نحن الفلسطينيين لا نرغب بالاعتراف بما آلت إليه أوضاعنا، فقد عشقنا سياسة النعامة حتى الإدمان. لا نريد أن ننظر في المرآة بشكل دقيق لأن التفاصيل تعكس ما لا نرغب برؤيته! 23 عاماً من السراب والوهم الكاذب، من الوعود الخاوية، من حلم “الدولة المستقلة” من الاقتراب، دون الوصول، من تحقيق “المشروع الوطني الفلسطيني” دائم الانزلاق، و”القدس على مرمى حجر”. فقط إذا “صبرنا” قليلاً ورضينا بما يقدم لنا وأبدينا بعض المرونة.
ولكن، ما أُخذ منا لا يقبله أي شعب يتحلى بقليل من الوضوح في الرؤية السياسية يتم التعبير عنها من خلال قيادات تتميز بالعطاء، التواضع، التضحية، المواقف المبدئية، وقيادة النضال. 23 عاماً كانت كفيلة ببناء بيوت من الرمال أسميناها “مؤسسات”! وأصبحنا نفرح لرؤية علمنا يرفرف مع أعلام دولٍ أخرى، ونغني سلامنا الوطني، والدموع تترقرق في أعيننا، وأصبح لدينا حكومتين ووزراء ومستشارين ومجتمعات مدنية وقوى أمنية، وجيوش من الطلاب الجامعيين، ولم يتبق إلا موافقة “الطرف الاسرائيلي” على إطلاق كلمة فلسطين على تلك البقعة من الأرض التي احتلها عام 1967، أو على جزء منها.
وتتوالى الصفعات…
فنحن نعلم كل ما قيل، ولكن لا نريد أن نصدق. وما قيل، وسيقال، لا يمكن فصله بأي شكل من الأشكال عن كل التراكمات الأوسلوية المغرقة في قبحها، تلك التراكمات التي أوصلتنا الى هذا الشعور الغريب الذي نشعر به الآن، شعور بالاغتراب الجماعي والفردي.
ولكن كيف وصلنا الى هذه اللحظة؟
عندما يصبح الطالب الجامعي عاجزاً عن كتابة جملة واحدة بلغة عربية سليمة، عندما لا يميز بين حرفي الطاء والتاء، والضاد والدال، ويصبح الجهل مستشرياً في المجال الأكاديمي والعلمي، فإن ذلك كله محصلة عقدين من التردي في شتى المناحي السياسية والثقافية والعلمية، حيث التركيز على أعداد الخريجين من دون أي التفاتٍ لمستوى التعليم وجودته، إذ تمنح المؤهلات العلمية مع أمل أن يتم توظيف الخريج إما في مؤسسة أهلية مدعومة من الغرب، أو في مؤسسة أمنية، مدعومة من الغرب أيضا..!
23 عاماً من الخداع والأكاذيب، بالإضافة للاحتلال والأبارتهيد، قادت إلى سلطة، أو اثنتين، تملك ما يشبه المؤسسات والوزارات، مع قناعة تامة للمسؤول أنه حصل على منصبه عن جدارة واستحقاق!
نحن أبناء الهزيمة (أوسلو)!
نرغب في تحقيق أي شكل من أشكال الانتصارات خاوية المضمون. ألا نملك عدداً كبيراً من حملة الدكتوراه، وحتى أولئك الذين لا يحملون تلك الدرجة، يصرون على حمل اللقب فارغ المضمون! أي إنجازٍ شكليٍ يشعرنا بأننا نستطيع أن ننافس العالم، وبالذات الغرب، وأننا، كالغرب أيضاً، أذكياء وأصحاب علم. بل أننا أكثر شعب متعلم في العالم وبيننا من يحمل شهادات عليا أكثر من أي دولة غربية! هي حالة مستعصية من الإنكار الجماعي وتعبير عن هزيمة داخلية جملت صورتنا المعكوسة في المرآة بطريقة مبالغ بها.
إن تحرير العقل مقدمة ضرورية لتحرير الأرض!
وعليه، فإن المهام المنوطة بنا هي العمل على تغيير الوعي (الأوسلوي) الذي أدى إلى سيطرة ثنائية “وطنية” إقصائية عملت على خلق، بل فرض، منطق موحد لدى المجموعتين السّكانيتين في الضفة وغزة، منطق عمل على محاصرة المقاومة الإبداعية من خلال إما احتوائها والسيطرة عليها لتعكس توجه انهزامي تطبيعي، أو نفيها من خلال التعالي عليها و إقصائها بالكامل. في كلا الحالتين يتم فرض أنماط تفكير غير ديمقراطية مبنية على فصل الوعي الفلسطيني المستعمَر عن الواقع (السياسي) المعيش: في الحالة الأولى يتم التركيز على رموز الاستقلال بشكل ديماغوجي مكرر يعتبر أن خلق مؤسسات “الدولة” بتمويل غربي هو الإنجاز الوطني الأكبر. وفي الحالة الثانية تصبح المقاومة الموسمية الدفاعية، أو المؤجلة، محصورة في شكل إقصائي واحد لا يمكن أن يؤدي إلى إنهاء أشكال الاضطهاد الصهيوني المركب، مع اختلاق انتصارات وهمية لدرجة اعتبار سجن غزة منطقة “محررة”! في كلا الحالتين يصبح الواقع المعيش انعكاساً ميكانيكياً لأفكار يمينية إقصائية، وهذا بدوره يؤدي إلى منطق “انهزامي” جديد ما هو إلا عبادة عمياء لفكرة خيالية لا علاقة لها بالواقع النابع عن استعمار استيطاني عنصري.
وهنا تكمن أهمية حملة المقاطعة وعدم الاستثمار وفرض عقوبات على إسرائيل (البي دي أس)، من حيث كونها، كما قال الخبير الفلسطيني سلمان أبو ستة: “إحدى أهم سفن الإنقاذ الفلسطينية” فهي تعبر عن نقيض هذا المنطق الأوسلوي الاستسلامي. هي انتفاضتنا الأممية، ذات القيادة الفلسطينية، التي تسعى إلى تخطي الوضع الاضطهادي الراهن سعياً لتحقيق الحرية والعدالة والمساواة.