المقارن والقرين في مجموعة «على كتفين من تعب» لمحمد دقة

أحمد زكارنة

كاتب من فلسطين

فأما الشروع، فهو باب من نص واحد يفتح آفاق البناء المادي لتمثلات ما يسمى "الأنا العليا" وصراعها الدائم مع ضمير الغائب "هو"، ربما رفضا لاشتراطات الواقع المحيط سواء كان على الصعيد الاجتماعي أو العقائدي، فإن الأنا لدى الشاعر في هذا الباب، هي أنا الضمير المتمرد على مدارات الظروف الذاتية والعوامل الخارجية، فنجده يقول: 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

10/09/2020

تصوير: اسماء الغول

أحمد زكارنة

كاتب من فلسطين

أحمد زكارنة

وصحافي

لعل من أهم تجليات الشعر الصوفي، أنه يحقق في إحدى زواياه المركبة، البنية الأدبية التي توقف أمامها الكاتب والناقد المصري الراحل إبراهيم فتحي منتصف ستينيات القرن الماضي وهو يقول: “إن الشعر على وجه الخصوص، يبلور في هيكله التأليفي صورة الشخصية الإنسانية، الذات الإنسانية، وهو يعكس هذه الذات في عكوفه على خلقها “خلق” حواسها وقواها الانفعالية.” 

بهذا المعنى وقبل الدخول إلى عوالم الشاعر محمد دقة في مجموعته الثانية “على كتفين من تعب” الصادرة عن دار طباق للنشر والتوزيع في 2020، يمكننا أن نتوقف أمام ما اقتبسه من تصدير على غلافه الخلفي وهو يقول: “هذا نضال الهاربينَ من الحياة، وحيلة القلب الصغير العالق/ هذا ارتباك العاشق.

عبثاً سهرتُ على اختيار الوقت كي أغفو وأهفو، ثم أصدحُ بالكلام/ الغيب، أو أمشي إلى حتفي عزيزاً كالنبي الغارق”.

إذا ما أردنا البناء على هذا التصدير الشعري التعريفي لمحمول المجموعة الشعرية الباحثة في الذات وعنها، المتحدثة باسمها لا لتقول: هذا هو تمظهري الحسي، ولكن كي تشير إلى ضرورة الانتباه إلى الأنا الفردية والجمعية من دون إعلان مسبق بأن العلاقة، علاقة بين مجالين دالين، مجال تأكيد الهوية، ومجال محاكمتها.

ما يدفعنا لهذا الاستدعاء الباحث عن محاولة الاستنطاق، هو ما يمكننا تسميته بإيهام النص وإيهام التفسير، الأمر الذي أظن أن الشاعر تعمد وضع القارئ فيه عبر إهدائه وهو يقول: “نحتاج جميعاً إلى نعي، أحياء وأمواتاً، الماضي نعي الحاضر، والقصيدة نعي الشاعر”.

من هنا نلحظ حالة الانزياح الدلالي الذي حاول الشاعر دفعنا إليه، بصرف النظر عن مشروعية المحاكاة والتناص التي بدأ بها قائلا: “أنا ما نطقتُ عن الهوى، آخيتُ نجماً فاعتليت” (ص11). وهنا إن ألقينا نظرة على تفسير قوله تعالى: ” وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى – النجم، فسنجد جل تفسيرات هذه الآية الكريمة يدور حول مفهوم “الوحي الذي يُوحى”، ما يعكس حضور مفهوم الذات وهيكلها التأليفي المشار إليه أعلاه ومحاولات العكوف على حالة “خلق” حواسها وقواها الانفعالية. الأمر الذي إن ربطناه مع الأنا المضافة في بداية البيت، سيحيلنا إلى فكرة تأكيد الهوية من خلال ضمير المخاطب “أنا” لندخل والشاعر في متوالية صوفية تبدأ مع البيت الأول من المجموعة وتصاحبنا حتى السطر الأخير منها وهو يقول: “بي من تكامل كلّ شيءٍ كلُّ شيءٍ كلُّ شيء، لي دمي/ حظي، ولي حقي ولي عقلي الرصين”.

ويستطيع القارئ المتأني ملاحظة قُدرة الشاعر على التحوّل والتعدد والتنوع والركض والمراوغة، بين الأبواب الثلاثة التي جاءت المجموعة فيها ” شروع، مكوث، ذهاب”.

فأما الشروع، فهو باب من نص واحد يفتح آفاق البناء المادي لتمثلات ما يسمى “الأنا العليا” وصراعها الدائم مع ضمير الغائب “هو”، ربما رفضا لاشتراطات الواقع المحيط سواء كان على الصعيد الاجتماعي أو العقائدي، فإن الأنا لدى الشاعر في هذا الباب، هي أنا الضمير المتمرد على مدارات الظروف الذاتية والعوامل الخارجية، فنجده يقول: 

“أنا ما نطقتُ عن الهوى، آخيتُ نجماً فاعتليت” (ص11) 

“أنا طاقةُ الشهب، اختزلتُ جلالتي وسموت” (ص12) “أنا ما صبرت على انسداد الأفق، أجريت الكلام على مجاري الدمع، واستعذبت ملح الدمع، واستسقيت”.

