يمكن اعتبار كتاب “سيسموغرافيا الهويات: الانعكاسات الأدبية لتطور الهويّة الفلسطينية في إسرائيل 1948-2010” الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وهو موضوع أطروحة الدكتوراه لمؤلفه منار مخّول، وثيقة تعرض وتحلّل قطعة من بازل الأرشيف الفلسطيني الذي نفتقده. فالمؤلف يعتبر الروايات التي شملتها الدراسة كنزًا في مكتبته، يعكس تاريخ شريحة معينة من المجتمع على امتداد سنوات.
يشير مخّول في حديث شيّق معنا، إلى حالة تغييب الكثير من الأدباء، واقتصار “الشهرة” على 13 اسمًا، فلماذا وكيف تم تغييب البقيّة وأعمالهم، من هم وماذا كتبوا، وأهمية ذلك في تكوين صورة أكثر شمولية وتعددية تتيح فهم المجتمع بشكل عميق أكثر. هل عكست الروايات هوية فلسطينية واضحة، أم تحايلت في الطرح؟ هل تحمل أسماء الروايات مقولة أم لا؟ وهل للإسرائيلي وجود في الحيز الأدبي الفلسطيني المحاصر بين النقد الذاتي ونكبة ونكسة؟
لماذا اخترت الأدب كمصدر لبحث تطور الهوية الفلسطينية؟
أطروحة الدكتوراة كانت رحلة بحث عن الذات، تمامًا مثل الرواية الأولى. بدأت دراسة العلاقات الدولية في فترة التوقيع على اتفاقية أوسلو، وانطلاق الانتفاضة الثانية، فأصبح موضوع الهوية يشغلنا أكثر بعد حدثين مفصليّين متتاليين. قبل ذلك كنت أقرأ بانتظام المقال الأسبوعي لسيّد قشّوع فخصّصت رسالة الماجستير لكتاباته في محاولة لفهمها من خلال نظرة ما بعد كولونيالية. في مرحلة الدكتوراة تخصصت في دراسات الشرق الأوسط، وكان السؤال الأهم بالنسبة لي فهم تطوّر الهوية الفلسطينية منذ النكبة وحتى اليوم. نبع اختياري للأدب من رغبتي قراءة التاريخ من منظور الفلسطيني نفسه. كتب توفيق معمّر في مقدمة روايته “مذكرات لاجئ” (1958) الرواية الفلسطينية الأولى في إسرائيل بعد النكبة. الرواية كتبت للابناء والاحفاد، نحن. كان يريد إيصال رسالة لي كابن الجيل الثالث للنكبة الذي اختار هذا المشروع ليعرف جذور هويته، هذا النص جعلني أغلق دائرة فتحها معمّر قبل أكثر من ستين عامًا.
ما هي أبرز الفروقات في الفترات الزمنية المختلفة لكتابة الروايات؟
الفترة الأولى كانت فترة الحكم العسكري والتأقلم مع الواقع الجديد بعد النكبة والتهجير ونشوء دولة وسيادة جديدة. وبحثت عن السؤال الشاغل للروائي الفلسطيني في تلك الفترة، ووجدت أن خطاب الروايات هو خطاب تحديث، بمعنى: حتى نندمج في الدولة يجب إغلاق “الفجوات الحضارية بين الشعبين”. لقد كان هناك تغلغل واضح لخطاب التحديث الصهيوني. بعد العام 67 نظروا للوراء واكتشفوا بأنّ الحل لم يكن ناجحًا فحاولوا التعاطي من جديد مع الواقع.
أحدثت النكسة في العام 1967 تحولًا جذريًا وولّدت يقظة لدى الروائيين، فعرفوا بأن الاندماج مستحيل، لأن المعيار الوحيد للاندماج في إسرائيل هو اليهودية. الفرق بين الفترتين هو أن خطاب التحديث كان يندمج مع المسألة السياسية والمساواة حتى النكبة، وبعدها كانت هناك محاولة للفصل ما بين السّياسي والاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك، تحوّل الخطاب إلى جماعي، في حين كان فردانياًً فيما قبل، ويتمثّل هذا على سبيل المثال في يوم الأرض. أما الفترة من الانتفاضة الأولى في العام 87 وقبلها اجتياح لبنان ومجازر المخيمات الفلسطينية، فقد استوت مع الانتفاضة الثانية واتفاقية أوسلو التي تخلّت عن الفلسطينيين في إسرائل فأعادت للذهن بداية القضية في الـ 48. بعد أوسلو وحتى العام 2010 تعكس الروايات نوعًا من الحيرة والبلبلة في الهوية، خصوصًا فيما يتعلّق بانعدام مشروع سياسي فلسطيني موحّد، أدّى إلى اللجوء، في جزء من الروايات، إلى النوستالجيا والفولكلور الفلسطيني كحيّز آمن فيه هوية واضحة. ولكن كانت هناك محاولات أخرى للتعاطي مع هذه الحيرة، أدرسها بتوسّع في الكتاب.
