أنا وأنت والحمّص بيننا!

سماح بصول

كاتبة من فلسطين

إن فكرة إيصال رسالة الضابط الشخصية ورؤيته للأمور من خلال مسلسل فلسطيني، أي من خلال الآخر هي أيضاً مقولة حول كبر الأكذوبة والإنكار، كل هذا ينجح مع تهادن الطرف الفلسطيني النابع من رغبة شبيهة بإثارة إعجاب النساء.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

18/06/2019

تصوير: اسماء الغول

سماح بصول

كاتبة من فلسطين

سماح بصول

مدوّنة سينما، مساعدة بحث في مجال الإعلام. بكالوريوس أدب، طالبة ماجستير في الأدب المقارن، ماجستير في ثقافة السينما، موجهة مجموعات في مجال السينما العلاجية.

بعد مشاهدتي الثالثة تيّقنت من أن هذا الفيلم محتال ومراوغ لدرجة تجعلني أعي مع كل مشاهدة كمّ التفسيرات التي يمكن أن يتحمّلها بعد الالتفات إلى التفاصيل الأكثر دقة والتي تجعلني أميل إلى زيادة المآخذ عليه؛ ومع ذلك أتمتع بكل حواراته الذكية، تضحكني المواقف كما لو أني لم أشاهدها من قبل. فيلم فيه من قوة السيناريو ما يثير شهيّة مُحلل، بعيدًا عن الإرهاق الذي سببه سوء أداء الممثل قيس ناشف.

للمرّة الثانية -بعد فيلم “رجل بلا موبايل”- ينجح المخرج سامح زعبي في تقديم كوميديا لمّاحة، ناقدة، تتمكن بسلاسة من احضار المشاهد اليومية وتفكيك تفاصيلها وتحويلها إلى مادة فنيّة متقنة الصنع لا يملها المشاهد. في فيلمه الجديد “تل أبيب على نار” يعيد سامح صياغة يوميات الفلسطيني التي يدخلها الإسرائيلي عنوة؛ فتتحوّل الاحتكاكات إلى تركيبة سينمائية مستساغة، تحمل النقد بصورة تتأرجح بين المباشر والمركّب.

مهمّة في تل أبيب

في السبعينيات والثمانينيات عرف التلفزيون الرسمي الإسرائيلي ظاهرة مثيرة للاهتمام عرفت باسم “الفيلم المصري عصر يوم الجمعة”. على مدار عقدين وأكثر كان التلفزيون الإسرائيلي يعرض أفلامًا مصرية متنوعة عصر يوم الجمعة، وهو توقيت تكون فيه معظم العائلات الإسرائيلية -الشرقية على وجه الخصوص- في البيوت استعداداً لاستقبال “السبت”. لقد نجح عرض هذه الأفلام في جعل الناس تجتمع على فكرة، تنتظر وتترقب؛ فلسطينيين وإسرائيليين، عرفوا جميعًا أنور وجدي، وفريد الأطرش وسامية جمال، وانفعلوا من أداء سعاد حسني وأحمد زكي، أعجبوا وأحبوا وكرهوا فريد شوقي، وكمال الشناوي ونادية الجندي. لقد تركت هذه الأفلام أثرها على الثقافة في المجتمع الإسرائيليّ إلى أن حان الوقت الذي اختارت فيه المؤسسة الرسمية وقف عرض هذه الأفلام والتأسيس لنوع آخر من الترفيه العائلي!*

لا يمكن لمن عايشوا هذه الفترة مثلي ألا يستحضروها في فيلم “تل أبيب على نار” ولو أنها في الفيلم تحمل أبعاداً أخرى مختلفة، ومعاني تنطوي على الآراء المسبقة والفوقيّة الإسرائيلية. مدفوعين بالحنين إلى قصص الانتصارات العربية المدعومة بموسيقى مسلسل “رأفت الهجان” يرمي بنا زعبي إلى هاوية الأنانية، والفردانية، والانتفاع التي بدأت تجد مكانًا لها بعد الكارثة السياسية المسمّاة “اتفاقية أوسلو”. فطاقم المسلسل مخلص لطلبات الممولين والمنفعة الشخصية المتجسدة في شرعنة الأحداث الهجينة سريعة التقلّب والتي تدور في فضاء أغنية الخلفية “ناس وناس”!

