ما بين السؤال الحائر، والإجابة الهاربة، عادة ما يحاول المرء الانتصار لروايته، أو تاريخه، أو مكانه، وربما لهويته الفردية والجمعية، وتراثها المرويّ والمكتوب، وهذا على ما أظن، المشروع الأساس للكاتب أسامة العيسة، ابن مخيم الدهيشة لجوءاً، وقرية زكريا تهجيراً. وهو ما قدمه في سرد ذاتي تويوغرافي في مظهره العام، تتبعيّ تاريخيّ في جوهره العميق، دوّنه الروائيّ بعنوان: “جسر على نهر الأردن – تباريح جندي لم يحارب”.
وتدوين تاريخِ المكان، مغامرة سيميائية خاضها الكاتب متسلحاً بالكثير من البحث الدقيق والشاق، باتجاه ربط الدلالات المكانية والزمانية بالإنسان، فكان لحضور القريةِ والمخيم والكهف والنبع والوادي، والأستاذ شريف وحمدية وعالية وحليمة ولويزا، معانٍ شكلت الفضاء السيميائي الذي زاوج ما بين تاريخ المكان وذاكرة الإنسان من البداية المكانية للرواية حتى نهايتها السردية.
والإشارة إلى النهاية السردية، تركن إلى أن الحكاية الفلسطينية بشكل عام، وحكاية اللجوء والمكان بشكل خاص، حكاية لا تزال أحداثها تدور وتروى، فلم تنته على أقل تقدير للفقراء كما يصفهم العيسة في مقامٍ أول، “ما زلنا نحن الفقراء أقدر الناس على العشق” وهي مجموعته القصصية الأولى التي أصدرها عام 1984.
والعشق بوصفه لغة تباريح الجندي الذي لم يحارب، في الطابع السردي للرواية، كان لسان حال “شلة الأنس” المكوّنة من ثلاثة جنود، هم يوسف الرطاسيّ، ويوسف السُريانيّ، وربحي المُهاجِر، ولكن العشق هنا ليس عشقاً بين محبوب وحبيبة، ولكنه عشق الفقراء للأرض ووديانها وعيون مائها، والأهم لناسها، فهم “فقراء لجأوا إلى فقراء ولم يكفوا عن إنجاب الفقراء طوال قرون” ص 184.
ولأن “البحث عن معنى للحياة، فيما الوطن يفقد المعاني” ص29، مهمة قد تُكلف المرء حياته،
أخضع الكاتب سرديّته لتقنية الصورة السرديّة المتحركة، التي يمتزج فيها الوصف بحركة السرد الروائيّ، ونمو أحداثه، فذهب إلى توزيع البطولة على ثلاثة أصوات لثلاث شخصيات مركزية؛ ليرووا لنا شجنًا واحداً من زاويا مختلفة، هو شجن الجندي الذي حلم بتحرير الأرض، فبات بين ليلة وضحاها جنديّاً في جيش جنّده؛ ليروضه “لم يجندونا لنقاتل، وإنما ليغلّوا أيادينا” ص43.
هل غيّرنا نحن جلودنا؟
العيسة الذي وقف أمامنا في روايته؛ ليحدّق طويلاً في وجه المكان، وهو يعي تماماً أن العلاقة ما بين حركة الإبداع والوطن، علاقة طرديّة لا تنمو إلا بالحركة، راح يلعب دور البصير في حضرة الضّرير، لكل من فاته الاطّلاع بعمق على هويته المكانية وتعبيراتها السياسية من جهة تحديد الشخصية السكانية للمكان، لا ليمارس الأستاذية فيعطينا درساً آخر في تاريخ الجغرافيا، وإنما ليأخذ بيدنا إلى ما تبقى من مخزونِ تاريخٍ يُمثل بشكل أو بآخر، أداة أخرى من أدوات النضال. وكأنه يقول: أنْ تعرف تاريخك وهويتك وهوية مكانك، يعني أنك تمتلك قوة من نوع آخر، ويعني أيضاً أنّ الأرض بجبالها ووديانها، يمكن أن تغيّر جلدها خضوعاً للطبيعة أو بفعل فاعل، ولكن الإنسان لا يجب أن يغيّر جلده، وإن حدث وغيّره، فعليه أن يغيّر لما هو أفضل وليس العكس، وهو اقتراح لإجابة قد تكون كافية، لسؤال الراوي على لسان أحد أبطال الرواية وهو يقول: “إنها تغيّر جلدها، هل غيّرنا نحن جلودنا؟ ص126.
ولأنَّ “الإنسان يتضاءل أمام عظمة الطبيعة” ص32، نجد أسامة العيسة، يؤسس لروايته على تقنية بنيويّة تتكئ على قاسمين مشتركين، هما: فضاء المكان، وهو في الرواية “قرية إرطاس” جنوب غرب مدينة بيت لحم، وتباريح الإنسان، والتباريح لغة إن أجاد الكاتب صياغتها، عبّرت عن الإنسان بوصفه الشاهد والشهيد في آن.
