لا تغيب فلسطين كثيراً عن بعض الأجواء الثقافية في فرنسا، حيث يسعى سنوياً العديد من المهتمين والمتضامنين مع قضية الشعب الفلسطيني من الفرنسيين إلى تنظيم فعاليات ثقافية وفنية، يقدم النشطاء القائمين عليها مع شركائهم من الفلسطينين نظرة ما عن الواقع الفلسطيني محاولين الإطلالة عليه للفت أنظار الفرنسيين إلى القضية الفلسطينية ومأساتهم التاريخية، من دعوات المقاطعة لكل المنتجات الإسرائيلية في الأسواق الفرنسية إلى التعريف الثقافي بالشخصية الفلسطينية الثائرة والمطالبة بحقها في الأرض وانتزاع اعتراف عالمي بمشروعية هذا الحق.
مؤخراً قامت جمعية “منظمة التعاون الفرنسي الفلسطيني” بتنظيم أسبوع السينما الفلسطينية في مدينة نانت، تحت اسم “فلسطين – ماوراء الصور” من 10 وحتى 17 كانون الثاني/ يناير، في محاولة منها للتعريف بالثقافة الفلسطينية وإنتاجاتها السينمائية المعاصرة، رغم قلة الإنتاج وجودته العالية، كما ذُكر في النشرة التعريفية للأسبوع السينمائي.
تمنح هذه الأفلام فرصة للمتفرج بتكوين نظرة مختلفة عن السائد والنمطي حول القضية الفلسطينية، وإن كان للسينما المقدرة على أن تروي حكاية الشعب والأرض والثقافة وتحاكيها بطريقة تمس من خلالها الجميع على اختلافهم. كما أن مناقشة التجارب السينمائية المعروضة ستساهم في محاولة فهم الوضع الاجتماعي في فلسطين والمتأثر بالخط السياسي لمتغيرات أصابت الأرض ومتراكمة منذ النكبة.
افتتح الأسبوع السينمائي بالعرض الرسمي لفيلم المخرجة الفلسطينية مي مصري “3000 ليلة” والذي يُعرض لأول مرة خلال جولة الفيلم على دور السينما الفرنسية. ليكون ضمن ثمانية أفلام فلسطينية منها ما قد عُرض سابقًا في فرنسا ومنها ما يُعرض للمرة الأولى. تتعدد أنواع الأفلام بين الروائي والوثائقي وأفلام الأنيميشن.
ومن أهم الأسماء الوادردة في قائمة العرض فيلم “المطلوبون الـ 18” (2014) إخراج بول كوان وعامر شوملي، وهو فيلم أنيميشن وثائقي، يحكي عن ثماني عشرة بقرة اشتراها أهل بلدة بيت ساحور، في خطة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية خلال أحداث الانتفاضة الأولى، لتشكل هذه البقرات تهديداً فعلياً للاحتلال الإسرائيلي.
الفيلم الوثائقي ” لقاء مع أرض مفقودة ” (2013) للمخرجة الفرنسية الفلسطينية ماريز غرغور، تروي فيه سيدة فرنسية من عائلة بورو سكنت فلسطين بين عامي 1928 – 1952 حيث ولدت وعاشت لفترة من حياتها في يافا، تُعنى المخرجة بالجانب التاريخي للحكاية التي تتمفصل حول مراحل دقيقة من التاريخ الفلسطيني الذي ترويه السيدة إلى جانب فرنسيين أخرين ولدوا وعاشوا في فلسطين، لتتشارك المخرجة المنحدرة من مدينة يافا أيضاً مع أبطال فيلمها صورة ما عن الأرض المفقودة.
وفيلم “جيرافادا” (2013) للمخرج راني مصالحة. يتناول الفيلم حكاية طفل في العاشرة يحاول إنقاذ زرافتين في حديقة الحيوان بمدينة قلقيلية، حيث يعمل والده طبيباً بيطرياً. تُقتل إحدى الزرافات خلال غارة جوية، ويحاول مع والده إنقاذ الأخرى.
أمّا فيلم المهرجان والأحدث زمنياً بين الأفلام المتبقية كان 3000″ ليلة” (2015) الذي حظي بحضور وإعجاب كبيرين. فتطل عبره ليال من أكثر بقاع العالم سواداً وظلماً، بدخولها أحد المعتقلات الإسرائيلية في مدينة نابلس عام 1980، وقد اتهمت بمساعدة طفل فلسطيني رمى حجارة على ضباط شرطة، لتطل معها المخرجة الفلسطينية مي مصري في فيلمها الروائي الأول والذي لم يبتعد عن الوثائقي الذي مارسته لسنوات ماضية في تجارب سينمائية جمعتها مع أطفال ونساء فلسطينين في بيروت. هي التي اعتادت متابعة تفاصيل الواقع وتراكيبه، لتصوّر في الفيلم حكاية النساء المعتقلات وتوثق من خلاله أول إضراب نسائي في سجن إسرائيلي استطاعت من خلاله النسوة أن تقاوم رغم صعوبة ما يجري لهنّ والضغوطات المفروضة عليهنّ.
ولادة في السجن، هي الحادثة الأهم بعد الإضراب في الفيلم والتي تحمل مع تفاصيل أخرى عبء حياة ليال في سجنها، وبقائها وحيدة تواجه الأمومة في غير محلها وخارج سياقها الطبيعي. يتغير حال ليال تباعاً حسب انخراطها مع البقية، وبعد أن واجهت شكوكاً وظنوناً حول تعاملها مع الإسرائيليات ووجودها كجاسوسة بينهنّ. سلسلة مأزومة من التجارب داخل أضيق مكان ممكن أن يمر عليك. إلى أن يأتي نور، الاسم الذي تطلقه على ابنها وقد بات شريكاً وسجيناً أخراً مع مجموعة النساء، سرعان ما يتغير معه حال المكان والشخوص فيبدو وكأنه إنفراج ما يحلق في فضاء السجن تراه في العيون والضحكات.
كلما كبر نور كلما ضعف قلب الأم إثر الضغط الممارس عليها من قبل السجانات الإسرائيليات اللواتي يردن حياكة مؤامرة معها ضد السجينات الفلسطينيات. هذه الأجواء تنقل أجزاء من حكاية سجن وظلم يعانيها شعبٌ بأكمله. ليجد المرء نفسه قد وضع في فضاء تغلب العبثية على كل محاولة فيه لتمرير الوقت، فتتحرك الأحداث بثقل الضغط الذي يطفو على وجه ليال ووجعها من لحظة إجبارها على التخلي عن ابنها وما جاء قبلها من سفر زوجها وعلاقة متوترة مع الأُخريات، تمر ضمن قانون التعذيب المفتوح على كل محاولة أو تجربة تواصل مع الخارج أو الآخر، وصولاً لتوثيق الفيلم لقرار إفراج عن البعض كان نتيجة الإضراب، انتهاءً ببقاء ليال وحيدة تنتظر أن تمر سنوات حكمها الثمانية. هناك حيث لا شيء إلاّ الهواء والمطر يمكن الإستجارة به.
يقدّم الفيلم في ما يقارب ساعتين حالة الترقب التي تعرض من خلالها مي مصري تجربتها الروائية الأولى التي تقول الكثير حول ثماني سنوات تطبع القلب بالأسى، فكيف بالحديث عن تسع وستين سنة من نضالٍ يترقب لحظة إفراج أرض يُمحى تاريخها باحتلال يدبغ حكاية الأرض والشعب بالسواد!