نمر الآن بفترة عصيبة في تاريخ الأمة العربية. هناك تكالب دولي على أشقائنا العرب في فلسطين، وتحليل لسفك دمائهم من قبل القوى الغربية التي تتعامل مع الحدث خارج سياقه التاريخي، وتتصرف وكأنما “إسرائيل” دولة موجودة منذ آلاف السنين في المنطقة، وقد قررت فجأة مجموعة فلسطينية مسلحة الاعتداء عليها من دون سبب. هناك غليان شديد للدم وغضب رهيب في هذه اللحظات، لكن لنفكر للحظة. ما هو الفارق الاجتماعي بيننا وبين هذا الكيان الذي يسمح له النجاح في مساعيه؟ وما علينا فعله للخروج من المساحة المظلمة التي نسميها الوطن العربي اليوم؟
البنية التحتية للمجتمع العربي والديمقراطية
إذا كانت ثورات الربيع العربي فعلاً تعبر عن الإرادة الشعبية للتحول إلى مجتمعات ديمقراطية قائمة على الشفافية، والانتقال السلمي للسلطة، فعلينا أن نبدأ من حجر الأساس للمجتمع “العائلة”. في معظم الأحيان نجد أن هيكلاً صلباً للسلطة يتمثل في الأب الصارم الذي يلعب دور الشرطي في معظم العوائل، وفي العالم العربي هذه السلطة تأتي بتخويل رسمي، وليست فقط كعادات وتقاليد، كما في مجتمعات الشرق الأقصى اليوم، وهنا يمكننا أخذ التجربة اليابانية في محاولة نهوضها من أمة زراعية نظامها السياسي قائم على الإقطاع إلى دولة صناعية “ولو أن محاولاتها الأولية تشوبها الأخطاء”، حيث أنهم أدركوا أنه من أجل إقامة صناعة يحتاجون إلى أيد عاملة معظمها محصورة في الريف، مشغولة في العمل على الأراضي الزراعية التي لا يمكنهم مغادرتها إلا بإذن من صاحب الأرض وأب العائلة. وقد تم فسخ هذا العقد الاجتماعي واستبداله بعقد جديد، منح حريات فردية تسمح للعامل أن يتنقل ويبيع قوة عمله بحرية. وقد مكنتهم هذه الخطوة مع مرور الزمن من تكوين مدن بها سكان قادرون على تشغيل المصانع أولاً، وثانياً من توفير تعليم جماعي بسهولة للشعب لكي يكونون عمالة ماهرة. ورأوا بشكل واضح أن من اللازم تكريس حرية الفرد وتوعيته ليلعب دوره الضروري في بناء الأمة.
وهذا لم يؤد إلى مجتمع ديمقراطي في أول الأمر، ولم يلغي مكانة الأب كرب للأسرة، ولكنه مهد الطريق إلى التحول الديمقراطي بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا أردنا أن نأخذ اليابان كمثال ناجح على التحول الاقتصادي والاجتماعي الذي في نفس الوقت يسمح لها بالاحتفاظ على خصوصياتها الثقافية، علينا أن ننظر إلى تنظيمنا الاجتماعي ونسأل: هل هناك مساحة يستطيع أن يتحرك فيها الطفل أو الرجل أو المرأة بحرية تسمح له باتخاذ قرارات يحترمها المجتمع وفي حالتنا الخاصة الوالدين؟ هل نملي على أطفالنا ما يتوجب عليهم فعله أم نناقشهم في ما هي أفضل طريقة للمضي قدماً ومواجهة المصاعب؟ إذا كانت الإجابة لا، فلا يمكنك أن تتوقع أن يسمعك حاكم أو تأخذ هيئة تشريعية رأيك بجدية، وستكون قد قُتلت الديمقراطية في صالون منزلك.
ما الذي نتحدث عنه عندما نتكلم عن الحرية الفردية؟ المقصود هنا ليس تدمير الفكر الجمعي أو الحكم عليه كشيء غير صالح للحياة العصرية الناجحة، لا. المجموعات تحتاج إلى وعي مشترك يحركها متجسد في القوانين والأعراف الاجتماعية. والقصد من الحرية الفردية في المجتمع هو فتح مساحة ضرورية ليبادر الفرد بطرح الأفكار الجديدة واختبار صحة الأفكار القائمة للتأكد من صلاحها حتى يساهم في المجهود الجماعي الذي يتشكل في هيئة مؤسسات مدنية قوية قائمة على التفاعل المستمر ما بين أعضائها، من دون إقصائهم إذا حصل اختلاف في الرأي أو تعنيفهم، أو تكفيرهم لمجرد التعبير عن آرائهم.
