أتجنّبُ، عادة، معالجة هموم الثقافة الفلسطينية، لأسباب يطول شرحها، ومع ذلك، ثمة ما يصعب التغاضي عنه، ويتجلى في إشكالية يمكن صياغتها على النحو التالي: يبدو، للوهلة الأولى، وكأن فلسطين تشهد ازدهاراً مُدهشاً في الفنون والآداب. ففي السنوات الأخيرة تسارعت ظاهرة إنشاء المؤسسات الثقافية، ومعها ظاهرة الجوائز السنوية، مع كل ما يصاحب هذه وتلك، ويتصل بها من بلاغة، وبيانات، وخطابات، ومكافآت، ووزارة الثقافة لا تنتهي من احتفالية إلا لتبدأ احتفالية جديدة.
لا بأس. ولكن مقابل هذا المشهد الكرنفالي البهيج نشهد ضيقاً متزايداً من أسفل ومن أعلى (أي من المجتمع والسلطة على حد سواء) بحرية التفكير والتعبير، فقد صدرت قرارات بمنع كتب، وهناك قوانين بخصوص الجرائم الإلكترونية، وثمة دعوات تطلقها جماعات وجمعيات أهلية لمقاطعة ومنع أفلام، وحملات لمقاومة التطبيع طالت فنانين بارزين، وساسة وطنيين اعتُرض على دخولهم حرم الجامعة، بذريعة مقاومة التطبيع، وفي الأثناء يرفض طلاب في جامعة الوقوف احتراماً للنشيد الوطني الفلسطيني.
كيف يحدث هذا وذاك في وقت واحد؟ بالمنطق: في ازدهار الفنون والآداب، وما تستدعي من بنى تحتية كالمؤسسات الثقافية، وفي كل هذا القدر من البلاغة والمناسبات والاحتفالات والمهرجانات، والمكافآت، ما يعني أن نهضة من نوع ما تتخلّق الآن وهنا، أو أن روحاً ليبرالية تتفشى في المجتمع. وبالمنطق أيضاً: في كل هذا القدر من تجليات الضيق بحرية التفكير والتعبير من أعلى ومن أسفل ما يعني ضيق صدر المجتمع، والسلطة، على حد سواء، من روح كهذه.
وبما أن كل كلام في الثقافة هو كلام في السياسة، أيضاً، كان من الممكن لازدهار كهذا أن يكون مُقنعاً لو تعامل مع ما نعينه بالضغط والضيق بوصفة هماً من هموم الثقافة، وقضية مفصلية من قضايا الحقل الثقافي العام تمس حاضر ومستقبل الحرية في هذه البلاد. بيد أن هذا لم يحدث، ولا أعتقد أنه سيحدث في وقت قريب.
فالازدهار الثقافي، في هذا السياق، مؤسس على وطنية لا تثير إشكالية، ولا يعترض عليها أحد، وهي وطنية بلا أسئلة ولا تساؤلات. هل يكفي حب البلاد، والتغني بجمالها، والتنكيل البلاغي بأعدائها لإنشاء ثقافة وطنية؟ ألا تحتاج ثقافة كهذه إلى تأمل صورتها في المرآة؟ ألا يثير الميل إلى المحافظة، وتفشي الأصولية، قلقاً من نوع ما في الحقل الثقافي؟ تبدو أسئلة كهذه فائضة عن الحاجة.
“الثقافة المزدهرة” لا تشعر بالحاجة لممارسة النقد والنقد الذاتي، بل هي تزدهر، بالفعل، بقدر ما تنجح في تفادي ما ينجم عن أسئلة كهذه من أوجاع الرأس، ومآزق، قد تُؤدي إلى فقدان القائمين عليها مكان ومكانة النخبة ذات الامتيازات المادية والرمزية في حقل السلطة، وبين هؤلاء من يقوم مقام المنسّق العام، وضابط الإيقاع، بين حقلي الثقافة والسياسة.
هذا لا يعني أن البلاد لم تُنجب جيلاً جديداً من الفنانين والكتّاب (أعني الذكور والإناث)، وأن هؤلاء يمتازون بمواهب استثنائية، بل يعني أن أغلب هؤلاء يعيش على هامش الحقل الثقافي نفسه، وأن السماح بالتحاقهم به مشروط بالتنازل عن أسئلة وحساسية جيلهم السياسية والثقافية، وهي مختلفة في كل الأحوال عن أسئلة أجيال سبقت.
وثمة، في الواقع، وصفة مجرّبة، بدأت منذ عقود، في القلب منها تقسيم وتقاسم فلسطين بين “ثقافي” وظيفته الثوابت، و”سياسي” وظيفته التكتيك، واختزال الثقافة في الأدب، أي إقصاء العلوم الاجتماعية والأدبية من مركز الحقل الثقافي، والاكتفاء بالشعر والرواية، وكلاهما حمّال أوجه. لذا تجد مؤرخاً أنفق سنوات من عمره في التأريخ لحقبة ما من تاريخ الشعب لا يجد حتى من يحتفي به، وفي المقابل تجد احتفاءً لا يخلو من مبالغة بأعمال “أدبية” قليلة الأهمية، لا يقرأها أحد في أغلب الأحيان. ويندر أن تجد بين ما يُحتفى به من أعمال، تستدعي حفلات، وتوقيعات، نصوصاً نقدية بالمعنى السياسي والثقافي العام.
أخيراً، كلما نشب سجال في الحقل الثقافي بشأن قضية من نوع ما، ينبغي استعادة السياسة. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالموجة الأخيرة المعادية للتطبيع، التي منعت عرض فيلم في رام الله بدعوى مقاومة التطبيع، وشهّرت بفنان، وطاردت مخرجاً لبنانياً زار إسرائيل، أعتقد أن حملة مقاطعة إسرائيل، ومقاومة التطبيع، التي تمأسست، وحققت نجاحات في الخارج، تنافس الآن على جانب من رأس المال الرمزي والمادي في حقلي الثقافة والسياسة في فلسطين.
وهذا، في ذاته، ما لا يحق لأحد إنكاره عليها، أو حرمانها منه، مع ضرورة الانتباه إلى أشياء من نوع مخاطر الشعبوية الثقافية والسياسية على حداء سواء، والإفراط في عبادة الصواب الذاتي، وكفاءة ما لا يحصى من الشبيحة بالمعنى الثقافي والسياسي والأيديولوجي في ركوب موجة كهذه. فما يدعى التطبيع، كما مقاومته، بزنس وصناعة. ولدينا الآن الكثير من خبرات تراكمت على مدار ما يزيد على عقدين من الزمان.
لا يحق لأحد تخوين أحد، أو ممارسة الرقابة والمنع. يمكن في كل الأحوال استنكار المواقف والرد عليها بالحجة والمنطق، أما سياسات التجييش، وممارسة التحريض، وذهنية العقاب والثواب، فلم يكن لأشياء كهذه أن تكتسب هذا القدر من العدوانية في ظل ثقافة مزدهرة بالمعنى الحقيقي للكلمة، أما في وسط هذا الكرنفال البهيج فكل شيء مُتاح ومُباح.
نُشرت صباح اليوم في الأيام الفلسطينية