أطلقتُ العنان لألبوم تريز سليمان الجديد منذ حصولي عليه، ولم أترك فرصة سانحة إلا واستثمرتها بممارسة حقي في الاستمتاع بالاستماع. حاولت سماع الكلمات بدقّة كي أردد ما يطيب لي منها، ووجدت نفسي أعيش حالة إنطلاق – كمن يترك جسده يطفو فوق مياه البحر المالح – كلّما ترددت على سمعي أغنية “حلوين”… كررت الأغنية مرّة بعد مرّة ولم أشعر بالضجر من صوت تريز وهي تغازل روحي بجملة “حلوين كُنا حلوين، يا ريت نرجع إثنين… والعالم مقاسُة غرفة”.
تريز سليمان، ابنة حيفا التي أجادت الوصول الى قلوبنا وآذاننا على مدار سنوات، وقدّمت لنا أغنيات قيّمة وجميلة اللحن كانت تحظى بالشعبية في فلسطين والوطن العربيّ. تريز شكّلت وتشكّل نموذجًا للمغنية الفلسطينية العصرية، أغانٍ تواكب الحداثة بالأداء واللحن، وتخاطب العقل والروح بإجادة انتقاء الكلمة، وتُبقي على هوية صاحبتها وخطها الفني.
لم يقف فيروس كورونا أمام سلسلة عروض إطلاق الألبوم فحسب، بل حال دون لقائي بتريز وجهًا لوجه، وكهذا ينطلق الألبوم للمستعمين على المنصات الرقمية، حيث لا يمكن لأي وباء أن يفقد المستمع متعة تذوّق الموسيقى.
هل يمكن اعتبار “موج عالي” ألبوم تريز سليمان الأول، كونه لا يضم شراكات مع فنانين آخرين كما في ألبوميّ “زهر اللوز” و”مينا”؟
“موج عالي” هو ثمرة ما تعلمت في “زهر اللوز” و “مينا”. هو ثالث الألبومات لأن العمل الفني هو عمل تراكمي.. أما عن التعريفات المتبعة ومنها ما يضع “موج عالي” في خانة “العمل المنفرد” فهو تعريف قلما يُخاطبني، لإنه طالما التفكير والتنفيذ من كل جوانبه لم يكن “منفردًا” فأنا لست مع هذا التعريف حتى في “موج عالي”.
تم إنتاج الألبوم من قبل شركة نرويجية، وهذا مكان لنناقش فيه مكان الإنتاج الفلسطيني والتمويل الفلسطيني للإنتاجات الفنية أليس كذلك؟
ألبوم “زهر اللوز”، كان من إنتاج الصديق الموسيقي سامر جرادات وألبوم “مينا”، تم إنتاجه بدعم من مؤسسة عبد المحسن القطان وصندوق المورد الثقافي. ما من شك إن الإنتاج الموسيقي في البلد في مرحلة تأسيس وصقل ويتطلب مجهودًا وتجندًا ومتابعة شخصية، لكن – برأيي- من غير المنصف مقارنته بالإنتاج الأوروبي (طبعا دون أن نتطرق للموارد المالية التي من المفروض أن تصرف على تطوير مشاريع فنية لكنها في واقع الأمر تصرف بطرق التوائية على أمور أخرى).
طالما نحن نتحدث عن ظروف معيشية غير طبيعية فلا يمكننا الحديث عن إنتاجات فنية بشروط طبيعية. أعتقد عند قيام دولة مستقلة تعترف بنا فسيكون موضوعيًا أكثر أن نناقش قضية تمويل الانتاجات الفنية.
تمتاز الأغاني بتنوع كبير في الأنماط الموسيقية، ويبرز جدًا حضور الموسيقى الالكترونية والايقاع السريع، هل هذا محاولة لتطوير وتنويع أكبر في خط تريز سليمان أم تماشيًا مع ذوق جمهور الشباب الذي يميل إلى هذا النوع من الموسيقى؟
هذا المشروع هو نتاج عمل مشترك مع الموسيقي الصديق ريمون حداد كملحن، لذا لا شك أن انغماس ريمون في السنوات الأخيرة في الموسيقى الالكترونية انعكس في بعض أغاني الألبوم، وربما نبض ولغة بعض النصوص مثل “جنرال أمل” أو “جوع” كان أرضية خصبة وتطلّب حضور الصوت الإلكتروني المُفرغ من أي حس بشري ليعكس الصور النصيّة بالشكل الأصح.