من المهم الإشارة إلى أنّ الأدب شكّل مساحة للعصف الذهني بخصوص المسائل التي شغلت بال المجتمع في كل مرحلة، وقدّم الروائيون فيها قراءاتهم وحلولهم بصدق. تعكس الفروق بين المرحلة والأخرى إعادة نظر في توجّهات سابقة بعد أن ثبت فشلها. هذه نقطة مهمّة حيث من السّهل تقييم، أو حتى تخوين، بعض الأصوات التي صدرت في مراحل سابقة لأنّها لا تتلاءم مع وعينا الحالي، وذلك بسبب جهلنا لسياقها التاريخي.
هل أثرّت الرقابة الإسرائيلية على مضامين الأعمال الأدبية التي تناولتها الدراسة؟
كانت الرقابة موجودة على الصحافة والإعلام والشعر بشكل كبير، لكنها -من خلال شهادات بعض أدباء تلك الفترة- لم يتم تطبيقها فعليًا وبشكل شامل على الكتب والروايات، وذلك بسبب قلّة انتشارها، أو “تهديدها” من المنظور العسكري الإسرائيلي في تأجيج المجتمع، مقارنة بالمقالات والشّعر الذي صدر في الصّحف والمجلّات واسعة الانتشار. من جهة ثانية انعدام الرقابة المباشرة لا يعني انعدام الرقابة الذاتية طبعًا، أو التحسّب من الرقابة. يتطرّق كتابي إلى عدّة مواقف لغوية وأسلوبية التي تعكس المحاولات الفلسطينية إلى “جسّ النبض” والتّحقّق من حدود الخطاب المسموح، وذلك في السّنوات والمحاولات الأولى على الأخص. ومن هنا فإنّه ليس من المفاجئ أن نتذكّر في هذا السّياق أنّ أوّل رواية فلسطينية في إسرائيل ألّفها محام.
أمّا بخصوص تشجيع المؤسّسة الإسرائيلية الكتابة ضمن توجّهات أيديولوجية معيّنة، فإنّ الأمر معروف تماماً، لكن من الخطأ أن نتجاهل تلك الأعمال وسحب شرعيتها ومصداقيتها، أو الإمساك عن دراستها. بهذا الصّدد تجدر الإشارة إلى حقيقة يتجاهلها البعض وهي أنّ “النصف الآخر” من الإنتاج الأدبي الفلسطيني في فترة الحكم العسكري جاء من خلال الدعم المباشر من الاتّحاد السوفييتي آنذاك، وكانت صدى لمواقفه السياسية والاجتماعية والثقافية. وعليه، علينا في الحقيقة أن ندرس الإنتاج الأدبي الفلسطيني في تلك الفترة من خلال وعي عميق للحرب الباردة، مثلما هو الأمر بخصوص الأدب العربي بشكل عام. اختار الأدباء الفلسطينيون، مثل نظرائهم العرب تمامًا، مواقف أيديولوجية متباينة، ويجدر بالأكاديمي التعاطي معها جميعها، دون الوقوع بفخ التقييم السياسي، من أجل الوصول إلى فهم أعمق للتيارات الأدبية والسياسية والاجتماعية في مجتمعنا.
إلى أي مدى تعتبر الروايات مخلصة في نقل الواقع؟
بطبيعة الحال، مسألة “الإخلاص” في نقل الواقع لا يمكنها أن تكون موضوعية. تعاطى الروائيون والروائيات الفلسطينيون مع مسائل وجوانب وقضايا مختلفة من حياتهم ومجتمعهم، فركّز كلّ منهم في المجال الذي كان يهمّه.
هل اللقاء الفعلي للمجتمع الفلسطيني بالإسرائيلي أثر على الروايات؟
نعم، وبشكل واضح ومستمر. تكمن أهميّة رواية “وبقيت سميرة” لعطالله منصور (1963) في أنّها جسّدت لحظة اللقاء الأولى هذه وتداعياتها. لحظة تثير نوع من البلبلة والتضارب داخل نفسية سميرة، بطلة القصّة. هذا تخبّط حقيقي على المستوى النسوي والثقافي الاجتماعي والسياسي، فهو يتحدث عن إمكانيات التأقلم وما يصاحبه من تخبطات. لا يزال هذا التخبط قائمًا ويتجلّى في الأدب وأيضًا في السينما الفلسطينية بعد ستّة عقود، مثلما هو الأمر في فيلم “بر بحر” على سبيل المثال.