وأما باب المكوث، ويلاحظ فيه القارئ استمرار حضور الأنا العليا، بوصفها صوت الأحياء والأموات، الماضي والحاضر، القصيدة والشاعر، كما نوه الأخير في إهدائه؛ فهو باب الشفاه المبللة المعنية بخلق لاهوت الشاعر الخاص “أنا الإله” وفق الغنوصية لدى المسحيين، كما الصوفية لدى المسلمين، إذ يستعرض الشاعر قدراته اللغوية في التحول والتعدد وهو يبحث عن طريق الخلاص والانعتاق عبر محاولته البحث عن إلهه الخاص في داخله، ما يذكرنا بما نقل عن المسيح عليه السلام حين سئل وفق إحدى الروايات المنقولة: “من الذي يبحث ومن الذي يكتشف؟” فأجاب: “إن من يبحث عن الحقيقة هو الذي يكتشفها”. كما ويذكرنا أيضا بالحكمة اليونانية القديمة “اعرف نفسك”، وقد استخدمتها الأفلاطونية وفسرتها بمعرفة النفس الإلهية في داخل الإنسان؛ بهذا المعنى نجد الشاعر يقوم بعملية تخليق لذاته “اللاهوتية” الخاصة فيقول: “ستظلُّ تهذي بالمكائد حول روحك، كلما أحببت نقصك أكملوه ليشغلك” (ص17). 

“قررتُ أن ألج الصفات جميعها، وأدورَ في فلك التساؤل، كي أرى ما لا يرى من غربة الأشياء حتى أستعيد جلالتي” (ص 25). 

“أرخيت الكلامَ على تخوم الدرب، صدقني الصغار، ولم أكن عبئاً على أحدٍ، ولكني استعرتُ من الحديقة شجرةً، وصنعتُ عرشاً واستويت” (ص 25). 

“آخيت نجماً هارباً من إخوةٍ سبقوه نحو الهاوية. أطعمتُهُ من زادِ أطفالي، وعريتُ الفضاء ليرتقي وصعدتُ نحو جبينهِ وهمست، أن لك كلُّ هذا الكونِ، فاسبح في العُلا، فعلا وأعطاني مفاتيح الغوايةِ، وانسحبتُ لأستريحَ من الهموم العالقات بكاهليّ” (ص34).

وخلافاً للبابين السابقين، نجد في باب “ذهاب” محاولات الشاعر التخفف من ثقل ما يمكن اتهامه به من زندقة، باتجاه رسم ملامح عميقة لتمثيلات ما يمكن تسميته بـ “الجغرافيا المؤجلة”، وهي جغرافيا المجاز التي تغبط الوقت على عدم الحضور المستعجل، على الرغم من حال الجدل المشتعل “ديالكتيك الشاعر” أن الذهاب بحد ذاته، قد يكون مُضياً فاعلاً في المكوث. وهو ما نجده ماثلا في قوله: 

“لا أعرف الوقت الذي أمضيته في الحب، أعرفُ حصتي من شائعات العاشقات، ولا أرى سبباً لأصبح عاشقاً” (ص47). 

“عرشي تشاطره السفوح صفاته، وله صفاتٌ لا تشابهها صفاتٌ في الحياةِ، ولا حياةٌ له سواي. أنا هنا، عرشي أنا، وأنا مقيمٌ في السكون” (ص51).

“أقسمت للوقتِ القريب من احتضاري، أن أغضّ الطرّفَ عن كل اللواتي يستطعن تجنّبي، أقسمتُ أن أختارَ وقتي، كلما عبر الحنينُ مفاصلي” (ص 53).

 “بي غبطةٌ للوقت، بي من عقدة الشعراء، ما يغوي النساء ويرتوي من حكمة الشعراء” (ص 65).

هكذا يقف الشاعر محمد دقة على مسافة واحدة من نصه المفتوح في مجموعته “على كتفين من تعب” لا ليقول فقط: إن الاغتراب عن الذات، كما الغربة عن البلاد، سجن مغلق في فضاء مفتوح، وإنما ليؤكد أن الشعر كالمدى يتسع ويضيق وفق تحكمنا في مقادير الانتصار في مواجهة الهزيمة، انتصار الذات على الانفصام لصالح الاتحاد، اتحاد الأرواح، الأجساد، والمحبين؛ فإن كان منهج طرفه بن العبد في بيته الشهير: “عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي”، بات منهجاً تربوياً معمولاً به لدى الأسر الصغيرة والكبيرة، فإن ما ورد في المجموعة موضوع البحث هنا، ينبئ بأننا أمام مجموعة شعرية مختلفة لا تكرر ما قيل، ولا تلغيه، ولكنها تبني عليه باحثة لها عن موضع قدم يقدم مجموعة شعرية في نص واحد مفتوح وإن قسم إلى أبواب لخدمة الشكل دون المس بالمضمون، وهو ما نلاحظه في قوله:

“أنا لا أصدقُ ما أرى، أنا لا أرى ما لا أصدقُ، 

قصتي ورديةٌ وقصيدتي حمراء، سوداويةٌ أفكار قلبي، لا بياض ولا رمادَ على يديّ، 

أنا اختيارُ الليل للعين النؤوم، أنا الكبيرُ، أنا الصغيرُ أنا الصرير،

أنا الضميرُ، أنا الشتاتُ، أنا الثباتُ أنا المقارن والقرين.”

الكاتب: أحمد زكارنة

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع