في عاصمة جامعة للكثير من الثقافات والمنابت مثل عمّان، تظهر الحاجة إلى مجموعات ومؤسسات ثقافية وفكرية واجتماعية نابضة بالحياة، وناطقة بلغة حديثة مستقلة، تحتاج عمان إلى مكتبة حيّة، تملك فلسفتها الخاصة، وتمنح مساحتها للمساعدة في بناء جيل عربي يقرأ ويبحث ويناقش وينخرط في أجواء تنتج أفكاراً ومعرفة تتناسب مع تطور العالم، فالقراءة الصامتة التي تمارس عادةً في المكتبات ترسّخ علاقة أحادية مع الكتاب والكاتب، ينقصها النقاش والجدل حول الكتاب، ولا تمنح المادة المقروءة فرصتها في التدخل في الأفكار الشفاهية، والتواجد ضمن المساحات الاجتماعية والثقافية المشتركة بين الناس.
تعتبر مكتبة الأرشيف مكاناً حيوياً لبيعٍ مباشرٍ للكتب، وتهدف إلى خلق فضاء اجتماعي ثقافي آمن وصديق للبحث والتجاور والتحاور والقراءة، إيماناً بفكرة أن الكتاب منتج اجتماعي، دوره أن يخلق جدلاً وحواراً واختلاف في وجهات النظر بين القراء.
تتكون المكتبة من قاعة داخلية واسعة، تعرض قائمة كبيرة من الكتب التي تغطي العديد من الموضوعات؛ في الثقافة والأدب، والفنون، والتاريخ، والاجتماع، والأديان، والرواية والسينما، والعمارة، والفنون، وقصص الأطفال، كما تقدّم المكتبة مساحة آمنة وصديقة للعمل والاجتماع والدراسة والبحث.
جاءت أهمية مكتبة الأرشيف وتميّزها بين المكتبات في الأردن لكونها نجحت في خلق مساحة ثقافية واجتماعية، تتيح فرصة الانخراط في القراءة والنقاش والحوار؛ وذلك عبر العلاقة الشفاهية والاجتماعية والفكرية التي تحدث بين روادها، إضافة لكون المكتبة تحاول خلق شراكات متفاعلة مع الكثير من الفنون عبر تقديم العروض الموسيقية، وتصوير المشاهد السينمائية، وعرض الأفلام عبر شاشاتها، والعروض الراقصة، وعروض مسرح للأطفال، واستضافة حكواتي/ة، وعقد حواريات مباشرة مع كاتبات وكتّاب لمناقشة أعمالهم عبر أسئلة تطرح من قبل الجمهور، ونقد وجدل حول أعمالهم يطرح أمامهم بشكل مباشر.
تتيح مكتبة الأرشيف ضمن شراكاتها مع “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في مشروع الأرشفة، المجال أمام الباحثات والباحثين في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، فتقوم المكتبة بتوفير مراجع ووثائق للكتب التي تخص موضوع البحث. كما تقدم المكتبة فضاءها للباحثين في مشروع الأرشفة، وتساهم ضمن شراكتها مع “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، وعدد من المؤسسات البحثية والأكاديمية الأخرى، على أرشفة وتأريخ القضية الفلسطينية، لإعادة إنتاج التاريخ الفلسطيني، واستعادة الحق في الذاكرة من خلال الأرشفة والبحث.
في حديث لـ “رمان” مع عبدالله البياري، مدير مكتبة الأرشيف عن الحاجة إلى المكتبة، قال: “جئت إلى عمان بعد تجربتي في الإقامة في مدن كبيرة مثل القاهرة، ما يجمع هذه المدن هو وجود كثافة فكرية، حين وصلت إلى عمان كنت بحاجة إلى فضاءات اجتماعية تعنى بالسؤال الثقافي والكتاب سوياً، في عمان يوجد مساحات ثقافية ويوجد مكتبات، لذا من الضروري وجود مساحة جامعة للثقافة والكتاب، من هنا جاءت الفكرة في خلق فضاء اجتماعي وثقافي، يوفّر مجموعة كبيرة من عناوين الكتب للقراء، ثم العمل على إعادة إنتاج المادة المقروءة من خلال الحوار وليس البيع فقط، نحن نؤمن في مشروعنا أن على الكتاب أن يصير مادة قابلة للنقاش بين الناس.” يضيف البياري حول الصعوبات والتحديات التي تواجه مكتبة الأرشيف: “تواجه مكتبة الأرشيف واقع قرصنة وسرقة الكتب، وتزويرها، حيث أن سوق بيع الكتب في الأردن مهددٌ طيلة الوقت بخطر السرقة والتزوير”. أضاف البياري: “نحن نحاول بشتى الطرق التصدي لحركة طباعة وبيع الكتب المزورة في الأردن من خلال رفد المكتبة بالإصدارات الأصلية، وهو أمر نتطلع أن ينتبه إليه القراء والناشرون”.