حدثنا عن المقصد من خطاب التحديث والخطاب المضاد للتحديث.
يدمج خطاب التحديث المسائل الاجتماعية والسّياسية معًا، فمن أجل الوصول إلى مستقبل سياسي جيّد على المجتمع “التقدّم إلى الأمام” في جميع المجالات معًا. آمن البعض في هذا المنطق في السّنوات الأولى (مع أنّه يتجاهل تمامًا الحيثيات التاريخية لعدم “المساواة” بين الشّعبين)، ولكنّه سرعان ما تحطّم على جدار الصهيونية، لأنّ مسألة الاندماج في المجتمع الإسرائيلي هي عرقية، وليست مدنية مبنية على المواطنة. كان أحد ردود الفعل الفلسطينية، بعد العام 1967، هو قلب المعادلة تمامًا، وتحويل السؤال إلى سؤال محو، فمحى الفلسطينيُ الإسرائيليَ تمامًا في مجموعة من الروايات.
من هو الإسرائيلي الذي يظهر في الروايات؟ هل يظهر كنقيض للفلسطيني بهدف تعزيز هويته أم كتجسيد لواقع وتعزيز فكرة الاندماج؟
من الصّعب التعبير عن تصوير الإسرائيلي في 75 رواية فلسطينية بدون دراسة عينية ومخصّصة بهذا الشأن، ولكن انطباعي العام الآن هو أنّ الإطار الجامع للشخصيات واحد: يعكس الإسرائيلي السّلطة وعلاقات القوة، هو القوة التي نتعاطى معها مهما تمّ تجسيدها بشخصيات تبدو ضعيفة المكانة مجتمعيًا.
تطرقت في بحثك إلى استخدام كلمات مثل مهجورة بدل مهجّرة ورحيل بدل ترحيل، فما هي دلالات استخدامها في الروايات؟
مثلما قلت سابقًا، من الواضح أنّ جزءاً منها نتيجة رقابة ذاتية أو مواقف سياسية معيّنة. إنّ موضوع توصيف الوقائع التاريخية وتوظيف اللغة في التعبير عن مواقف الروائيين هي مسألة في غاية الحساسية ويجب التعاطي معها بالحذر اللازم، خصوصًا بسبب طيف المواقف والآراء الواسع بين عشرات الكتّاب والروايات التي صدرت خلال فترة امتدّت على مدار سبعين عامًا.
هل تمّ التطرق لأحداث تاريخية مفصلية كالنكبة والنكسة كمحرك للروايات؟
بشكل عام، وما عدا النكبة طبعًا، لم تتطرّق الروايات الفلسطينية في إسرائيل بشكل مباشر إلى عدّة من الأحداث المفصلية، مثل مجزرة كفر قاسم أو حدث هام مثل يوم الأرض. لكن هذا لا يعني أنّ ليس لهذه الأحداث تأثيرًا على الخطاب والكتابة الروائية، لكن يحدث هذا من خلال التأثير على الوعي العام “في الخلفية”.
هل حمل الأدب المتناول في الدراسة دعوةً إلى تحرر المرأة وإلى خطاب نسوي؟
نعم. كان الخطاب النسوي حاضرًا منذ البدايات، وكانت هناك روايات تطرّقت لاضطهاد المرأة. روايات التحديث افتُتحت جميعًا بدعوة للتحرر من القديم، وبضمنها مكانة المرأة. مع أنّ دراستي لم تركّز على المسائل الجندرية بشكل خاص، لكن تجدر الإشارة إلى زيادة الاهتمام الأدبي الفلسطيني فيه في السنوات الأخيرة، خصوصًا فيما يتعلّق بالمثلية الجنسية، نذكر أعمال راجي بطحيش على سبيل المثال.
إذًا، يمكن الاستخلاص بأن رؤية هذا الأدب كانت وصفية أكثر منها نقدية؟
يمكن القول بأن الرؤية كانت نقدية ووصفية. فالعمل الأدبي يتعاطى مع الواقع ويخلق فضاءً للحوار في المسائل التي تشغل بال المجتمع، فتظهر في الروايات محاولات لتشخيص حالات عينية ومن ثم محاولة إعطاء حل.