“إن جريمة الفكر لا تفضي إلى الموت، إنها الموت نفسه” يقول جورج أورويل في روايته 1984 ويضيف: “إذا كنت تريد أن تستشرف صورة المستقبل، تخيّل حذاءً يدوس ويدمغ وجه إنسان إلى أبد الآبدين”، ما يُمكّننا من التأكيد: إنْ أرَدْت أن تطلع على هذا المستقبل المشوّه في نسخته الديستوبية، حيث التخيّل هزيمة، والفكر جريمة، يمكنك قراءة رواية «حارس سطح العالم» (الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات تكوين، 2019) للكاتبة الكويتية بثينة العيسى. “يجب أن تفهم طبيعة عملك جيدًا، فهذه الأشياء التي نقوم على فحصها أشدّ خطورة من المخدّرات والأسلحة والحب، إنها كتب!” (ص 72)
فإذا ما اعتبرنا الكتابة في حقيقتها، هي عمليّة إعادة إنتاج للقراءة، فإنّ مصطلح الدستوبيا، بوصفه مصطلحاً معبّراً عن الأنظمة الوهميّة، يعد المعادل الموضوعيّ لفكرة اليوتوبيا التي عادةً ما تُستخدم للإشارة إلى المجتمع المثاليّ في المدينة الفاضلة كما تخيّلها أفلاطون، وأعاد طرحها الفارابيّ، الأمر الذي اجتهدت الكاتبة لتعبّر عنه من خلال تناولها لسلوكيّات المجتمعات والأنظمة الفاسدة في روايتها، وإن جاءت محاولتها هذه بالاتّكاء على فكرة التناصّ حيناً، والمحاكاة والاقتباس أحياناً أخرى.
هل أنا هو أنا؟ أم أنّ المجتمع هو الذي خلق الشخص الذي أنا عليه؟ سؤالٌ فلسفيّ عميق ومهم طَرحهُ الكاتب التشيكيّ فرانز كافكا في روايته «المسخ»، حاولَت بثينة العيسى إعادة إنتاجه من خلال إعادة طرح صِيَغ العلاقة ما بين الفرد والنظام من جهة، والفرد والجماعة من جهات أخرى، فكان الصراع الداخليّ لبطل روايتها رقيب الكتب، الذي يعمل في هيئة الرقابة الحكوميّة، وترتكز وظيفته على منع تداول الكتب التي تحتوي على ملافظ ومبانٍ تمسّ بالثالوث المحرّم، الرب، الحكومة، الجنس، “من أنا؟ أفصِحوا لي عمّن أكون؟ وإذا راقَ لي أن أكون ذلك الشخص، عندها سأخرج من الحُفرة، وإلا فَلَسوف أبقى هنا إلى أن أصير شخصًا آخر.” (ص102)
ولكي تصبح شخصاً آخر، عليك أن تكون سابحاً ماهراً في عمق اللغة، وأن تملك مهارات التورط في المعنى، ويمكنك أن تعزف على نوتة التأويل، لتحرس سطح العالم وعمقه، وهذا ما بات عليه رقيب الكتب، بطل بثينة العيسى في روايتها الغرائبية، “بينما ينزلق عقله في متاهات التفكير الازدواجي؛ أن تعرف وألا تعرف، أن تعي الحقيقة كاملة، ومع ذلك لا تفتأ تقصُّ الأكاذيب محكمة البناء، أن تؤمن برأيين في آن وأنت تعرف أنهما لا يجتمعان. أن تجهض المنطق بالمنطق، أن تنسى كل ما يتعين عليك نسيانه، ثم تستحضره حينما تمسّ الحاجة إليه، ثم تنساه مرة ثانية. أن تفقد الوعي عن عمد ووعي.” (ص 130)
ولأنّ التورّط في المعنى والسقوط في التأويل، لا يمكنهما التحقّق إلا عن طريق التخييل، في فضاء زماني ومكاني يعتبر، “التخيل في الأصل خطيئة” (ص83)، حسب كتالوج هيئة الرقابة، عملت العيسى على تقديم شخصياتها في حالة تطور مستمر، بحيث بات تمرّد الشخصيّات، أحد سمات أبطال العمل وبخاصّة الرقيب الذي عَلِم متأخراً بأنه ليس وحده من يحاول التمرّد، بل هناك خلايا سرطانيّة ما فتئت تخترق النظام.
نحن إذن أمام بطلٍ، هو أبٌ وإنسانٌ قبل أن يكون رقيباً، في روايةٍ تتصاعد أحداثها التي تستشرف مستقبل ما بعد التطوّر التكنولوجيّ، لتؤكّد أنّ الأنظمة الوهميّة الهشَّة في المنطقة العربيّة، إنّما هي أنظمة فارغة من أيّة مضامين تذكر؛ فقط تعمل على تشويه الماضي، ودفن آثار الأفكار، ومنع الخيال من التمدّد كي لا يحرّضَ على بناء مستقبل أفضل، بدءًا من البيت مرورا بالمدارس وصولا لمؤسسات الدولة، “المدارس مصممة لقتل المخيّلة، أو هكذا يفترض.” (ص37)
انطلاقاً من هذا الفهم، ولأنّ “دودة النظام تدفعك لابتلاعها في صغرك لتشرع بالتهامك طوال حياتك” (ص 118)، سنجد أنّ المفارقة الأكثر وضوحاً في سرديّة بثينة، تكمن في سلوك شخصيّتين مركزيّتين، لعبتا دوراً أساسياً في مساعدة الرقيب لاكتشاف نفسه أولاً، وتحوّله لقارئ ثانياً، هما شخصيّة طفلته التي تعاني من أعراض المُخيّلة، والسكرتير العجوز الذي حوَّل رقيب الكتب إلى حارس مكتبة ومن ثم مفتش سرطاني بالفطرة، مُنتمٍ إلى الخلايا السرطانيّة.