في حديثه عن فعاليات المكتبة، قال: “قبل كورونا تخطت فعاليات المكتبة حاجز الـ 150 شخصاً، في حين كان سقف الحضور للفعاليات الثقافية في عمان لا يتجاوز العشرين شخصاً في الغالب. لقد اتخذنا قراراً لعقد بعض الفعاليات بشكل افتراضي ليتمكن عدد كبير من الحضور والمشاركة. لقد بدأنا منذ فترة في سلسلة لقاءات عنوانها “فلسطين في الكتابة التاريخية” بالشراكة مع مراكز بحثية عربية، وأجنبية وجامعات مختلفة منها أمريكية، وباحثين وباحثات في المجال. أذكر عندما عقدنا سلسلة حوار عن الضم والتطبيع والأبارتهايد، والتي تخطت العشرين جلسة شارك فيها أكثر من خمس وثلاثين باحثاً ومفكراً وأكاديمياً وفناناً وكاتباً، قد فاقت مشاهدات بعض الفعاليات 40 ألف شخص”.
عن القراءة كنشاط جماعي كما هو فردي، تقدّم له المكتبة المساحة الضرورية، يقول البياري ” يوجد في عمان الكثير من نوادي القراءة، جميعها نوادٍ مميزة، مكونة من قرّاء وقارئات نوعيين، بعض النوادي التي استضفناها في مكتبة الأرشيف كانت تتكون من مئة وعشرين قارئاً، حيث أن المكتبة تقدم لهم أسعاراً مخفضة، وتمنحهم مساحتها للقراءة والنقاش والبحث. أحد نوادي القراءة طلب من المكتبة تزويده بمئة وعشرين نسخة لعنوان واحد، ما يؤكد وجود زخم ثقافي وفكري واجتماعي يتخلّق الآن من خلال جيل الشباب في عمان. تتطلع مكتبة الأرشيف إلى إنتاج حالة ثقافية شبابية يكون الكتاب جزءاً منها، تتجسد هذه الحالة من خلال التأمل في اليومي المعاش ككل باعتباره جزءاً من الحدث السياسي والفكري والاجتماعي وعرضه للتفكير”.
تشارك المكتبة في برامج تدريب لطلاب وطالبات الجامعات الأردنية، إضافة إلى عقدها شراكات محلية وعالمية، مثل الشراكة مع “الملتقى التربوي العربي” في مهرجان حكايا السنوي، والشراكة مع “جمعية الثقافة العربية” في حيفا في مهرجان المدينة و”مركز المخطوطات الملكي” التابع لرئاسة الوزراء الأردنية.
أثناء الجولة بين أقسام الكتب وقراءة عناوينها، تلتفت إلى أوراق معلقة على الرفوف، تحمل آراء القراء السلبية أو الإيجابية، آراء حرة ومتنوعة، مثل “أقل من التوقعات”، و”مستفز”، و”جميل”، و”ينصح بقراءته”، ما يؤكد أن ثمة وجود ملموس للقارئ بعد مغادرته المكتبة، وأن الكتب ليست مادة للعرض فقط.
تحاول المكتبة استعادة الحق في الفضاء العام للمدن العربية، عبر محاولات تكريس العلاقات الاجتماعية الشفاهية، في مناقشة الحركة الثقافية، والفنية والسياسية والاجتماعية، فالمساحة مفتوحة للقراءة والبحث، ولإبداء الرأي والاشتباك، والتفكير بصوت مسموع، وللتشارك في الفهم، إضافة لسعيها لتكون جزءًا أساسياً من المشهد الثقافي في عمان، من خلال علاقاتها التشاركية والتعاونية مع مؤسسات أخرى معنية بالشأن الثقافي والفني، منها “المعهد الوطني للموسيقى” و”مهرجان حكايا” و”الملتقى التربوي العربي”، وغيرها.