فأما المكان، فيلحظ القارئ محاولات الكاتب إعادة بنائه ذهنياً، إلى حد يصعب معه فصله عن الزمان، فيحدث أن يتناول الرّاوي الشأن السياسي، بلغة مكانية، تؤكد لنا وللآخر أن التاريخ ومهما حاول المحتل تشويهه أو تزييفه، يبقى تاريخاً شاهداً علينا وعليه، “كنّا صغاراً نسمع أخبار عمليات القتل في قرانا التي أصبحت بسبب النكبة، قرىً حدودية بين وطننا ووطننا” ص23.
وأما الإنسان، وهو في الحالة الفلسطينية، ذلك المحارب الذي عليه “محاربة العوج، عوجنا، وعوج أنظمتنا، بسيوفٍ صحيحة” ص19، فكان حضوره، حضوراً حسّيَا بصرياً قادراً على التقاط التحوّلات الكبرى والصغرى، باتجاه إخضاعها لمشرط التاريخ على مشرح التدوين، لنسمع الرّاوي يقول: ” سارت بنا الترّكات، وهي تُطوّح الجنود المتعلقين على الجوانب وفي المؤخرة (…) لقد أصبحنا في أمان، أمان مِمنَ؟ لا أحد يعرف ولا أحد يجيب، كلّ واحد من الجيش، عليه أن يعيش هروبه لنفسه ووحده، ويجيب عن أسئلته الآنيّة وتلك التي سترافقه إلى آخر العمر” ص167.
الهوية، سؤال القلق أم قلق السؤال؟
شغف الحرية الذي دفع بيوسف بطلة رواية العيسة، لأن يَرْشي شيخ المسجد في قريته، كي يذهب إلى التجنيد، “كالذي يذهب إلى النار طائعاً” ص44، هو نفسه شغف كلّ أبناء جيله ممن بحث كثيرا عن الخلاص، “خلاصٌ فرديّ وجماعيّ” ص108، ولكن يوسف وبدلا من الوصول إلى الحرية المشتهاة، وجد نفسه يبحث عن “كلمة أخيرة للمحارب المهزوم” ص131، وهو تائه بين فروق التخلّي؛ أن يتخلّى هو عن وطنه، أو يتخلّى وطنه عنه، وكذا “الفرق بين ضفّتيْ الجسر؛ الصمود، والعزيمة، والتشبث، والأمل، أو قطع الصلة، والهزيمة، والهروب” ص134، ليصبح القلق سؤالَ هويةٍ متأرجحٍ ما بين الفرديّ، “عاش أسلافي على قلق وكأن الرياح لا تهدأ، وهم يبحثون عن هوية، وهنا أنا الآن أيضا أعيش قلقي” ص138، وسؤال الهويّة المكانيّ، “ما الذي تحاول أسماء المواقع أن تخبرنا به؟” ص149، وفيما كان هو حائر بين هذا وذاك، تلخّصت الصدمة الكبرى في سؤال: “أية حرب هذه التي تُحسم قبل حتى أن تبدأ؟” ص166.
ولأنَّ الحرية ليست وجبة جاهزة، وللمحارب المهزوم ما زال هناك صوت ورأي، ولكون “دموع العالم كله لن تتمكن من تطهيرنا من نجس الهزيمة” ص172، سنلحظ إصرار الراوي على صياغة بنية حكائية، فيها من التدوير، قدر ما فيها من السير على خط دلالي مستقيم، يُشيّدُ شيئاً من التماثل ما بين النكبة والنكسة للاجئ الذي شُرّد في المرة الاولى ليصبح نازحاً في الثانية، “من ليس له خيار، فليتخذ خياره، يختاره، ولا ينتظره من أرض أو سماء” ص147.
ولعل في هذه الخلاصة، ما يدفعنا لتأويل عنوان الرواية ما بين مفهوميْ الجسر والنهر، فالأول بما يُرمز له من أمل، يربط بين واقع مؤلم وحلم مُرتبط بشرط الفعل الإنساني، سنجد الثاني بما يعنيه من تحوّل مستمر في صيرورة الحياة، ماثلاً أمامنا، كما مَثَلَ الجسر أمام أحد شعراء الصين وهو يقول: “أحياناً يغفو الجسر على الماء وينظر للآفاقْ”، وهو كذلك لدى الراوي الذي عبّر عن ذات المعنى قائلا: ” الجسر؛ هزيمة أو نصر، الجسر لقاء أو فراق، موت أو حياة، سير أو انبطاح، هروب أو إقدام، خوف أو شجاعة، عُلاً أو انسحاق، إقدام أو إدبار، شجاعة أو جبن، مغامرة أو مؤامرة، اندفاع أو تقهقر، كرامة أو انخساف الذات” ص 269-268
ختامًا، إذا ما اتفقنا على هذه الإحالة التأويليّة لدلالات العنوان “جسر على نهر الأردن”، فإنَّ العلاقة بين يوسف بطل الرواية وكاتبها، هي علاقة دلالية أكيدة بين العيسة “طفل البلاد التي ضاعت، وضاع على ضفاف الأنهر” ص285. والعيسة الطفل الكبير الذي أضاف سطراً في كتاب التاريخ لهذه البلاد وأهل هذه البلاد، هو سطر “تباريح الجندي الذي لم يحارب”.