إن كانت إحدى تعريفات النقد الأدبي تؤكد على أنه ينطلق من النص وينتهي إليه، فنحن في رواية «ليتني كنت أعمى» للروائي الدكتور وليد الشرفا، أمام حالة لا ندّعي أنها فريدة من نوعها، ولكنها لا شك عميقة في تراكيبها، بوصفها سردية ماضٍ لا يزال مستمراً وينزف.
ولعل الرواية نفسها في إشارتها الواردة على لسان أحد أبطالها، هي من تحقق هذه المعادلة حيث يقول أحد بطلي الرواية للآخر: “هون عليك، لم تعد إسرائيل تخاف الصور، أما العالم فسيبكي عليك في اللوحة، لكن بعد فوات الأوان، لأنه سيبكي عليك وسيكرم قاتلك” (ص12).
هذه الإحالة تأخذنا مباشرة إلى سؤال الذات والآخر؟ حيث تلك العلاقة التلازمية بين مفهومي الذات والآخر، “إذ يستدعي استخدام أي منهما تلقائيا حضور الآخر” على حد تعبير الدكتور زكي العيلة في كتابة «صورة الذات وصورة الآخر»، فما بالنا إن كنا نطلع على صورة الذات هذه، من قبل “أعمى ومقعد” بوصفهما المكون الأساس الذي وظفه الروائي الشرفا لصناعة المعرفة في روايته، لا ليكرر مقولة الشاعر “بشار بن برد” : “أَعمى يَقودُ بَصيراً لا أَبا لَكُمُ/ قَد ضَلّ مَن كانَتِ العُميانُ تَهديهِ”، ولكن ليمارس فعل اشتقاق سؤال الهوية الوطنية من جسد الحاضر المأزوم الذي تمرد على ماضيه الفاعل. الأمر الذي عمد مع سبق إصرار وترصد إلى تغيير تعريف العدو فبات عدواً أكثر شراسة في ثياب صديق، ما ساهم بشكل عميق في تحولات اجتماعية وسياسية وثقافية أضرت بالذهنية الجمعية للفلسطيني والعربي على حد سواء، وكأننا بهذا المعنى نرقب الشرفا وهو يستدعي سؤال الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو ليردد مقولته الشهيرة: ماذا لو توقف الموت عن قتلنا؟
هذا الاستدعاء الحاضر لربما في لاوعي الروائي وليد الشرفا، هو ما دفعه لتبني خطاب الذاكرة الفلسطينية الجمعية، باعتبارها ذاكرة مقاومة مقاتلة قادرة على تقديم خطاب الحكاية، وليس حكاية الخطاب، ويعد عنوان الرواية أولى تجليات هذا التقديم، حيث نجد الراوي يطرح موقفاً رافضاً لكل ما آلت إليه الحالة الوطنية ولو من خلال التمني “ليتني كنت أعمى” وهي دلالة تؤسس لدال لا يكتمل إلا بمدلوله، فكانت تفاصيل هذه السردية التي قدمت ملامح هذا المدلول.
ولكون الزمن الفلسطيني الراهن، زمن مغاير لا يشبه كل الطموحات والآمال التي رافقت الذهنية الفلسطينية منذ اللحظات الأولى، كان لزاماً على المثقف الفلسطيني المنتبه والمؤمن بضرورات التغيير، أن يفكك كل الالتباسات المحتملة ما بين كافة المتناقضات، الحق والباطل، الغالب والمغلوب، أنا والآخر، وصولا إلى إعادة صياغة أو تعريف الهوية الجمعية وهو ما يشير إلى ثلاث إحالات أساسية دار عمل وليد الشرفا فيها وحولها، وهي “القيد، والمقاومة، وإعادة الاختراع”.
القيد، واقعٌ يتكئُ على عصا!
تتجسد مفاعيل القيد في محاولات تبرير الوضع الجديد وحراسة المصالح الفردية والحزبية، على حساب المصلحة الوطنية، ما حاول أن يشير إليه الراوي منذ لحظات الرواية الأولى وهو ينقل لنا تفاعلات الصراع الداخلي لبطل العمل “علي طوق” أثناء حضوره مؤتمر مدريد بوصفه صحفيا فلسطينياً، حيث يقول: “لم أعتد على هذه الأحذية من قبل، أحسّ أن قدميّ تختنقان، أصابعهما تتداخل، تذكر ذلك” (ص13).
