عشرون عامًا مرّت منذ سمعت الاسم “جوان صفدي”… التقيته لأول مرة في العام 2001، صحافيةً ومغنٍ في المقهى الأول والوحيد في الناصرة، هناك قدّم لي أسطوانتين، الأولى لأغانيه باللغة الإنجليزية والثانية لأغنيتين بالعربية هما “ختيار” و “مربوط”. منذ ذلك الحين حتى اليوم أصدر جوان عددًا من الأغاني بالعربية جمعت سريعًا قطبين من المعجبين والكارهين له ولفنه، وأنا -على ما أعتقد- على خط الوسط بين هؤلاء، أؤيده في بعض مواقفه التي تظهر على شكل أغانٍ احتجاجية، وأنسحب من مضمار المستمعين في بعضها الآخر.
ليس غريبا أن تكون “مربوط” أغنيتي المفضلة، فحريّة التعبير التي تقدسها كلمات الأغنية هي الهواء الذي يتنفسه الفن والعمل الصحفي والسينمائي، وهي ذاتها مَقتلهم جميعًا عندما لا تنسجم وتتحدى “الوضع الراهن”، الأمر الذي يدفع بجوان ليقول صريحًا “حتى لو بدي أموت” فهو يعي الخطر الداهم لحرية الرأي!
يغني جوان :
سكروا لي ثمي
ربطوا لساني
منعوا كلامي
لكن فنّي مش مربوط
ولا يعرف الشروط
حتى لو بدي أموت
شو ما بدي أغني بغنّي
فهل تعطينا هذه الكلمات فاتحة لمحتوى فيلم “نمرود” وإشارة ضمنية لحدّة ما قال وما سيقول؟
***
يُفتتح الفيلم بعرض موقف سياسيّ ثم تتسع مساحة الحديث لنتعرّف على جوان ومفاهيمه على مختلف المستويات، يعبّر عن رأيه ومواقفه وشعوره ويعكس الحالة الهايبريدية التي يعيشها كثير من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48، يحصي المواضيع السياسية والاجتماعية والأفكار التحرريّة التي تجلب له الأعداء والناقدين، ويؤكد أن كلمات أغانيه ليست رسالة إنما تعبير عن فكرة وشعور آنيين.
أصبح جوان صفدي واحدًا من أكثر الفنانين الفلسطينيين مثارًا للجدل، نتعرف من خلال لقاءاته الإعلامية ومعاملاته اليومية ما بين العائلة والفن على أسلوبه في تحدي العادات والثوابت الاجتماعية والدينية! في بعض الأغاني يكون جوان مستفزًا؛ ربما أيضًا لأكثرنا ليبرالية وتحررًا؛ ولو أن في هذا الإدعاء بعضًا من المخاطرة، إلا أن هناك مضامين وكلمات في الأغاني لم تندرج بعد في إطار المألوف والمقبول في مجتمعاتنا العربية -سيما الفلسطيني، فالكلمات لا تُجامل أحدًا ولا تخشى تعرية فكرة ما- سواء كان ذلك في سياق التغيير الاجتماعي والدعوة للتحرر من النظام الأبوي مقابل المحافظين، أو ازدياد الشرعية للأصوات التي تنادي باللادينية والإلحاد مقابل المتدينين، أو مناهضة الاحتلال بوسائل عصريّة مقابل تراجع إمكانية المقاومة الفعلية التي فرضتها “خيبة أوسلو” وما بعدها.
يقدم الفيلم فنان لا يُثنيه انتهاك حريته في التعبير عن مواصلة العمل لإصدار أغان جديدة قد نتفق ونختلف معها وعليها بحدّة – وهذا قلّما يحدث مع آخرين من فناني الأغاني الاحتجاجية. لمَ يحصل هذا؟ لأن أغنية “كهرباء” التي يقدم الفيلم مقطعًا منها ما هي إلا دعوة من رجل لامرأة لممارسة الجنس، وعلى الرغم من سلاسة الكلمة واللحن، إلا أن المضمون يبقى مختَلفٌ عليه خاصة إذا ما كان جمهور مستمعيه من المراهقين! كذلك الأمر في أغنية “يا حرام الكفار” التي لا تقدّم جديدًا في سياق الثواب والعقاب الذي يعرضه الدين، إلا أن طريقة تقديم “الحقائق” بأسلوب ساخر وكلمات لاذعة يجعل منها ومن مغنيها فريسة الانتقادات والمعاداة.
من خلال جوان نرى كيف يتحول كل شيء فينا إلى سياسي، كيف ولماذا تولد أغنية مثل “من الصعب أن تكون عربيًا”* احتجاجًا ونقدًا للمؤسسة الاسرائيلية التي نعيش تحت وطأة سياساتها العنصرية والقمعية، ولماذا يريد المجتمع مواكبة العصر تكنولوجيًا فيما يبقي على الذكورية وقمع النساء والتستّر وراء عباءة الشرف، ولماذا لا يكتفي الجمهور أو المسؤولون بمعاداة أغنية معينة ويغالون في معاداة صاحبها. تقودني هذه التساؤلات إلى استذكار بعض الحوادث في مسيرة جوان الفنيّة، فقد قام “أشخاص” بقطع الكهرباء خلال وجوده على مسرح في حيفا لأداء أغنية مناهضة لاستدراج الفلسطينيين حملة الجنسية الاسرائيلية إلى الانخراط في الخدمة الوطنية والعسكرية! كما حذفت إحدى مقابلاته من أحد مواقع الإنترنت العربية في الداخل الفلسطيني بعد دقيقتين من نشرها!
