“إن أكثرية التاريخ الشفوي الفلسطيني سياسي، والهدف منه هو رفع الصمت لمنع إسكات التاريخ الفلسطيني ومحو الذاكرة”
روز ماري صايغ
يكاد لا يوجد فلسطيني في العالم ليس لديه قصة مرتبطة بنكبة أرضه وشعبه، والفلسطينيون بمختلف أعمارهم، يصبحون في مكان ما، إما أصحاب القصة الأصليين أو رواة يتناقلونها عن أجداد حدثوهم حكاية قراهم ومدنهم. ويبدو أن أحد أبرز أسباب بقاء فلسطين الماضي حاضرة ومستقبلية في وعي الأجيال اللاحقة لجيل النكبة، هو تناقل الحكايات الشعبية، وعدم غياب القرية والمدينة عن وعي أجيال من اللاجئين غالبيتهم العظمى لم تعرف فلسطين ولم تسكنها بسبب التهجير. وما من جد تكلم عن قريته أو مدينته لأولاده وأحفاده، إلا لأنه عن قصد يريد لذاك الواقع أن يظل واقعاً وحلماً لدى الفلسطينيين جميعا، ولعله يعي أنه يرسم مستقبلاً جديداً للبلاد التي هُجّر منها عام ١٩٤٨.
أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني “POHA”
معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية، نظم على مدى يومين (١٢ و ١٣ حزيران)، مؤتمرا ًدولياً لإطلاق أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني، بالتعاون مع مكتبات الجامعة الأميركية في بيروت ومركز المعلومات العربي للفنون الشعبية “الجنى” وموقع “أرشيف النكبة”.
مواد الأرشيف باتت متوافرة على موقع إلكتروني خاص به ومتخصص من نواح مختلفة على مستوى البحث والوصول إلى المعلومات الواردة في 1000 ساعة من شهادات الجيل الأول من الفلسطينيين في المخيمات والتجمعات الفلسطينية الأخرى في لبنان. ويركز المشروع على الروايات الشخصيّة حول النكبة، وهي اللحظة المفصلية الحاسمة في التاريخ والتجربة الجماعية للفلسطينيين كما يرد في النبذة الخاصة بالمشروع. كما أنه يوثق حكايات وأغانٍ شعبيّة، ويتضمن مجموعة قصص عن نساء مخيم عين الحلوة بعد تدميره عام ١٩٨٢.
حكاية الأرشيف
تعود قصة هذا الأرشيف إلى العام ١٩٩١، حين بدأ مركز المعلومات العربي للفنون الشعبية “الجنى” بتوثيق التاريخ الشفوي للاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان. ولاحقاً “أرشيف النكبة”، حيث رأت كل من المبادرتين أهميّة في جمع الروايات قبل ضياعها بتقادم الوقت وتقدّم عمر اللاجئين، مع الأخذ بعين الاعتبار الوقت الذي انقضى منذ النكبة.
فبعد سنوات على النكبة واقتلاع نحو ٧٥٠ ألف فلسطيني وتهجيرهم إلى البلدان العربية المجاورة وإلى مناطق أخرى داخل فلسطين، وتدمير ٤١٨ قرية فلسطينية أجهزت العصابات الصهيونية عليها لتقيم دولة إسرائيل على ٧٨% من فلسطين، فبعد كل ذلك ومرور الوقت الطويل على حكايتهم، باتت ذاكرة هؤلاء تشكل أهمية قصوى للحفاظ على إرث الشعب الفلسطيني الإنساني والحضاري والتاريخي، كذلك أصبحت ذاكرتهم عن قراهم ومدنهم وحياتهم قبل النكبة، شكلاً من أشكال المقاومة، عدا عن أنها مدخل أساسي لدراسات مختلفة في أكثر من مجال علمي ولاسيّما في الأنثروبولوجية. فإنشاء هذه المبادرة يشكل قاعدة حقيقية لتأسيس حوار بين المجتمع المحلّي والدارسين والباحثين والمحافظة على النزاهة والعفوية إضافة إلى الطبيعة الشفوية للمادة.
قيمة الذاكرة للاجئين الفلسطينيين، شكلت لدى مركز المعلومات العربي للفنون الشعبية “الجنى” وأرشيف النكبة، التزاماً، بإعلاء صوت الشعب من القاعدة الشعبية: “لذلك تم توظيف المحاورين من المجتمعات المحليّة، إذ عملوا على تطوير الاستبيانات وتحديد من أجريت معهم المقابلات. وذلك لضمان أن يبقى المشروع وثيق الصلة مع المجتمعات التي يراد أرشفة قصصها. كذلك فإن من أجريت معهم المقابلات من الجنسين، يعودون إلى ١٣٠ قرية ومدينة فلسطينية، وإلى خلفيات اقتصادية واجتماعية مختلفة.