إن الجُمل والحوارات وتفاصيل صغيرة في المشاهد التي اختير عدد لا بأس به منها بعناية موفقّة، تحمل الكثير من الرمزية والدلالات، فوصف المسلسل “باللاسامي” يذكرنا بالشماعة التي يعلق عليها الصهاينة كل ما لا يتفق مع ذوقهم، ومصالحهم ورغباتهم. أما بخصوص صورة القدس التي تسقط في استوديو المسلسل ويطالب المخرج بوضعها جانبًا، فكأن القدس الآن ليست قلب القضية. ضعوها جانبًا إلى أن ننهي قضايانا الأخرى!
 

أحلى حمّص

لقد تحوّل الحمص مع مرور الوقت إلى إحدى سمات العلاقة ما بين الإسرائيلي وفلسطينيي الـ 48. يزور الإسرائيليون القرى العربية في نهايات الأسبوع باحثين عن الحمص “الأحلى”** كما يبحث كلب مدّرب عن فطر الكمأة! أصبح “تغميس الحمص” واحدًا من مشاهد التعايش المزيف الرائجة. إن اختيار الحمص وتحويله إلى ورقة رابحة في لعبة الفلسطيني سلام والإسرائيلي آسي كان اختيارًا غاية في الذكاء.

أسامينا..

وفي نظرة أكثر تمعنًا بالأسماء نجد أن جزءًا منها لا يتفق مع صاحبه اللامبالي، أو المنتفع، وآخر يعكس مروءة صاحبه. “سلام عباس” هو صورة عن ذلك الوسيط المستسلم، الذي يفرض عليه الإسرائيليون رؤيتهم فينطلق إلى أبناء شعبة محاولاً بالحيلة إقناعهم بها. و”وفا” هي الوحيدة التي لا تزال وفية لقضية شعبها وخطابه، رافضة تسلل البروباغندا الصهيونية إلى بيوت المشاهدين.

***

إن عسكرة المجتمع الإسرائيلي متغلغلة فيه حتى العمق، حاضرة في الحيز العام بكثافة وبفظاظة، لكن المجتمع نفسه يعيش حالة إنكار لما يتسبب به الجيش من معاناة للفلسطينيين، رغم أنهم جميعًا كانوا هناك! يعكس الفيلم مدى حاجة الإسرائيلي لبسط سيطرته على كل مناحي حياة الفلسطيني، واشتراط السلام بالاستسلام، وفرض خطابه على الأرض، كما استعلائه، وآرائه المسبقة. وعندما يرجع العسكري إلى حياته المدنية محاولاً ممارسة المزيد من الأوامر والسياسة يرتطم بواقع آخر حيث الحاجة لليونة والحب والعاطفة والابتعاد عن صخب السياسة. يجتهد العسكري ليثبت رجولته أمام امرأة فيستغل من أجل تحقيق ذلك.. الفلسطيني! إن فكرة إيصال رسالة الضابط الشخصية ورؤيته للأمور من خلال مسلسل فلسطيني، أي من خلال الآخر هي أيضاً مقولة حول كبر الأكذوبة والإنكار، كل هذا ينجح مع تهادن الطرف الفلسطيني النابع من رغبة شبيهة بإثارة إعجاب النساء.

إنها النقطة التي يلتقي فيها كل من سلام وآسي: النساء. سلام يريد أن يكتب ويفرض رأيه في المسلسل لكسب ود مريم ويستثمر وظيفته هناك لإيصال رسائل لها عبر النصوص والحوارات. ومثله تماماً يحاول الضابط (آسي) أن يفرض التطورات في المسلسل كما يرويها لزوجته. كلاهما يستغل المسلسل للتعبير عن مشاعره ويتخلل ذلك الترويج لبعض المواقف السياسية. ولكن خلق الفيلم لأوجه الشبه الإنسانية، العاطفية، الفطرية بين الرجلين غير منصفة، فلا يمكن لإنسان مُحتل أن يمارس حياة عاطفية طبيعية فيما يحيط به جدار يجعله يسكن أكبر سجون العالم وأكثرها أيهامًا للمساجين بحريتهم واستقلالهم!

