يقودنا فيلم “المنام” للمخرج السوري محمد ملص إلى عالمِ الشعور، نغوص معه في “منامات اللاجئين الفلسطينيين”، ونصل في سياقهِ إلى حالةِ شكٍّ حول العالم الذي ينتمي إليه الواقع الذي نشاهدهُ؛ فثمةَ الكثير من اللحظات الفارقة، الكثير من الصور السريالية، والكثير أيضاً من الفنتازيا، رغمَ أنه – أي الفيلم – ينتمي إلى السينما الوثائقية.
ينطبق على فيلم ملص رؤية الناقد محمد برادة لـ”الفنتازيا” حين عرفها بـ”الرؤية التبسيطية الفاصلة بين الواقع واللاواقع، بين المرئي واللامرئي”، وهنا نستذكر صرخة غريغور سامسا في رواية المسخ لكافكا حينما استيقظَ من الحلم ليجدَ نفسهُ وقد تحول إلى خنفساء: “لم يكن حُلماً”!، حتماً ما نشاهدهُ في “المنام” لم يكن حُلماً، وإنما تسربَ الواقع الفلسطيني بتعقيداته في مخيمات لبنان إلى مساحة اللاوعي لدى اللاجئين الفلسطينيين الذين يطاردهم هذا الواقع حتى أثناء النوم.
أمضى المخرج – حسب تصريحاته – ستة أشهر بين مخيمات شاتيلا وبرج البراجنة ونهر البارد وعين الحلوة من 1980 إلى 1981 أثناء تصوير الفيلم، انغمس خلالها في يوميات الفلسطينيين ليجمعَ أحلامهم حتى توقف عن ذلك في ضوء تطورات الأوضاع في لبنان، الذي سيشهدُ اجتياحاً يتسبب بانقطاع ملص عن هؤلاء اللاجئين، دون أن يعرف المصير الذي آلوا إليه بعد الاجتياح بحسب ما جاء في الفيلم.
يذهب ملص بكاميرته المحمولة على اليد إلى مخيمات اللاجئين في لبنان، يمشي في الأزقة، يدخلُ إلى البيوت المتلاصقة، يزور شخصياته في أماكنِ عملها؛ في السوقِ، داخل صالون حلاقة، مسلخ، مصنع للأحذية، قرب شاطئ البحر مع الصيادين، في الثكنات، ليستمع منهم إلى ما يرونهُ في المنامات، يستمعُ إلى الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، لنعاينَ أحلاماً فيها الكثير من الغرائبية والسريالية، أحدها – على سبيل المثال – لشابٍ يروي أنه رأى نفسه يركبُ في شاحنةٍ عائدين إلى فلسطين التي وصلوا إليها.. فبكى لأنه بقي وحيداً بعد أن توزع أبناء المخيم الواحد على القرى والبلدات والمدن الفلسطينية التي ينتمون إليها قبل النكبة!.
لا تكتفِ مقابلات ملص مع اللاجئين في تناول أحلامهم، وإنما تمتد أيضاً لتناول الواقع الذين يعيشون فيه، يسأل الصيادون عن أوضاعهم والصعوبات التي يواجهونها في العمل، نرى أم فلسطينية تمسكُ “رشاشاً” صنعهُ ابنها بيدهِ قبل اندلاع الثورة في العام 1965م، وكأنه كان يشعر بحاجته لسلاحٍ يحمي فيه نفسه وعائلته ويقاوم محتلي الأرض، ومقابلة مع فتاةٍ أصابتها الثورة باليأس فأخذت تجهزُ نفسها للهجرةٍ إلى مكانٍ آخر كأنما رحلتها في الحياة تسيرُ بها من منفى إلى منفى.
علاوة على ما تحملهُ الأحلام من رموزٍ كامنة في “لا وعي” اللاجئ الفلسطيني، والصورة التي تتشكل حول هذا الإنسان الذي اقتلعَ من أرضهِ، فإن كاميرا الفيلم المتجولة في أزقة المخيمات، التقطت الكثير من الرموز؛ فالمقابلات لعدد من الشخصيات تكونُ داخلَ “إطار”؛ نافذة، باب، والتي تحملُ رمزاً ثنائيًّا، إما “نافذةُ الأمل” و”باب الخروجِ من الضيق”، أو العكسَ تماماً، أن هذه الشخصيات ضمن إطارِ السجنِ داخلَ البيوت في المخيمات، وثمة بعض الصور التي تعرض الزمن الفلسطيني في إطار الصورة المعلقة على جدار، وهي لمقاتلين، أو شهداء، وتلك الصور المعلقة أيضاً على شواهد القبور.
في مشهدٍ شاعري صامتٍ يجمعُ الضدينِ، نشاهدُ أربعة فلسطينيين ممن أصيبوا بإعاقةٍ بسبب الحرب، يجلسون على مقاعدهم المتحركة وقت الغروبِ أمام البحر، لا نسمعُ إلا صوتَ تدفقِ الموج على الشاطئ؛ فبينَ رمزية التقييد المتمثلة في الإعاقة، والبحر الذي يرمزُ إلى الأملِ والحريَّةِ والحركة والثورة والفضاء الواسعِ المُضاد للانغلاق، نكونُ أمام نقيضينِ يمثلانِ الصراع المستمر.
