تجربة عائشة عودة… سردية السؤال والحرية

أحمد زكارنة

كاتب من فلسطين

الحرية بهذا المعنى تبدو لدى الكاتبة قضية مبدئية لا معنى لها دون مساواة، حتى في النضال الوطني، بوصفه نضالاً مشروعاً للإنسان من حيث هو إنسان، وفي الثورة حيث هي فن المستحيل الشاق، "ها أنا أقف مع ابن عمي على قدم المساواة، وأتخذ قراراً يعاكس قراره مائة وثمانين درجة"

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

07/01/2021

تصوير: اسماء الغول

أحمد زكارنة

كاتب من فلسطين

أحمد زكارنة

وصحافي

حينما كتب النفري جملته الأشهر “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” لم يكن يعلم أن أديبة ومناضلة فلسطينية ستأتي بعد قرون لتعادل هذه الجملة، بمعادلة تحاكي واقع الحياة في أقصى تجلياتها المؤلمة، لتصبح الجملة المعادلة على لسان عائشة عودة “يدخلونك الزنزانة، فيتسع الأفق” (ثمناً للشمس، ص. 112)

والمقاربة بين طرحي النفرّي وعودة، لم تأت على سبيل المصادفة ولا هي استدعاء للنقر على وتر الأصالة والمعاصرة، وإنما للتأكيد على أن البناء الفكري الرافد للمضامين، إنما هو بناء يُشيّده واقع الحال، فإن كان واقع حال النفرّي في حينه، يتحدث عن الصوفية وبعديّ العلم والمعرفة من منطق فلسفي، فهو أيضا لدى عودة يتناول واقع الصراع وتوظيفه لقوة الحق، وحق القوة، ولكنه هذه المرة من منطق “تنازع البقاء” على حد اجتراح نجيب نصار(1).

أحلام بالحرية

نحن إذن أمام صراع من نوع خاص، لا يرتبط بشرط التحرر من الاستعمار فقط، وإنما يتخطاه لشرط الحرية بمعناها الأعم والأعمق، وهو ما نلاحظه في تجربة الأديبة الفلسطينية عائشة عودة في كتابيها “أحلام بالحرية، وثمناً للشمس”، وهما يقدمان سيرة ذاتية وغيرية في آن.

ودوال مفاهيم الحرية التي تتكئ عليها عودة في تجربتها، يمكننا معاينتها بالعين المجردة في عديد أسئلتها المشروعة والمتكررة تحديداً في كتابها الأول “أحلام بالحرية” خاصة وهي تقول: ماذا لو كنت ولداً أو بلا أهل؟ هل سأصبح حينها حرة مثل أخي؟ أسافر وحدي؟ أقرر وحدي؟ أتحمل المسؤولية وحدي؟” (أحلام بالحرية، ص. 11)

الحرية بهذا المعنى تبدو لدى الكاتبة قضية مبدئية لا معنى لها دون مساواة، حتى في النضال الوطني، بوصفه نضالاً مشروعاً للإنسان من حيث هو إنسان، وفي الثورة حيث هي فن المستحيل الشاق، “ها أنا أقف مع ابن عمي على قدم المساواة، وأتخذ قراراً يعاكس قراره مائة وثمانين درجة” (ص.12) وذلك لأن “الحرية ليست شرطاً زائداً وتكميلياً (…) ولا ينبغي أن تناقش في إطار نظريات الحق الإنساني، بل في إطار نظريات الماهية والخصائص الطبيعية للإنسان” على حد تعبير كمال أبو ديب(2).

هذه الماهية، هي التي دفعت بعودة لاختيار النضال المسلح سبيلاً للتعبير عن كيانها الفردي من حيث هي فرد في الأسرة الصغيرة والممتدة؛ والجمعي من جهة أنه المجتمع الذي تنتمي إليه هويةً وتاريخاً، ولذا نجدها تقول: ” أليست الحرية قرارا؟ قرار الالتصاق بالوطن والدخول في صميمه؟ قرار مواجهة العدو حد الالتحام وخوض المجهول رغم الصعاب؟ وإلا، كيف للفأس أن تؤثر في النبت دون اقتحام الأرض ونبشها؟ وكيف للبذرة أن تنمو دون وجودها في التربة، تفتت الحصى وتشقق الأرض؟” (ص.25). وفي مقطع آخر: “إن لم أحترق أنا، وتحترق أنت، فمن أين يأتي النور؟ (ص95)

والوطن الأرض التي ترفض عودة الرحيل عنه، “لن أترك لهم الوطن” (ص28)، لم يكن سوى فضاء محكمة، عَقدت عليها الكاتبة محاكمتها لهذا المستعمر، ليس بوصفها أسيرة اعتقلت كما اعتقل العديد من أبناء وبنات جيلها، “لن أكون الفتاة الأولى ولا الأخيرة التي تسجن ما دام الاحتلال قائماً” (ص42)، وإنما باعتبارها الكف التي تواجه المخرز، فكراً وحياة، “وحدي أنا بينهم، وأنا ند لهم”. (ص61) 