ولقيمة ما تم جمعه من أرشيف شفوي، اقترح الأكاديمي الفلسطيني الدكتور ساري حنفي، على المؤسس والمنسق العام لمركز المعلومات العربي للفنون الشعبية “الجنى” السيد معتز الدجاني، ومؤسسا موقع “أرشيف النكبة” محمود زيدان وديانا آلان، التوجه إلى معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية لأرشفة وحفظ مجموعات التاريخ الشفوي وإتاحتها للعامّة، هكذا أبصر مشروع التاريخ الشفوي الفلسطيني النور في الجامعة الأميركية في بيروت عام ٢٠١١.
بعد تبني فكرة “الجنى” و”أرشيف النكبة”، نتج عن المرحلة الأولى من التعاون، تحويل البيانات ورقمنة المعلومات من تسجيلات تناظريّة (أشرطة كاسيت) إلى ملفات سمعيّة وفيديو. بعد أن جرى رقمنة الأرشيف، تعاون معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية مع مكتبات الجامعة الأميركية في بيروت وتم الانتهاء من مرحلة التخطيط للمشروع ما بين عاميّ ٢٠١٤ ومنتصف ٢٠١٥. وتلقى المشروع دعماً من مؤسسة “هاينرييش بول”، ومؤسسة “التعاون” ومؤسسة “غلاديس كريبل ديلماس”. وفي العام ٢٠١٦ حصل أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني على منحة من الصندوق الوطني للعلوم الإنسانية بقيميةٍ تقدّر بـ $٢٦٠ ألف دولار لثلاث سنوات لدعم مرحلة تنفيذ وتطوير المشروع الذي أبصر النور قبل أيام في بيروت.
أهداف المشروع
يشير الموقع الرسمي للأرشيف إلى أن الهدف الرئيسي له هو “تسهيل إمكانية الوصول إلى الشهادات التاريخيّة الشفويّة بكل ما فيها من غنى ودلالات متعددة مع الحفاظ على شفويتها وتجسيدها وسياقها. وعليه فإن الهدف طويل الأمد للمشروع كما هو وارد في الموقع الخاص بالأرشيف هو “تأسيس مبادرة حول أي أرشيف تتداخل فيه الأكاديميا مع المجتمعات المحليّة؛ وتحسين استخدام مصادر التاريخ الشفوي ونشر المعرفة والتجربة المتراكمة؛ وهذا من شأنه أن يفتح زوايا وآفاق جديدة في علم التأريخ وتاريخ فلسطين الحديث.” مسؤولة المنح التي تدعم الأرشفة الشفوية كوكب شبارو أكدت في كلمتها خلال افتتاح المؤتمر أن أهمية رقمنة المعلومات وما تعطيه من خدمة للأرشيف الفلسطيني، تكمن في أن “الماضي يساهم في تغيير المستقبل.”
بدوره قال رئيس الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور فضلو خوري إن “هذه الرقمنة تهدف إلى وصول كل العالم إلى الأرشيف الفلسطيني الذي يتكون من ألف ساعة للأرشيف الشفوي، ومن هنا أهميته لتأكيد الاحتفاظ بالتاريخ الفلسطيني. وأضاف إن “التاريخ الفلسطيني منوع، ولكن أماكن وجوده مبعثرة، ومن هنا كان هذا المشروع، وبخاصة دور المرأة أيام النكبة”، مطالباً بتحويل هذا المشروع إلى “نموذج في المنطقة.” مدير معهد عصام فارس للدراسات السياسية والشؤون الدولية الدكتور طارق متري أكد أيضاً “أهمية إبقاء الذاكرة الفلسطينية على قيد الحياة، ومعرفة تاريخ فلسطين”، مشيراً إلى أن “هذا الأرشيف يسلط الضوء ليس فقط على ما حصل يوم نكبة فلسطين، وإنما على ما سبقها في حياة الفلسطينيين.”
وتجدر الإشارة إلى أن القائمين على أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني “POHA” قاموا بتطبيق أفضل مقاييس ومعايير الحفظ والرقمنة والأرشفة والفهرسة عبر الاستفادة من أحدث الأدوات المتاحة في مجال الأرشفة عالمياً.