***
يحاول الفيلم السير في مختلف الدوائر ذات التأثير على حياة الشخصية الرئيسية لكنه لا يتعمّق في أيّ منها ويترك للمشاهد مجالًا واسعًا للتأويل! نرى جانبًا من العلاقة بين الأب وابنه اللذان يشكلان عائلة أحادية الوالدية، نرافق جوان في زيارة إلى بيت والديه ونستمع إلى النقاشات الدائرة بينهم حول الضوابط والدين والزواج والسياسة. نقاشات لا يُخفي فيها جوان رأيه الذي يبدو غريبًا وربما مرفوضًا. فيما نرى “دون” الإبن وهو يتبنى مواقف والده.
من يتابع أغاني جوان -مثل أغنية “موال المايكروتشيب”- يرى بأنه يرفض حالة الاستعباد والرأسمالية، لكن الفيلم لا يتطرق لهذا النوع من الأغاني، ويشطب بهذا موقفًا مهمًا وكأنه لم يولد في السياق السياسي “الفريد” للفلسطيني حامل الجنسية الإسرائيلية، وهي ليست قصة جوان الشخصية فحسب، بل قصة جوان النموذج للفلسطيني الذي ينحدر تلقائيا من علاقة متباينة بين ثقافات مختلفة، الخلفية العربية والعقلية أو نمط الحياة الغربية.
***
نتعاطف، أو نتفق او نؤيد جوان في كل ما ذكر أعلاه، إلى أن نصل مرحلة يظهر لنا فيها ببعض التناقضات. يعيش في أرضه المحتلة يقاوم من جهة بأغانٍ تناهض المحتل وهيمنته ومحاولته طمس الهوية، فيما يدرس ابنه في مدرسة إسرائيلية، لغتها عبرية وقيمها إسرائيلية صهيونية!
هذا الجانب من الفيلم يعكس حالة هجينة، ناتج من تضارب الانخراط في مؤسسات الدولة الالزاميّة -كالمدارس- من جهة، ومقاومتها من جهة أخرى بالاعتراض على مواد تدريس من شأنها التأثير على تشكيل الهوية. نسمعه يمتدح التحسّن الملحوظ على قدرة ابنه التحدث باللغة العبرية لكنه يشجعه على الانخراط في مخيم صيفي على ارض برعم المهجرة، ويرافقه إلى مسيرة العودة حيث يحيي فلسطينيو الداخل ذكرى النكبة، وتبقى لغة الحوار بينهما الانجليزية. وعلى الرغم من أهمية الأمر، إلا أن مخرج الفيلم لم يفسح مكانًا لطرح النقاش حول ماهية استخدام الفلسطيني للانجليزية كمهرب من خلط العربية بالعبرية، وتفضيل الاولى على لغة المحتل الحالي وكأنها ليست لغة استعمار هي الأخرى!
***
ينطلق هذا الفيلم من نقطة جغرافية يتطوّر فيها الحديث ليغطي مساحات من الخطاب السياسي والاجتماعي والشخصي، ثم يتركنا لنتابع سيرورة دون ان نسمع صوت جوان بشكل مباشر. وعلى الرغم من ان المواقف الواقعية تقول أكثر بكثير -في بعض الاحيان- من الكلام المباشر، إلا أن التحدي في هذه الحالة العينية هو عدم ترك المشاهد أمام استنتاجات، خاصة اذا لم يكن يعي تمامًا معنى أن يكون الإنسان -والفنان صاحب الموقف على وجه الخصوص- فلسطينيًا في إسرائيل!
عم يبحث الفيلم؟ هل يكتفي بعكس صورة لفلسطيني مختلف عن معظم المشهد المحلي؟ وإن كان يتحدث عن متمرد أو نمرود فأي الثوابت تُخترق هنا ومن هي المستهدفة بهذا التمرد؟ هل الاختلاف عن البيئة المحيطة مهم لكونه اختلافًا فقط؟ كم تؤثر هذه الأغاني على الخطاب الاجتماعي والسياسي العام؟ من هو جمهور مستمعيها؟ ولماذا يختار سماعها؟
بقي الفيلم محصورًا في شخص جوان، وعرض حالة مثيرة لكنها أفقية، واختار غياب كل الأسئلة الهامة حول الدوافع والمسببات والتأثير على الآخرين، وضاعت بذلك فرصة لخلق نقاش اجتماعي/سياسي أكثر عمقًا ونضوجًا كان من الممكن أن يحوّل الشخصية الرئيسية من مجرد نموذج إلى حالة جديرة بالدراسة.
* وهي الأغنية الوحيدة في سجل جوان الفني التي تُغنّى بالعبرية وتتحدث عن الصعوبات التي يواجهها العربي في دولة الاحتلال.