إلا أن هذه الندّية لا شك بحاجة لأدوات وأسلحة وذخيرة، فكان أن أقدمت عودة على ممارسة فعل الكتابة بلغة أدبية عميقة، بوصفها الأداة، وبنص ناضج على المستوى الفني، باعتباره السلاح، ولأن الذخيرة لا يمكن إلا أن تكون بمستوى الحدث، كان الخطاب الذي عالج عديد القضايا الفكرية والاجتماعية قبل الثقافية والسياسية، فنجدها تهتم بتفاصيل السلوك الفردي والجماعي، سواء على صعيدها الشخصي أو أسرتها الصغيرة أو الممتدة، أو على صعيد لزميلات الاعتقال، في محاولة واضحة للغوص في سيكولوجيا المجتمع تارة؛ وبظلال العمل الحزبي والسياسي للأنا الوطنية والآخر النقيض “المحتل” مرات أخرى.
 

عودة في قاعة المحكمة عام 1969

ولعلها بقصد أو دون قصد، قد خصصت الجزء الأول من التجربة “أحلام بالحرية” الصادر في العام 2004، لما يعتل النفس البشرية من هموم وهواجس وأحلام، وهو ما يمكننا ملاحظته في عدد من الأمثلة، أولها حين تُقيم الحالة بينها وبين أمها بالقول: ” أدركتُ حالة أمي وما يحدثها به قلبها، وما تخشاه ويخيفها. كنت وإياها على موجتي إرسال مختلفتين، لا تستطيع إحدانا مساعدة الأخرى في تلك اللحظات فحسب، وإنما تسبب لها الألم”. (ص38)

وفي مثال ثان، تناقش ما استنتجته من الآخر النقيض المحتل: ” كان تدخله هذا خارج السياق أو هكذا شعرت، ربما كان شكله الذي يصلح لأن يكون ممثلا لا محققا، خارج سياق التحقيق. (…) رأيت فيه منطقهم المتناقض ووجدتها فرصة لأكشف ذاك التناقض. كأن المنطق هو سيد الموقف!” (ص92)

وفي ثالث، تستقوي بنفسها على نفسها فتقول: “لست بريئة من مقاومتهم ولا أرغب في تلك البراءة التي تحولني إلى إنسان لا موقف له من الاحتلال، وإنما يسأل عن سلامة رأسه. الاعتراف بفعل المقاومة يحررني من الخوف” (ص133)

لتنهي هذا الجزء المفتوح من السردية بالحديث عن تجربة الكتابة بالقول: “أحسست بتحدٍ كبيرٍ، وأدركت أن من لا يروي روايته بنفسه، فإنه يسمح لآخرين صياغتها على هواهم” (ص 195)، ولأنها لم تحزم أمرها في حينه ” هل حقاً، تحررت من السجن ومن آثاره ومن آلام التجربة؟ (ص197)، راحت تؤكد أنها عائدة لتستكمل ما بدأت فكتبت في آخر صفحة من الجزء الأول: “أعود للكتابة ربما لتأكيد أن تحويل التجربة العملية إلى وعي هو الأهم في التجربة ذاتها، لأنه زبدتها، ولأنه النسغ الذي يمنعها من الذبول والموت” (ص200)

ثمناً للشمس

ولأن أمر الكتابة في وعي الكاتبة كذلك، جاء الجزء الثاني من التجربة “ثمنا للشمس” الصادر عام 2012 وعلى الرغم من الفارق الزمني بينه وبين الأول، وهو ثماني سنوات، ليهتم بالسرد الغيريّ بما يشبه التساوي مع الذاتيّ، فكان أن استدعت لسرديتها العديد من رفيقاتها داخل المعتقل وخارجه، ما اطلع القارئ على جزء مهم من دور المرأة الفلسطينية والعربية والحرة في النضال الوطني فكانت ظلال تجارب “رسمية عودة، ولطيفة الحواري، عائدة سعد، رندة النابلسي، عفيفة بنورة، مريم الشخشير، دلال أبو قمر، وتريز هلسة، والظاهرة نادية بريدلي “الفرنسية من أصول مغربية”، وغيرهن. 

ولكون السجن ساحة نضال، لا يقل أهمية عن أشكال النضال خارجه، أوضحت لنا عودة كيف عملت وزميلاتها على جبهة المواجهة المعرفية، فتمثل لهن الانتصار الأهم في توضيح أكاذيب الاحتلال لجندية إسرائيلية من أصول فرنسية فاجئتهم بالزيارة بعد انتهاء خدمتها لتقول: “جئت اليوم فقط لأودعكن وأعلمكن أني قررت العودة إلى وطني فرنسا. لقد تحققتُ من صدقكن، واكتشفتُ الأكاذيب التي تضخمها الدعاية الإسرائيلية. لا يمكنني أن أكون مواطنة في دولة قائمة على الكذب وعلى ظلم شعب آخر”. (ص70) 