فعاليات إضافية في الافتتاح
قدم مؤسس ومنسق عام مركز المعلومات العربي للفنون الشعبية “الجنى” السيد معتز الدجاني عرضاً لمسيرة المركز مع التاريخ الشفوي، والنتائج التي خلص إليها من موارد مختلفة (كتب – أفلام – فنون) إذ لم يكن العمل مقتصراً فقط على جمع التاريخ الشفوي لدى “الجنى” إنما كان هناك هدف تعليمي للأطفال عبر إشراكهم وإشراك مجتمع اللاجئين في العملية ككل، وهذا ما يتبناه مركز “الجنى” والذي هو بالتعبير “التعلم عبر الفنون”.
المدير المشارك في موقع “أرشيف النكبة” محمود زيدان أيضاً تكلم عن قصته مع التاريخ الشفوي، التي بدأت من مخيم عين الحلوة ومن والده، ومن بعض كبار السن حوله، ولاحقاً التقى ديانا آلان في مطلع الألفية الحالية، والتي تابعت معه في رحلة جمع التاريخ الشفوي. خلال مؤتمر إطلاق أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني أيضاً تحدثت الأنثروبولوجيّة والباحثة في التاريخ الشفوي الدكتورة روز ماري صايغ حول قيمة إطلاق هذا الأرشيف قائلة “هذا التاريخ الشفوي الفلسطيني يمكنه أن يلعب دوراً للعدالة الانتقالية لمن فسر الحقوق، كما أنه يرد على السردية الإسرائيلية.”
الدكتورة بيان نويهض الحوت التي وثقت ما حصل في مجزرة صبرا وشاتيلا أشارت إلى أنها حاولت منذ أربعين عاماً وفشلت في إطلاق مثل هذا المشروع، مؤكدة أنها ثابرت رغم ندرة المواد الكافية لإتمام أطروحتها للدكتوراه، لكنها لجأت إلى “أسلوب المقابلات مع أشخاص فلسطينيين.” وتحدثت أيضاً الدكتورة فيحاء عبد الهادي، عن عملها في تسجيل التاريخ الشفوي للمرأة منذ عام ١٩٨٩، وإنشائها مركز “الرواة،” وأضافت إن “التاريخ الشفوي أساسي في تقديمه المعلومات المتنوعة، ويعمل على توثيق التجارب الشخصية، وهذا التاريخ الشفوي مكمل للتاريخ التقليدي.”
محتوى الأرشيف
نتج عن جهود المؤسستين نشوء أكثر من ٧٠٠ شهادة بصريّة وسمعية، والتي تم دمجها في مجموعة واحدة متوفرة لدى أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني. وجرى تنظيم هذا الأرشيف ضمن أربع ٤ مجموعات فرعيّة:
1- الاقتلاع: يتضمّن الجزء الأكبر من المجموعة، أرشيف النكبة (٥٥٨ ساعة فيديو) وجزء من مجموعة “الجنى” (١٣٦ ساعة من التسجيلات الصوتية). تم التركيز على تجربة الاقتلاع والنزوح الجماعي للاجئين. ويشمل هذا الجزء أيضاً روايات عن الحياة الفلسطينية تحت الانتداب البريطاني وخلال حرب ١٩٤٨-٤٩، بما في ذلك تجارب النفي والتهجير إلى لبنان.
2- “القصص الشعبيّة”: يتضمن هذا الجزء (١٧٢ ساعة من التسجيلات الصوتية). ويشمل عناصر التراث الثقافي غير المادي على شكل قصصٍ شعبية، ورواية القصص، وأغانٍ شعبيّة، وأمثال وأشعار فلسطينيّة.
3- “عين الحلوات”: يتضمّن هذا الجزء (٣٦ ساعة فيديو) ويشمل قصصاً لنساء من مخيم عين الحلوة الفلسطيني في جنوب لبنان، يتحدثن عن مهنهن، وحياتهن العائليّة وأدوراهن في إعادة تأسيس المخيم.
4- “سير حياة”: يتضمن هذا الجزء (١٦٠ ساعة من التسجيلات الصوتية) ويشمل توثيقاً لقصص حياة رجال ونساء لعبوا دوراً مهما في مجتمعهم أو شكلوا نماذج يحتذى بها ومصدر إلهام.
تبدو فكرة التاريخ الشفوي، كتأريخ للشعب الفلسطيني، واحدة من الصيغ الأنضج والأبرز معرفياً وهوياتياً، لمواجهة الرواية الإسرائيلية الرائجة لدى بعض الغرب، ووجود ساعات طوال من التاريخ الشفوي للشعب الفلسطيني على موقع أكاديمي وازن، سيعود بالنفع الكبير على الشعب الفلسطيني وقضيته ككل.
يمكن الوصول إلى الموقع من هنا