وفي مقطع آخر، “جلست مسنداً ظهري إلى ذلك العمود الهائل المرصع بالزجاج والمحاط بالمرايا، تنظر إلى وجهك في المرآة، ترى كيف اختنق خدّاك، وجحظت عيناك، لا تنس. وقتها أنك حدقت بعينك وقلت لنفسك: لم تكن الكاميرا قديمة. لكني عندما سمعت كلمة الوفد الإسرائيلي، ورأيت إسحاق شامير، نسيت أني المصور، واختلط “زر” التصوير، بالزناد، لإطلاق الرصاص، لذلك تهت بين الحالتين وقلت في نفسي: اهدأ، الآن لا تستطيع، أنت هنا مصور فقط، واترك هذه العادة القبيحة القديمة بأن ترمي الكاميرا وراء ظهرك، إلى اليسار والسلاح إلى اليمين” (ص15 -16).
وفي مشهد ثالث نجده يقول: “أحسّ أن المدينة كلها تزحف نحوي وتضيق كالقبر، تعصرني وتكسر ضلوعي، أقفز أغطي الكاميرا بالمنشفة، أحاول النوم” (ص17).
وإن كانت هذه تجليات القيد لتبرير الوضع الجديد، فلنا أن نلحظ محاولات حراسة المصالح الفردية والحزبية التي عبرت عنها عدة شخصيات في العمل، منها شخصية الثوري العائد” أبو الناجي” المغرم بالمشاوي في مطعم جديد لصديقه، نفى أنه شريكه، ويحب السمك من بحر عكا ما دفع علي الطوق لسؤاله الاستنكاري محملقا: هذا نصيبنا من بحر عكا؟! فكان رد أبو الناجي محدقاً: “لكل زمان دولة، حاربنا ومن حقنا الاسترخاء، نحن أولى” (ص50).
وعلى غرار “أبو الناجي” كانت شخصية “اللواء” الذي كان يعمل لديه “أحمد إسماعيل” سائق سيارة الإسعاف وهو يتحدث عنه في رسالته قائلا: “بتعرفوا إحنا ما كنا نعرف الرتب، كنا نقول: مناضل وجاسوس، قبل هالوقت اللي زي الزفت، اشتغلت معه تقريبا سنتين، كل يوم أروّح مقهور، سيارة مرسيدس ومرافقين، مشوار على الغدا، ومشوار على الجيم، روح جيب البنت من النادي، روح ابعت المدام للصالون، كانوا يطلبوا الأكل من المطعم وما يوكلوه، أرميه اليوم الثاني بالزبالة، التناقض كان يقتلني، كنت أحس حالي سائق لأحد البشاوات في الأفلام المصرية، كل ما يطلع بالسيارة، يحكيلي عن بطولاته ببيروت، وإنه أبو جهاد الله يرحمه بس كان ما يخالف مشورته، وإنه كان هو وصلاح خلف أصحاب على العظم”. (ص151).
ويستطرد السائق، “في المساء، عندما أعود للبلد وأرى الحواجز وقهر الناس والشهداء والجوع، كنت أحس حالي إني بعالمين ما بيشبهوا بعض، قهر في النهار من غنى اللواء، وقهر في الليل من فقر الناس، لا يمكن تكون هيك الثورات” (ص152).
وتتنقل محاولات حراسة المصالح الفردية في كل اتجاه وصولا إلى حراسة المصالح الحزبية، وأيضا على حساب المصلحة الوطنية، فنجد هذا الحوار بين بطلي العمل ياسر الزرعيني وعلي الطوق: “عندما تم الإعلان عن عملية أشرف وعبد الحليم، جاءني الشيخ “علان”، قال لي: ما رأيك أن يكون الإعلان مشتركاً عن العملية لرفع معنويات الناس اتجاه الوحدة الوطنية، قلت له: لكن الشريط المصور يظهر شعار الثورة والدرع، هز رأسه مبتسما.
تعجبت كيف كان واثقاً من نفسه، قال: سنعيد الشريط ونبدل الشعارات خلف الشهيدين وندفع ما تريدون، قال علي:
-
في الثورة لم يكن لدينا مثلهم، كنا وطنيين ثوريين شيوعيين قوميين.
-
هنا أصبحوا كثيرين
-
ماذا يريدون؟
-
يريدون تطبيق الشريعة مرة، واسقاط الاتفاقية مرة أخرى
-
معنى ذلك أن هناك أملا
-
مسكين أنت يا علي، عندما كنتم تموتون في قلعة الشقيف، كانوا يتساءلون: هل سيذهب قتلاكم إلى الجنة أم إلى النار؟
-
معقول يا ياسر هالحكي؟!
-
قبل الاتفاقية وعودتكم، كان الشيخ “علان” يخطب في الجامعة، ويقول: إن اليهود أقرب إلى الإسلام من العلمانيين.
-
يا رجل معقول! والله ما أنا عارف مين بدك تحارب!
-
قال: إذا وجدت مصاباً من العلمانيين ومصابا من اليهود، عليك اسعاف اليهودي، لأنه ذمي، وترك العلماني لأنه مشرك. (ص133-134).
إلا أن هذا القيد المتماهي مع حراسة المصالح الفردية والحزبية، هو قيد هش، يتكئ على عصا مهترئة، كون استدعاء الذاكرة من قبل الراوي وليد الشرفا في حد ذاته، يعد اسقاطاً مدوياً لكل هذه الوجوه مهما طال زمن انتشارها هنا وهناك وبين الناس، حيث سردية الماضي هي فعل لا يعود، ولكنه أيضا لا يغادر كما يعبر الشرفا في روايته، وهو ما ستدلل عليه الرواية نفسها في النقطة التالية.
المقاومة، سرديةُ المعلوم والمحسوس والمجهول!
كان ولا يزال لفعل المقاومة – بوصفه أحد أهم أدوات النضال التي جعلت من القضية الفلسطينية، قضية عصيّة على النسيان، أو الإنهاء- حضوراً عادة ما يدفع الروائيين لقراءة التاريخ بكل مآسيه دون أن يعترفوا بالباطل منه، وإن وصف الماضي بالمعلوم، والراهن بالمحسوس، والمستقبل بالمجهول، أو كان في كل حالاته ماضٍ لا يعود، ولكنه أيضا لا يغادر، وفق قول وليد الشرفا على لسان أحد أبطال روايته ويرد في أكثر من فصل على سبيل التأكيد على أن ما كان، لا يزال مقيماً أصيلاً في الذاكرة الفلسطينية الجمعية ولن يغادرها.
وهذا ما يشير إليه مشهد المونولوج الداخلي لـ”ياسر الزرعيني” وهو يقول: ” لم أصدق أني أجاور وأعرف من حارب في المعسكرات الأولى، وقاتل مع المقاتلين الأوائل ويعرف قلعة شقيف، وليس هذا فقط، بل هو الخالق للصور التي خلقتها صوره في، لقد ثبت صورة من كنت أعتقد أنهم قديسون، كانت صوره لوحات تتفجر بالمعنى والجدوى، دون أن تحمل ذرة خيال واحدة، لقد صنع البطولة ولم يقتبسها” (ص108).
والأمر يتكرر في مونولوج داخلي آخر أيضا لياسر وهو يقول: أنظر إلى علي، وأقول في نفسي: كيف ينام الأعمى، مسكين هذا الرجل، يحارب ليحتفظ بالثورة، ونحن نحارب لاستعادتها” (ص125).
ومرة ثالثة في الحوار ما بين علي وياسر حيث كانت مادّته الأساس هي المقاومة:
-
“تذكرني جنين بمعركة بيروت يا ياسر!
-
الصور من بيروت كانت ملهمة لنا.
-
لكنها معارك انتصارات معنوية، وبها قدر كبير من الكاذبين.
-
يحدث ذلك دائما يا صديقي.
-
نص اللي بحكوا عن بطولاتهم ببيروت كانوا في الملاجئ.
-
وفي جنين فصائل كانت تفاوضنا على بيع شهيد.
-
في النهاية، خرجنا من بيروت، تركنا خيرة رجالنا في المقابر.
-
نحن قلنا لهم إنها بيروت، لكننا لن نخرج من جنين إلى لجوء آخر، نحن في وطننا” (ص123).
المقاربات التي قام بها الشرفا في سرديته، ما بين عدة مشاهد من الثورة في بيروت، وأخرى من مشاهد المقاومة في جنين، قامت بفعل المحاكاة ربما لإعادة اختراع المعنى المفقود إلى حين، وهذه هي النقطة الثالثة والأخيرة في هذه الدراسة.
إعادة اختراع المعنى، حكايةُ ظلٍ يرى الصورة!
وإذا التاريخ أغنى أمة/بشهيد فألوف شهدانا/وإذا الثورة كانت بطلا/يطأ الموت ويحتل الزمانا/ فلنا في كل جيل بطل/مجده يحتضن المجد أحتضانا
هذا ما اقترحه الشاعر السوداني محمد الفيتوري، وجسده الفلسطيني عبر تاريخ طويل من النضال، هو نفسه الذي يدفع روائياً أكاديمياً كوليد الشرفا لمحاولة إعادة اختراع المعنى، معنى القانون القائل: “لا يهم مع من تكون، المهم من تكون أنت!” وفق تعبيره هو على لسان أحد أبطاله (ص146).
والمعنى عند وليد الشرفا يمكننا أن نقرأه بالعين المجردة في كلمات تتردد في الرأس، لتؤكد أن الحياد قد يوصف بالخيانة، وأن الانحياز فعل مقاوم وإن لم يمارس صاحبه فعل المقاومة، وهو ما قاله “علي الطوق” في مونولوج داخلي: “أقلب الصور وكأني أبتلع قلبي مع كل صورة، لا احتمالات محايدة هنا، إما موت في قلبك، وإما موت في عقلك، لا تختار شكلاً للحزن، إنما تختار دقات قلبك مدى الرحمة بك” (ص45).
وكذا نجده في قول “علي”: ينشغل العالم بنا، ماذا يريد هؤلاء المجانين من هذه المصيدة، ماذا ينتظرون! رفضنا عرض الاستسلام وتسليم البنادق، لماذا قدمنا كل هذه الأرواح، سيقول نضال: واجهوا مصيركم الهجوم يبدأ، الطائرات من السماء، والمدافع تربض فوق الجبريات، من الجنوب والغرب ومن الشرق، جحافل المعدن تستعد لتطحن عظامنا مع الاسمنت، ولا نملك سوى ذكرى الجثث، وهاجس الطعن في الظهر، وإمكانية استعادة الثورة على أمل” (ص140).
الحكاية هنا لم تعد مجرد حكاية، وإنما تحولت بقصدية من الراوي إلى خطاب يرفع محمول الحكاية، ليرسم مشهدية الغد ولو من خلال الظل الذي يرى الصورة فيقول على لسان أحد أبطاله: “سيظهر الحصان من بين الردم والدمار حاملاً شباك الحديد العرضي الذي كان يحمي نضال خلف تلك الجدران، ويعود ببعض قطع المعدن من أسلحة الجنود الاثني عشر الذين قتلوا في الكمين، سيطير الحصان وسيرتفع، وسأرى حمرة عينيه والعرق الذي يتصبب من جانبي رقبته ومن أعلى فخذيه، سيأخذ الحصان الحديد من الدمار وسيطير عائداً إلى مهجعه، سيثبت القطعة من الشباك أعلى ظهره، بينما سيدفن قطع سلاح الجنود تحت قدميه، كعادته، سيعيد بصره نحو المخيم ويسدل شعر رقبته وينام واقفاً بسكينة وهدوء” (ص136).
ولأن “الحديد لا ينتصر دائما” على حد إيمان وليد الشرفا، سنجده يأخذنا مباشرة إلى القول الفصل الذي يريد من خلاله إعادة اختراع المعنى: “لقد صنعوا تاريخ الله، ونحن صنعنا تاريخ ألمنا، لا وراثة ولا استبدال في الله والألم” (ص145).
هكذا نصل خط النهاية دون التورط في أية انزياحات عن تأويل لمعنى العمى بوصفه إعاقة، والموت بوصفه نتيجة، وهما إحدى أهم سمات رواية وليد الشرفا، الذي يرفض الخضوع لشرط القيد لصالح استدعاء المقاومة في محاولة لإعادة اختراع المعنى، ذاك الذي يذكرنا مرة أخرى بسارماغو صاحب روايتي «العمى» و«انقطاعات الموت» وهو يقول: “ما أصعب أن يكون المرء مبصرًا في مجتمع أعمى” ما يطرح علينا سؤال: ما الذي حصل للمجتمع الفلسطيني ومن ورائه العربي، ليصبح مجتمعاً كفيفاً إلى درجة أن يتمنى روائي أكاديمي كما هو الشرفا لأن يكون أعمى؟