إذا احترم المجتمع أفراده يستطيع كسر حلقة التسلط المفرغة التي تحتاج لتغرس أنيابها في لحم المجتمع انعدام حرية التعبير وأختها الشفافية، ليصبح من المستحيل تكوين مؤسسات شفافة ترسم استراتيجيات تطويرية طويلة الأمد، والتي من خلالها نستطيع التغلب على النرجسية السياسية. فما نبحث عنه هو مجتمع مبني على الاحترام العميق للحريات الفردية والشفافية ولكنه في نفس الوقت عابر للأهواء الشخصية.
وضع الكيان “الإسرائيلي” ومستقبله في المنطقة
لا يمكن لنظام فصل عنصري أن يكون ديمقراطياً لأسباب بديهية، ولكن يوفر في حالة الكيان “الإسرائيلي” مساحة للمستقدَمين اليهود أن يديروا أمورهم بطريقة ديمقراطية إلى حد كبير. وبما أن معظمهم آتين من دول أوروبية جلبوا معهم فنون الإدارة التي تتمتع بها تلك الدول وطبقوها في الكيان “الإسرائيلي” من حيث فصل السلطات والصحافة الحرة “إلى حد كبير”، ومع دعم غربي في اقتناء السلاح وتطويره تمكنوا من كسب الحروب التي دارت ما بيننا، ونتائجها كانت ولازالت كارثية بالنسبة إلى العالم العربي. وبالفعل مع مرور الوقت تمكنت إسرائيل من خلق اقتصاد متقدم في المنطقة قائم بشكل كبير على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومن ثم شركات التكنولوجيا التي تبيع أنظمة تجسسها حول العالم، وذهبت دولة الكيان “الإسرائيلي” بعيداً في تطوير الذكاء الاصطناعي والزراعة المعدلة جينياً. المشاكل وحلولها تتغير مع مرور الزمن ومرونة المجتمع في التغيير السريع هو أكبر عامل في احتمالية استمراره في الازدهار. والآن خلال عام 2023 وصلت الأبحاث في مختبرات الجامعات الإسرائيلية إلى تطوير ذكاء اصطناعي سيصبح مع مرور الزمن من الصعب عند التعامل معه معرفة إذا كنت تتعامل مع إنسان أم آلة. أضف إلى ذلك التقدم المهول في علوم الطب الحيوي الموجودة هناك أيضاً، وإذا أخذنا عدد العلماء والمهندسين، والفنيين مقارنة بعدد السكان هو الأعلى في العالم وتتفوق فيه حتى على الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا نظرنا إلى الوضع الحالي “للعالم العربي ضد إسرائيل” بهذه العدسة سنجد أن الوصول إلى الديمقراطية والكرامة الفردية للإنسان العربي هما مجرد حجر أساس، والذي علينا منه الانطلاق لمواكبة الركب العالمي في التقدم وترسيخ لغتنا وهويتنا في العالم الرقمي، لنحجز أحد المقاعد القليلة المتبقية في المستقبل القريب. وفي قراءة التاريخ نجد أمثلة مرعبة عن شعوب أُبيدت بالكامل تقريباً كما حدث للهنود الحمر في أمريكا الشمالية. البعض في العالم العربي لا يعتقد أن ما يحدث الآن يرتقي إلى هذا المستوى، ولكن هو بالفعل كذلك، فالأطفال والنساء الذين يتم تبرير قتلهم من قبل العالم الغربي في غزة، ليسوا فضائيين آتين من عالم آخر بل هم عرب يحملون دمك وثقافتك، ومن الممكن تماماً محو وجودهم من فلسطين كما حدث للهنود الحمر في أمريكا الشمالية.
ومن الصحيح أن دولة الكيان “الإسرائيلي” تتلقى دعما اقتصاديا وعسكريا من القوى الغربية بحجة التوبة من أهوال المحرقة، ولكن هي بالتأكيد ليست عدوا لا يقهر أو أمة شعبها مختار من الله كما يزعمون، وإذا الأحداث الأخيرة تقول أي شيء هو أنها هشة وعرضة للانهيار من قبل أحزاب مسلحة، ناهيك عن جيوش مبنية ومدربة على صدها ومحاربتها. من جانبنا علينا العمل على تجاوزها ككيان سياسي، ومن ثم التفكير في مستقبل سكانها من بعد ذلك.