إضافة إلى هذا، فلا شك أيضا أني أكره التكرار، وأظن أن كسر الروتين والغوص والـ “بَحبشة” في عوالم جديدة جربتها أو لم أجربها من قبل هو أحد أجمل المُتع في الفن.
نلاحظ أن كلمات الأغاني تعدت قصص الحب المألوفة، أو المضامين الوطنية والسياسية، وتسير نوعا ما في سياق حيواتي فلسفي. حدثينا عن الرحلة اختيار كلمات الأغاني.
تجربة الكتابة في هذا الألبوم كانت من أكثر التجارب المشبعة بالتحدّي والمتعة بذات الوقت، بالذات مع وجود سقف زمني “مجنون” للكتابة، كتبت نصوص الألبوم الـ 9، نصّين كتجربة كتابة مشتركة بيني وبين صديقي الجميل الشاعر ياسر خنجر – إبن الجولان العربي السوري المحتل – ومرافقته لي على مدار سيرورة كتابة النصوص، جعلت التجربة من أغنى ما يكون.
أما من ناحية إختيار المواضيع فقد كان بداخلي ثقة أن لدي تراكم كافٍ من التجارب على الصعيدين الشخصي والعام يجب أن ترى النور. النقطة الوحيدة التي شغلتني، هي كيف أحكي عن الشخصي دون أن أنعزل عن العام وبالعكس.
أغنية “أنت” بكلماتها ولحنها تعيد للأذهان التهاليل و”التراويد” التي غنتها الأمهات الفلسطينيات لأطفالهن، هل هي استذكار للتهليلة الشعبية المعروفة؟
نص أغنية “إنت” هو من بين النصين الوحيدين المكتوبين منذ وقت طويل، وهو نص شخصي جدًا. لم أكن أتخيل بتاتًا أن يصل للصيغة التي سمعتيها في بالألبوم، لكن هذا ما سمعه ريمون منذ أن قرأ النص أول مرة، ورغم أنه حاول بكل جهده أن لا يصل به المطاف إلى هذا اللحن، إلا أنه في نهاية الأمر سمح لنفسه أن يسأل “وليش لأ؟”
هل الأغنية استذكار؟ قطعًا لا. لكن أنا أعتقد أنه لكل أغنية مجال وجاهزية لأخذ المستمع للمكان الذي يحن إليه أو لديه جهوزية أكثر للنسياب فيه.
الى أي مدى تشبه ألحان الأغاني كلماتها؟ مثلا لاحظت أن أغنية “مثل الميّ” أو “لما يحملني الموج” هناك شعور بأن الأغنية تأخذنا إلى فضاء يمكننا أن نسبح فيه، في حالة تحرر واتساع.
أظن إنه أحد أبرز جوانب نجاح ريمون كملحن في هذا المشروع هو أولا ترجمة نصوص الألبوم موسيقيًا دون الانتقاص من أهمية الكلمة والصور إنما احتوائها وتقديمها بالشكل الذي تتطلبه. ثانيا؛ عدم الانصياع للخيار الآمن الأقرب له كملحن. بمعنى أنه ليس كل ملحن كان سيقدر على تلحين الأغاني وتقديمها مع الحفاظ على “هوية” تريز، وليس الشعور بأن “تريز تغني ريمون” على سبيل المثال.
وثالثا والأجمل، لم يكن سهلًا أبدا “تقبّل” هذا التنوع في الألبوم، لكن هذا ما أعطاه الخصوصية والرونق، وهذا حتمًا يمهّد للمرحلة القادمة.
هل هناك خبايا أو تجارب مميزة خاضتها تريز خلال العمل على الألبوم؟
“موج عالي” هو أول ألبوم بعد ولادة إبني “مينا”.. توقيت إيريك – المنتج- واقتراحه للعمل على الألبوم وإصداره بعد نصف سنة تمامًا من لحظة الاقتراح كان فكرة مجنونة، وجاء في أكثر الأوقات غير المتوقعة. لكن ثقة المنتج وإيمانه بتجربتي ودعم الناس الذين أحبهم والطاقم الرهيب الذي على خوض التجربة معي والمجازفة دون تردد جعلني “أنط عالبحر”.
ما الذي تود تريز أن يتركه صوتها بعد أن يحملها الموج؟
تريز: “للسّما حلمي
للشّتا غنّاي
للأمل إبني
لصحابي سلواي
للأهل ضمّة
للحبّ كلمة
رح أترك بصوتي
لمّا يحملني الموج”