هذا الصدق الذي كان السلاح الأمضى لإدارة معركة الوعي، لم يكن ليتحقق أو ليصح أو يستقيم في وعي القارئ المتلقي، إن غفلت الكاتبة الجانب الإنساني والشخصي في تجارب الأسيرات، ولكنها لم تغفل، وإنما جاءت بما يؤكده، من خلال فرد مساحة لا بأس بها لتناول أحلامهن في الحياة المستقرة مع حبيب وزوج وأولاد، ” كان فتح القلوب حتى تُعبر عن مكنوناتها من العواطف عملاً جباراً (…) لكننا داخل المعتقل، تخطينا الكثير من الحواجز الاجتماعية والمقولات السلبية، ودخلنا صميم معركة كبرى (…) لا بدّ لدائرة الصمت أن تنفتح وتسيل منها الأسرار وتتحوّل إلى بلسم للقلوب وشموع تبدد ظلمة الأسْر، وتصبح الأرض سهلاً مشتركاً بلا فواصل” (ص95)

وإلى جانب فتح القلوب وسرد الأسرار، ولكون السؤال يشكل في علم الفلسفة سياقاً للمعنى، طَرحت سردية عائشة عودة العديد من الأسئلة، أكثر مما طرحت من إجابات، ما يعني أن الكاتبة لم تركن إلى المسلمات في أي من أسئلتها الكبرى، سواء تعلق الأمر بسؤال الوجود أو الفكر السياسي أو غيرهما؛ لم تُسلم إلا للحق والإيمان بعدالة قضيتها، فكان ردها على ما حدث في أيلول الأسود عام 1970 أن قالت: ” (لا) يا عائشة، لا تصمد الحياة على حالة بذاتها، وشعبك لن يموت، هي غفوة لن تطول، وإذا طالت، فعليك أن تبقي صامدة، ارسمي واكتبي، وإذا جاءك الموت وأنت في السجن، لتخرجي جثة أبية صامدة، إنه الحق لا يموت”. (ص150) 

مشكلة التجنيس، أدب سجون أم أدب مقاومة؟

برأيي أن ما طرحته عائشة عودة إلى جانب عدد من الأصوات الأخرى، من تصورات واقتراحات فكرية وذهنية وأدبية، في قوالب فنية تنهل من معين الجمال والإبداع، إنما يدفعنا لضرورة إعادة النظر في تصنيف ما يسمى بـ”أدب السجون” ذلك لأن هذا التصنيف يحصره ويحاصره دون وجه حق؛ ولأن سياسةَ التنميطِ بهذا المعنى، إنما لا تُفيد ولا تدعمُ ما يُنتجُ من أدبٍ حقيقيٍ داخلَ السجونِ أو خارجها.

وهذا لا يعني بالضرورة أننا لا نقدر عالياً ما ينتج من أدب داخل المعتقلات أو خارجها، ولكن لأن هذا التصنيف لا ينصف هذه الأعمال، بوصفها أعمالاً أدبية تملك من مقومات الأدب، ما يؤهلها لمنافسة أي أعمال أدبية كتبت في أي مكان أو زمان على سطح البسيطة وفي أية قضية كانت، هذا فضلا عن كون توثيق التجارب الشخصية على أهميتها ليس شرطاً أن يجنس أدباً يملك كل معايير الأدب، فيمكننا أن نسميه توثيقاً لتجربة أو أي اقتراح آخر يخرجنا من أزمة التعريف المكاني الذي نتهرب منه عمداً، ونحن من ننسى أو نتناسى أن السجن مكان، وعائشة عودة وزملائها وزميلاتها من كتاب الأدب بمقوماته المعروفة بشراً.

أخيراً، إن اللغة الحية والطازجة لهذه السردية على المستويين الجمالي والفني، لم تكتف بإتمام الصياغات، وإنما راحت تتقاسم دور البطولة مع بطلة السردية الكاتبة المبدعة عائشة عودة، التي تمكنت بأسلوبها المدهش، من المساهمة في صياغة خطاب تمكن من عقد محاكمة قد لا نسمع أو نرى نتائجها اليوم، ولكن يكفينا وإياها شرفاً، أنها كانت نداً لمحتل وطنها، كما كانت من قبلها جميلة بوحيرد يوم محاكمتها حين قالت الأخيرة: ” أعرف أنكم سوف تحكمون علي بالإعدام لكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم، ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة”؛ فيما جاء قول عائشة عودة بصوت لا لبس فيه:” سأعكس المعادلة؛ هم المتهمون وأنا التي تصدر الأحكام، أليسوا المضطهدين (بكسر الهاء) وأنا المدافعة عن كرامة الإنسان، فمنْ يحاكم من؟ (…) لقد تحررت من الإحساس بالقهر، وهذا هو الأهم”. (ص112)

وأهم الأهم، أن القص السردي بهذا الخطاب المرتفع، وهذا المعنى العميق، لربما يكون قد أجاب على الأسئلة الأكثر صدقاً وقوة لمن مثّل نبض شعبه في حينه، وعائشة عودة هي من قالت في مونولوج داخلي: “ألم نمسك بزماننا بكل إرادتنا (…) ألم نكن نحن الاتجاه المعاكس للهزيمة والهروب؟! 

 

إحالات

1-  المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة – ماهر الشريف نقلا عن نجيب نصار (ص.5)
2- “كتاب الحرية” (ص.86)
الكاتب: أحمد زكارنة

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع