مذ وعينا ذواتنا، كنا نمر دائماً بقصائد درويش كي نتعرف على أنفسنا أكثر، وكنا نجده دائماً على ضفة ذاك النهر الذي نعبر به إلى ضفتنا الثانية، نجده واقفاً يقول لنا أننا نحن في مرايا الآخر دائماً أجمل، وأننا حقيقيون يقدّر أخطاءنا، بقدر تجارب الحب التي أحببناه فيها، بقدر ما ناضلنا لأجمل معتقدات قابلة دائماً للتغير، وبقدر ما كتبنا عن فلسطين التي كانت تعيش بين الأصابع، وفلسطين التي ستبقى تعيش بين الأصابع.
وكنا نعرف أننا سنلتقي بقصائد درويش في كل زاوية من دمشق، من عمان، من القاهرة، لكننا لم نكن نتوقع أن تكون كتب درويش المترجمة للإسبانية، هي أكثر الكتب المترجمة التي تداولتها الناس في يوم الكتاب والحب في إسبانيا.
فهنا، في إسبانيا، في بلد الكمنجات التي تبكي على الراحلين من الأندلس، تحتفي البلاد بيوم الثالث والعشرين من نيسان الذي تحول ليوم الكتاب العالمي، وذلك لأنه يوم وفاة كاتب إسبانيا الأكبر سرفانتس ويوم وفاة كاتب البشرية شكسبير ولعل من سخرية القدر أن يرحل كلا العملاقين في نفس اليوم تاركين للبشرية ما يغني روحها وما يعرّفها على نفسها، وعلى تناقضاتها، ونوازعها، وما يعيد إنتاج الإنسان بجماله وحقيقته، ويصبح يوم رحيلهما يوم ولادة للكتاب.
وتضيف إسبانيا طعماً آخر لهذا اليوم إذ أن مقاطعة كاتالونيا تحتفل بنفس هذا اليوم بعيد الحب، فلا ينفصل يوم الحب عن يوم الكتاب، معتبرة أن أهم وأجمل دافع للكتابة هو الحب، وأن أهم وأجمل ما كتبته البشرية كان عن الحب، ومؤكدة أن الحب وحده هو ذاك السحر البشري الذي وجد مذ وجدت البشرية، ولا يزول طالما هي موجودة، لذا تكون الورود في هذا اليوم حاضرة مثلما تكون الكتب، وهكذا يهدي العاشق عشيقه وردة تعبر عن ولعه به وكتاباً يختاره له كي يقول الكتاب ما لم يستطع هو أن يقول ليتحول الاحتفال لطقس غريب، وطاعن بالجمال والعذوبة.
هذا العام، في يوم الكتاب والحب هذا، انتشرت الكتب والورود في كل شوارع برشلونة، مشكّلة معرضاً مدهشاً في الهواء الطلق، وبكل الزوايا والحارات، كما أقيمت فعاليات كثيرة ومتنوعة، فمنها أمسيات شعرية في فضاء مفتوح، وحلقات نقد في الساحات الكبيرة، وأناس يعيدون إلقاء قصائد لوركا بصوت عال في إحدى الحدائق، وهناك صبية كانت تلقي قصائدها من شرفة عالية، وتتجمع الناس تحت الشرفة لتستمع لها.
ويأتي معرض الكتاب بعد تاريخ وفاة الكاتب الكبير غارسيا ماركيز بفترة بسيطة، وهو الكاتب اللاتيني الذي قرأه الشعب الإسباني بشغف، والذي سكن إسبانيا طويلًا فسكنته شمسها، لذا فقد تحول جزء من معرض الكتاب إلى احتفاء سنوي به، حيث أعيدت طباعة كميات مذهلة من كتبه لتباع تقريباً بالكامل في هذا اليوم، كما أعيدت طباعة الكثير من أعمال الكتاب المشهورين الذين كتبوا بالإسبانية مثل كويلو وبارغاس يوسا واللندي ولوركا وماتشادو… كما أقيمت أيضاً عدة حفلات لتوقيع كتب صادرة حديثاً، مع طقس احتفالي كرنفالي من الورود المرافقة لكل كتاب يباع.
لكن الذي شد قلبي من شعره، وجعله يسبقني، هو عدد كتب محمود درويش المترجمة التي كانت تملأ واجهات المكتبات، والتي كانت تتنقل بين أيادي الناس بكل خفة كأنها تطير، فمن “أثر الفراشة”، مرورا بـ “كزهر اللوز أو أبعد”، إلى “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي”، وإلى “الجدارية” التي تصلبك على جدار دمك وحياتك وأحلامك والتي كانت مكتوبة بالإسبانية، ومعلقة على جدار في غاليري لعرض اللوحات والكتب، وقد كان الأكثر دهشة وحفراً في القلب، هي عبارات درويش المترجمة التي طبعت بخط كبير ولون أحمر وألصقت على واجهات المكتبات، تلك العبارات التي كُتبت عن الحب كما لم يكتب أحد، تلك المقاطع من القصائد التي حين نقرأها، تدخل روحنا، ولا تخرج، فما أجمل أن تجد عبارة “هو الحب كذبتنا الصادقة”، وأن يباغتك مقطع مثل “خسرنا ولم يربح الحب شيئاً”، وأن يجعلنا نقول في حضرة غيابك الحاضر هذا يا درويش، “أنك أينما ذهبنا، ستبقى دائماً تدلنا على أنفسنا، وعلى ظلنا فينا”، وسيقدّمك العاشق في يوم الحب والكتاب، مع وردة ويشرب دائماً نخبك.