وجميلة؛ فالنظرة الأولى في الفضاء الخارجي أسست لهذا التقارب، إلا أنّ اللقاء الحقيقي نشأ في دار أبو أحمد؛ حيث تقابلا. وحيث سيحدم الصراع بين الأخ الأكبر، أبو صالح، والأخ الصغير، حسن، الذي يُمثّل الشخصية المتمردة على عادات القرية وتقاليدها، فيما يتعلق بالنظر إلى “الآخر” “الغريبة”، فالقصة الغرامية التي خلقها وليد سيف هنا طوّرت أحداث المسلسل، وخلقت أفكاراً متمردة على “الواقع الجامد”، الذي تعيشه القرية، الدار الكبيرة، ليتخذ حاتم علي من الدار الصغيرة، دار أبو أحمد، تمثيل تلك الأفكار، وأساس فاعليتها في الأحداث التالية، التي ستجعل حسن يزداد تمرّداً على ذاته، لاسيما بعد قتل جميلة، متخذا من صراعه مع ذاته وسيلة لخلق ذات جديدة أكثر تمرّداً، تدافع عن أرضها، دارها.
ولأنّ الدار، كما يرى ميرسيا إلياد، “المكان الذي يمكن منه تأسيس العالم” (برجر، ص80)، فقد أسست دار أبو أحمد جزءاً مهماً من أحداث القسم الأول من المسلسل؛ فكانت مأوى النقاشات والحوارات الدالة للأحداث الفاعلة بين العائلة الصغيرة والآخرين، ممن يسكنون خارجها؛ أي أنّ هذه الدار لم تكن مأوى للعائلة فحسب، وإنما كانت الفضاء الأعمق للتعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم، وتبادل الآراء، وإبداء المواقف المختلفة، كما أسست أيضاً لأحداث لاحقة، ستكشف عن قيمة هذه العائلة وأهميتها في القرية، وغيرها من القرى الأخرى. بالإضافة إلى أنها “محور الصراع” بين أبي عايد وأحمد، فالتعبير عن العنف بين الشخصتين بدأ بإحراق إحدى مكونات معالم هذه الدار: الطابون، الذي يُشكل رافداً مهماً من روافد البيت القروي الفلسطيني. يُظهر القسم الأول من المسلسل تحول دار أبو أحمد إلى “معلم رمزي”، يكشف عن “حال” القرية الفلسطينية، بل يُكتفى به، لـ “تصوير” واقعها، وتمثيل هويتها الثقافية؛ فلو أعدنا مشاهدة الحلقات التي صوّرت ذلك الحال، لوجدنا الكم الأكبر من اللقطات أخذت لهذه الدار أكثر من غيرها؛ لأنها، كما أشرتُ، رمز عام للقرية كلها، وارتبطت قيمتها بقيمة ساكنيها، تمثيلياً، فكل الشخصيات التي صنعت الأحداث داخلها، تصنف ضمن الشخصيات المركزية في المسلسل، والتي أسهمت في تكوين معظم أحداثه، وبالتالي، هناك ترابطية بين السكن وساكنيه، لخلق سرديات توافقية بينهما. وهكذا أصبحت الدار المحور الفاعل والمُصوّر لمعالم المشاهد المحيطة بها، مشاهد القسم الأول من المسلسل.