قنّاص
يهمسُ القنّاص في أُذنِ الرصاصةِ فيضَ لعنتهِ،
يُمسّدُ ظهرَها العاري
يُكفكفُ فضّةَ الأفقِ التي انسكبَت
على وهجِ النحاس، يُزيلُ دمعتَهُ النديّة.
يَنتَقي مِن بينِ آياتِ البلادِ رسولةً
كانَ الرصيفُ صلاةَ خُطوَتِها
وركعَتَها الأخيرةَ قبلَ بابِ البيتِ.
يغرسُ بينَ أضلُعِها
بُذورَ المعدنِ المصقول،
يَثقبُ قلبَها لهبٌ، مدرّبةٌ رصاصتُه
على البوحِ بكلّ ضغائنِ الروحِ،
بكلّ حِرابها
وضبابها
وركام غايتِها الخراب.
……..
يهمسُ القنّاصُ في أُذنِ الرصاصةِ نصفَ بَسملَةٍ،
يكسرُ نصفَها الثاني،
يُصيبُ صلاتَنا بالكفر.
فسحة
جثثاً نكونُ إذا لم يذرفِ القبرُ في أنفاسِنا وجعَ السؤال،
جثثاً نكونُ إذا ظلّ الجوابُ رهنَ هذا الغيبِ،
رهنَ السماءِ أو رهنَ المقبرة،
فاترك لنا -حينَ ترخي ظلَّك في وقتِنا- يا نبيّ الهاوية،
فسحةً مِن ترابٍ أوسَع من القبرِ قليلاً،
أعمَقُ مِن شَهقةِ الموتِ،
نَزرعُ في حُضنِها مَنيّ حلمٍ صغيرٍ
أو نَزرعُ الذكريات.
واترك لنا حينَ تَسحبُ ظلّكَ مِن وقتِنا،
غيمةً واحدةً أنقى من حدقةِ العينِ قليلاً،
أعلى من سماءٍ صافية،
نكتبُ فوقَها سِفرَ الذهابِ إلى أفقِ الحياة.
فاترك لنا فسحةً مِن ترابٍ أوسعُ من القبرِ قليلاً،
لا لشيءٍ،
لا لشيءٍ غير شهية صبحٍ جديد.
جثثاً نكونُ إذا لم يذرفِ القبرُ في أنفاسِنا وجعَ السؤال.
جثثاً نكونُ إذا ظلّ الجوابُ رهنَ هذا الغيبِ،
رهنَ السماءِ أو رهنَ المقبرة.
جثثاً نكونُ إذا أفلَتَت من وقتِنا
شهيّة صبحٍ جديد.
جوع
يا أُمّنا الله،
أنجبيني اليومَ كما أنجبتِني من قبلُ.
أنجبيني الآنَ لا دليلَ ولا نبيّا،
لا كاهناً، لا رسولاً أو غفور.
أنجبيني وليَكُن في بلادي صليبي، قبرَ هذا الحصار.
شاهقاً قدرَ جوعي، واضحاً مثلَ فجرٍ لا يَخيب،
وقريباً مثلَ خفقَةِ قلبي من ضُلوعي.
أنجبيني،
وليَكُن خُبزاً في بلادي جسميَ المَغدور.
الشجرة التي تصير
شجرةُ التوتِ التي عندَ بابِ البيتِ،
أمسكَت يديّ وهي تَمضي صوبَ مِدفأةِ الحَطبِ وقالت:
– كنتُ أسرقُ ظلّكَ دونَ أن تَنتَبه،
والآن إلى الجمرِ أسيرُ
فحدّق بظلّكَ
تُبصرُ الشجرةَ التي تَصيرُ.
جراح الغيمة
ليست وطناً، بلادٌ تتجنّبُ الغوصَ في وحلِها،
إنها وقتك المكسور في الانتظار،
لحظة تمتدّ من آخرِ طعنةٍ حتى انكسارِ النصل.
والطريقُ الذي لا يعضّ قدمَيك، ليسَ دربك،
رصيفُهُ هامشٌ يَكفي لتَدوينِ الملاحظة: “لن أعودَ مِن هُنا”.
ما كنتَ يوماً عاشقاً يا صاحبي
لو لَم تظنّها قُبلاً، جراح الغيمةِ في قلبكَ.
انتظار
في السجنِ نوافذُ قليلةٌ،
لا تَغمزُ للشمسِ ولا تُطلُّ على شَجَر،
لكنّها تُذكّرُ السجناءَ
أنّ حلماً خلفَ هذا الجدارِ
وحبيبةً تَنتَظر.
في السجنِ أبوابُ كثيرةٌ
لا مِقبضَ لها، لا تُفتَحُ على زقاقٍ أو حديقةٍ،
كلّ سجينٍ واثقٌ أنّ خلفَ هذهِ الأبواب
ساعدَينِ جاهزَينِ للعناقِ
وقلباً على أُهبةِ الوَثبِ ما إن تَنفَتِح.
وفي السجنِ
يَحدثُ أن يخلفَ الوقتُ وعداً ويراكمَ المراثي،
فلا تَصدقُ نافذةٌ ولا يُفتحُ بابٌ،
تَبكي الحَبيبَةُ حينَ تَبغَتُها الجنازَةُ
وتَظَلُّ فاتِحَةً ذراعَيها
واثقةً أنّ عاشقها خلفَ بابِ السجنِ يَنتَظِرُ،
مِثلها يَنتَظِر.
خلاخل
وكنتُ أظن خطايَ تتوبُ إلى الدربِ
حتى وجدتُ خطاكِ
فتابَت إليها الدروبُ وتبتُ.
وكنتُ أحدّقُ في الغيمِ بحثاً عن الماءِ
حتى وجدتُ رنينَ المعاولِ يصرخُ بي فامتثلتُ.
حملتُ على ظهريَ المتقوّسِ كلّ الينابيع
كي تشربَ الأفقَ،
حين الغمامُ يضنُّ عليَ بدمعتهِ،
وبئراً تتوبُ إليها الظباءُ حفرتُ.
فهل كانت البئرُ إلّا صدى خفقةِ البوحِ من شفتيكِ
وهل يشربُ النبعُ غيرَ رنين الخلاخلِ في قدميكِ؟
نوم
حملَت فَراشتَها إلى النومِ الذي خَشيَت
ولَم يأتِ الصباح.
حملَت إلى نومٍ يُغافِلُ رمشها العالي،
مناماتٍ
وطائرةَ الورق،
لَم يأتِها وَحيٌّ ولا غمزَت للُعبتِها الرياح.
كانت تُخبّئ وردةً في جَيبِها،
وتلمّ أوراقَ الحبق.
كانت تُطرّز ليلَها نجماً وتَلبسهُ وِشاح.
نامَت وفي يدِها خيوطُ الحلمِ،
مفتاحُ الأفق،
كراسُ رسمٍ، دميةٌ والوقتُ مكسور الجناح.
فتعثّرت شمسُ الغدِ
وتلعثمَت فيها الطُرُق،
حملَت أراجيحاً إلى النومِ الذي خشيَت
ولَم يأتِ الصباح.
…………………
نجمةٌ كانت تُراقبُ نومَها والمنامَ.
نجمةٌ سقطَت على خدّ اليمامَة،
حينَ لَم تعثُر على عينَيها شمسٌ.
نجمةٌ…
نجمتانِ صارَ دمعهُما غمامَ.