وعلى الرغم من فرضيّة الكاتبة على لسان الراوي إنّ “الواقع شيء لا يمكن إزاحته، ولا بمليون كتاب” (ص 102)، قدّمت العيسى روايتها في خمسة فصول ممهورة بخمسة عناوين تتكئ على خمسة روايات عالميّة محفورة في الذاكرة الجماعيّة، هي «زوربا» لنيكوس كازانتزاكيس، و«1948» لجورج أورويل، و«فهرنهايت 451» لراي برادبري، و«التحول» لكافكا، و«أليس في بلاد العجائب» للويس كارول. ما يحيلنا إلى سؤال الهويّة والأصالة، خاصّة وأنّ الكاتبة أوّل من أشار إلى التناصّ والمحاكاة والاقتباس، وربما المعارضة في خاتمة روايتها معتذرة. فهل ما قدّمته العيسى في روايتها «حارس سطح العالم» يُجيب عن سؤال الهويّة والأصالة؟ أم يورّطنا وأيّاها في إشكاليّات التناصّ ووظائفه البنيويّة، القائمة على المعارضة الأدبيّة وما يطلق عليه “الإيهام بالواقع”؟
القارئ الدارس لسرديّة العيسى يلاحظ غزارة الاقتباسات المطروحة بتصرّف يحرّك كلمة هنا وأخرى هناك، دون المسّ بالمعنى، وكأنّنا بالكاتبة تكرّر مقولة “فرويد”: “إننا ننهل من ذات النبع، ونعجن ذات العجينة” فهذه على سبيل المثال لا الحصر عتبة السردية تقول فيها الكاتبة: “عندما استيقظ رقيب الكتب من نومه ذات صباح، ممتلئاً بكلمات الآخرين، وجد نفسه وقد تحوّل إلى قارئ” (ص11). في المقابل نجد كافكا يقول في روايته «المسخ»: “استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلى حشرة هائلة الحجم”.
هذه الإحالة تأخذنا بداية في رواية «المسخ»، كما في رواية بثينة إلى فكرة الغرائبيّة ذاتها، رقيب بات قارئاً، ورجل أصبح حشرة، وكذا الأمر يتكرّر في بعض مشاهد الرقيب الذي يتمثّل زوربا راقصاً حيناً، وصعلوكاً ونبيلاً أحياناً، ما يطرح علينا سؤال: ما الجديد الذي قدّمته العيسى في روايتها؟ لربّما مقاربتها الخجولة لواقع التعليم في بلادنا العربيّة وأنظمتها الشموليّة، وربما حالة التشوّش التي تنتاب الإنسان العربيّ بما فيه الكاتبة نفسها وهي تقول: إن “الواقع شيء لا يمكن إزاحته، ولا بمليون كتاب”، فيما هي تجابه مقصّ الرقيب بالكلمة، والواقع بالخيال، والقمع بالأفكار.
وكي لا أبقى طويلاً على سطح اللغة، دون التورّط في المعنى، جدير بي الإشارة إلى أنّ بثينة العيسى سبق وأدهشتنا برائعتها «خرائط التيه»، وما ملاحظة غياب الهويّة الفنيّة للكاتبة في هذا العمل، إلا نقصاً يُمكننا القفز عنه كونه لا يُلغي وجود ملامح سرديّة عميقة تُحسب للكاتبة على صعيد اللغة تحديدا، على الرّغم من إشكاليّات التناصّ ما بين المعنى والتأويل.
هكذا انطلقت بثينة العيسى، في معالجتها لقضيّة الرقابة في صراعها المستمرّ ما بين الفرديّ والجمعيّ من جهة وبين السلطة من جهة أخرى، إلى أن تحوّلت محاذير كـ “التورّط في المعنى” و”السقوط في التأويل” لدى رقيب الكتب، إلى ضرورة لفهم الواقع واختراق النظام؛ “في تلك اللحظة، تمنى أن يزورها. أن يقف صغيراً عاجزاً أمام ملايين العناوين المحكومة بالإعدام، وأن يشمَّ رائحة الورق والغبار والخشب، ويسمع حفيف الأوراق السّمر، ويتحسّس بروز العناوين على الأغلفة الجلدية، وأن يقلُبها في يده.
عندما قرَّر أن يصير حارساً للمكتبة، لم يخطر بباله أنّه سيحرس مكتبة الحكومة من الحكومة.” (ص 123)