هذا الفيلم يذكرني بالرسام الذي يرسم بورتريه شخصي. يتحدث عن إملاءات الممولين التي تحفر عميقا في قلب النص، وهو كذلك فيلم ممول إسرائيلياً لا يمكنه إلا أن يعطي صورة تبقي على الإسرائيلي الإنسان رغم كل درجاته العسكرية وما يترتب عليها من ممارسات.

الإسرائيلي الذي يسمع الآخر/العدو، يعطيه فرصة للحديث، يشارك العدو بمعلومة حيوية لإنتاجه التلفزيوني؛ العسكري الذي يعود إلى بيته في نهاية “يوم عمل” كأي شخص آخر يبادل زوجته التحية، يحدثها عن يومه، يختلف معها، ويحاول التخفيف من حدة أخطائه ببعض الرومانسية المدعومة بالنبيذ.

الإسرائيلي الذي يريد للواقع أن يتغير، يريد للحواجز أن تزول، يريد العودة إلى بيته لينعم بالهدوء فهناك لديه رغبات وأحلام وعائلة وتوق لحياة طبيعية بدون بزات عسكرية تفقد الرجل وسامته ورومانسيته!

يجسد دور الجنرال إدلمان في المسلسل أسير سابق، يحاول التوضيح بأن الجيش الإسرائيلي ليس في غاية اللطف كما يحاول المسلسل تصويره حتى لو كان الحديث يدور عن علاقة حب بعيدة عن السياسة -وهذا ما يؤكده الفيلم لنا من خلال تعليقات زوجة الضابط آسي- فيقترح نبيل، وهو أحد أفراد طاقم المسلسل، إضافة بعض الإثارة على صورة مشهد يَقتل فيه إدلمان بعض الأطفال، فيجيبه بسام، وهو كاتب السيناريو: “الممولين رافضين”. عن أي ممولين يتحدث؟ من الذي يرفض أن يرى الناس هذه الصورة عن الجيش الإسرائيلي؟ ممولي فيلم “تل أبيب على نار” أم ممولي مسلسل “تل أبيب على نار”؟!

سرطان في جسد فلسطين!

لا تريد تالا أن تموت بالسرطان في فلسطين، فلديها الكثير مما تفعله في باريس، ليست هذه طريقة لإنهاء دورها في المسلسل، لكنها الطريقة الأمثل ليتخلص سلام من عبء المنحى الذي فرضه الإسرائيلي على النص، وربما هي إشارة الفيلم للطريقة المثلى لإنهاء الصراع الدامي. السرطان هو الحل الإلهي الخارج عن سيطرة البشر، لماذا يختار سلام الفلسطيني حلاً كهذا؟ هل هو مؤشر لفقدان الأمل من تحرّك الشعب تاركاً الأمر “لله” كي ينهيه بطريقته؟ هل الحل يجب أن يكون أكبر من رغبة البشر وقدراتهم السياسية والعسكرية؟ هل حل الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني يجب أن يكون بكارثة تنزل علينا من السماء؟!

***

هذا الفيلم أفعوانية عظيمة التقنيات والحبكة، تنجح في رفع مستوى تماهينا مع البطل بسرعة خيالية، ومن ثم ترمي بنا إلى خط المواجهة مع الإسرائيلي، ثم تحرك فينا الرغبة في تخطى نكسة 67. جميل هو الأسلوب الذي يبلغ فيه إنتقاد سلطة أوسلو ذروة جديدة، لكن علينا ألا ننسى إحدى أهم رسائل الفيلم: راحيل اسمها منال، حذار أن يتحوّل الاسم المزيف إلى الاسم الحقيقي، حذار من تبني الرواية الإسرائيلية، فإن وكلاء أوسلو ليسوا وحدهم المسؤولين عن معاناة المقدسيين والفلسطينيين في الضفة الغربية، فهناك حقيقة أخرى أكثر وضوحًا.. الاحتلال.

ويبقى ممتعًا جدًا وجميلًا هذا الفيلم.

 

* للاستزادة يمكن قراءة مقالات الباحث اليهودي المصري إيال ساجي بيجاوي.
** الحمص الأكثر شهرة والذي تنتجه وتسوقة شركة أغذية اسرائيلية، وتستخدم الكلمة العربية “أحلى” إسمًا له.

الكاتب: سماح بصول

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع