هي ليست مجرد رواية حقيقية صادمة تشكل شاهداً لاذعاً على قتل الحياة تحت التعذيب في سجون الرأي لدى الأنظمة الدكتاتورية، وخاصة هناك تحت الأرض في زنازين دمشق، وليست أيضاً مجرد الرواية التي نالت جائزة المزرعة التي تشرف عليها رابطة الكتاب السوريين الأحرار التي انبثقت بعد الثورة، وهي أيضاً ليست مجرد سرد وأحداث ولغة كعادة الروايات، قهوة الجنرال هي مزيج معقد من أوراح، وصراخ، وعفونة، ومواء، تلتف حول رقبتك منذ صفحاتها الأولى لتجعلك سجينها الأوحد، ولتبدأ بممارسة تعذيبك بكل لغات التعذيب البشري.
يعذبك غسان جباعي بالشعر الكثيف المتراكم بين الجمل الوعرة المدببة، الجمل التي تتراكض لتستقر في قلبك وتحشو شراينك بالدهشة والسؤال، وليصل طعمها إلى فمك تاركاً فيه مزيجاً من العجز والخذلان، مزيجاً من أشلاء أحلام، ومن مرارة عميقة، كما بعذبك غسان أيضاً بالوقوف المسرحي المهيب في المسافة القاتلة بين النور والظل، لتجد ظلك في قاتلك، ولتجد قاتلك ينام في جسدك الذي يتحرر منك في نهاية الرواية ويذهب إليه.
يعذبك بالعتمة الطافحة بالأنوثة المكسورة، بالضوء الطاعن بالذكورة العرجاء ثم يعلقك على سلمه المسرحي لتعيش حالة الشبح التي يعيشها كل معتقل سياسي في بلاد تطعمك خبزها المعجون بالشيح والصبار.
من الرشفة الأولى من «قهوة الجنرال» يمسك غسان بنا متلبسين بخوفنا وبهشاشتنا، ولا يتركنا، بل على العكس نظل نلاحقه علنا نجد بعضاً آخر منا، وهو بدهاء الروائي والمخرج المسرحي يتركنا نتأرجح بين سرد يروي بطريقة غريبة وجديدة عشر سنوات من حياة بطلها ربيع، حياته التي اقتلعها منه جنرال الأسى كما سماه وجعلها تعيش دائماً بعيدة عنه، حياته التي كانت تعيش بملح دموع أمه التي أمضت عشر سنين تتنتظره والتي أصيبت بجلطة دماغية ساعة عودته، وحياته التي كانت تموت بجانبه في المعتقل مثلما كانت تموت في عيني زوجة ربيع التي كان عليها أن تدفع نصيبها كاملاً من القهر والانتظار والذل وبعدها من التحول الجارح إلى زوجة سجين سياسي متهم بالخيانة تشحذ قوت أطفالها وتشحذ ضمان استمرار حياته وحلم خروجه يوماً من جيوب ضباط السجن بلحم أنوثتها الشهي، وبين مسرح كامل خلقه الكاتب فينا لنصير نحن الجمهور الذي يطلق عليه الرصاص من فوهات تجربته المحشوة بديناميت ونحن الفئران ذات العيون البراقة التي تملأ كل زوايا الزنزانة، ونحن أيضاً القطط التي كانت تراقب مشاهد الحب والجنس بينه وبين عروسه وبينه وبين المرأة التي تؤجره نفسها بعد خروجه من السجن، وليصير البطل ربيع هو الممثل الوحيد في الصالة التي هي الزنازنة لمدة عشر سنوات كاملة وهي الوطن بكل حدوده الجغرافية والفكرية والعقائدية وهي خوفنا من الطاغية القائد الواحد إلى الأبد للحزب الواحد ولملايين الجواسيس، وهي أيضاً العلاقة بين الرجل والمرأة في بلاد تأكل قلوب ناسها وترمي عليهم اسمها وعلمها وشعارات المقاومة والممناعة والقومية العربية الرنانة.
في «قهوة الجنرال» يلتقي ربيع، الخارج من عشر سنوات من السجن السياسي بقدم مبتورة وروح مثقوبة بأعقاب السجائر، مع امرأة كانت قد قبضت 500 ليرة سورية مقابل أن تهب هذا الخارج من السجن ليلة يحاول فيها العودة للتعرف على نفسه فيها من جديد، في فندق رخيص، وهنا تكون الذروة الدرامية لهذه الرواية الممسرحة والمكتوبة شعراً، اذ يتعرف كل منهما على الآخر ويكتشفان أنهما الزوجان اللذان جمعهما عشق أو رغبات قبل أحد عشر عاماً وجمعهما طفل كان لم يكمل الشهرين حين اقتادوا والده إلى ما تحت الأرض، هنا نكتشف نحن سجناء هذه الرواية حجم الخراب وعمق الهاوية التي يعيشها الإنسان في بلاد القمع والذعر، هنا نكتشف كيف لن ينجو أحد من مجزرة اعدام الانسانية فينا مثلما لم ينجُ أحد من سجناء صيدنايا ساعة المجزرة.
لم يخرج غسان جباعي في روايته من سجنه فقد كان حبيس كل ذلك الفقد الهائل الذي نما في عشر سنوات كالعليق على ما بقي فيه من شجر، وأراد أيضاً أن يُدخل قارءه كاملاً إلى سجنه لعل أرواحنا تحبل ببذور ثورة ما بعد كل هذا الحرث فيها.
حاول غسان في «قهوة الجنرال» أن يضع كل ما خزّن من لغة ومسرح وشعر وتجربة في روايته، لذا فقد جاءت مختلفة وشائكة، لكن طعمها سيبقى تحت اللسان لفترات طويلة، كما حاول أن يفرغ قليلا من النار التي لم يزل يعيشها إلى نار على الورق، لذا فهو عبور من نار إلى نار بأصابع ملذوعة حكمت على قارئها بالاحتراق المؤبد، لكنه أيضاً وقع في بعض التقريرية التي حاول تغليفها بما قبلها وبعدها من تخيل ومن صور مدهشة في طريقة الكتابة تلسع الروح، لذا فقد جاءت مغايرة للشكل النمطي لأدب السجون، متميزة بكثافتها وبلعبتها السردية، وبتقنيات المسرح المضافة كاملة فيها، وبعلو لغتها الذي قد يوصلك إلى السماء السابعة، لكنها رواية حادة، وبرغم سرياليتها فهي حقيقية، إلى درجة تجعلك تتذوق مرارتها كاملةً.