في أماكنِ العمل، نرى المسخ الذي تذبحُ فيه العجول، السكين التي ركزت عليها الكاميرا أثناء شحذها، في مشهدٍ تكررَ، مع رؤوس الحيوانات التي تذبح، والدماء المتطايرة، في رمزيةٍ إلى استمرار واقع الحال الذي يعيشهُ الفلسطيني المذبوح منذ هجرتهِ، وربما تكونُ هذه الرموز على العكسِ من ذلك، أن هذه المأساة لن تنتهي دونَ تضحياتٍ تقودُ إلى النصر.
نرى أشبالاً ورجالاً في الثكناتِ والمتاريسِ، نسمعُ إلى أغانٍ لمارسيل خليفة، نشاهدُ السلاحَ، وكلها رموز تشيرُ إلى المقاومة التي اعتدَّ الفلسطيني بها واختارها طريقاً له، تتعزز هذه الصورة عبر بعض الأحلام والشاهدات المتمسكة في حقها بالعودة.
الألوان القاتمة والخلفيات السوداء في بعض المقابلات تعكسُ أيضاً الواقع المر الذي يعيشهُ الفلسطيني في مخيمات اللجوء، ولو أرادَ المخرجَ العكس لكان بإمكانهِ تصوير أغلب المقابلات في أماكنَ مفتوحة، أو لاستخدمَ إضاءة لكسرِ هذه العتمةِ والظلمة.
ورغمَ أن بعض الرموز توقعنا في حالةٍ من التأويلِ “بين بين”، إلا أن ثمةَ رموزاً واضحةً لا تقبلُ التأويل؛ الرجال المقاتلين مع خلفية أغنية مارسيل خليفة، العجوز الذي لم يمنعهُ سنه المتقدم عن أملِ العودةِ، آياتٍ من سورة يوسف تُحدثنا عن “غدرِ الأخوةِ” وعن نصرِ المُفترى عليه.
يستندُ المخرجُ في أحد المشاهد إلى مُقرءٍ في مقبرةٍ للاجئين الفلسطينيين يتلو فيها آياتٍ قرآنية كريمة من سورة “يوسف”، وما تحملهُ من دلالات عميقة على خذلانِ الأخوةِ في وقتٍ تكون فيه عدسة الكاميرا تتجولُ في أنحاءِ المقبرة التي ينتشر فيها أهالي الشهداء الذين تتوزع صورهم على شواهد القبور.
الرمز في الفيلم جاء ضمن مستويين؛ الأولى في منطقة اللاوعي، وهو مسار معنوي لا يمكننا الإمساك به، ومستوى آخر في واقع الماديات، نتلمسهُ ونراهُ بأعيننا ونحنُ نتجولُ في أماكن التصوير.
يؤكد هذا الفيلم قدرة الوثائقي على “صهر الأنواع” في بوتقةٍ واحدة عبر توظيف سلسل للموسيقى، والأغنية، والقصيدة، دون أن نشعر بتناقضٍ أو تباينٍ داخل بناء الفيلم؛ فضمن أدوات المخرج، كان المزجُ مع وجودَ رموزٍ لهذه الاختيارات التي لم تأتي من فراغ؛ فقصيدة محمود درويش “أحمد الزعتر” نسمعها بصوت الشاعر بينما اللاجئون في الفيلم يقومون بأعمالهم اليومية الاعتيادية.
بينَ الفيلمِ والقصيدةِ المذاعةِ في سياقِ بعض المشاهدِ رابطٌ يرمزُ إلى الإنسانِ الفلسطيني؛ فـ”أحمدُ العربي
يصعد كي يرى حيفا
و يقفزُ.
أحمد الآن الرهينة
تركت شوارعها المدينة
وأتت إليه
لتقتله
ومن الخليج إلى المحيط، ومن المحيط إلى الخليج
كانوا يعدّون الجنازة
وانتخاب المقصلة (..الخ)”
وصولاً إلى المقطع الذي يقول فيه درويش:
“كم أمشي إلى حلمي فتسبقني الخناجر
آه من حلمي ومن روما!
جميل أنت في المنفى
قتيل أنت في روما”
يستمر الفيلم في المزجِ بين الأنواع لكن هذه المرة تكون مع قصيدة مغناة على لسانِ مارسيل خليفة، مع توظيف إيقاعها الموسيقي، ضمن سياق تصاعدي، تكون الصورة فيه للمقاتلين، عبر أغنية “الذكريات”، نسمعُ منها “غضبي يرابط في ممر ضيق / بين الخيانة والامانة فاحذروا منّي/ أنا المترنح الصامد أنا المتراجع العائد/ أنا المتهدم الصاعد وأنا النهار المطفئ الشاهد/ من أول الصحراء حتى البحر”.
منحَ هذا المزج المُبدع الفيلم عمقًّا في الشعور الذي تكثف مع الصورة، وتدفقَ في سياقه العام، ليذهب في تناولهِ ومعالجتهِ نحوَ شكلٍ مختلفٍ خلاق استطاع أن يرفعَ من درجةِ التفاعلِ.
ما يُحسبُ حقًّا لهذا العمل أيضا قدرته منذ الدقيقة الأولى حتى الأخيرة على جذب المُشاهدِ إلى مضامينهِ التي انتظمت في خيطٍ واحدٍ يربطُ مجموعة الأحلام والقصص الأخرى في سياقهِ بتجانسٍ واحدٍ، كأنما كنا أمام “رواية”.