في مجتمع نرجسيّ، كما هو المجتمع الفلسطينيّ، ليس من السهل أو اليسير أن تواجه نخبَهُ متعدّدة المشارب الحزبيّة والايديولوجيّة، بحقيقة أنّ منظومة الفكر السياسيّ الفلسطينيّ، لا تملك أو لم تعد تملك مشروعاً ثقافياً سياسياً واجتماعياً واضح المعالم على نحو يدفع الحالة الفلسطينيّة، باتجاه إنجاز مهمّة التحرير أو التحرّر.
وما بين فكرة، أنّ المنظومة لا تملك، أو لم تعد تملك، تتمظهر مساحة انزياحٍ تشير إلى أنّ الحالة الفلسطينيّة، قد شهدت فعلاً ملامح مشروع ثقافيّ سياسيّ في النصف الثاني من القرن العشرين، رسمت خطوطه العامّة والعريضة عديد الأسماء المؤثّرة عربياً وفلسطينياً ودولياً في آن، من طراز، غسان كنفاني، محمود درويش، ناجي العلي، إميل حبيبي، إدوارد سعيد، إبراهيم أبو لغد، وهشام شرابي وغيرهم، هذا فضلا عن تشكّل النواة الأساسيّة لمراكز الأبحاث الفكريّة والدراسات الاستراتيجيّة، كما هو حال “مركز الأبحاث الفلسطيني”، والمنابر الصحافيّة والنقابيّة والفكريّة الحزبيّة والوطنيّة التي انتشرت بشكل ملموس منتصف سبعينيّات القرن الماضي، إلا أنّ التحوّلات الكبرى التي شهدتها المنطقة العربيّة بشكل عام بعد غياب الزعيم جمال عبد الناصر، ومنظّمة التحرير بشكل خاص، على خلفيّة طرح ما عرف بالبرنامج المرحليّ ذي النقاط العشر، أدّت إلى انتقال المعنى من حال الثورة إلى حال التسويّة السلميّة، مما شكّل جداراً عازلاً أمام النموّ الطبيعيّ لهذا المشروع المقاوم. على الرّغم من مقولة وثيقة الاستقلال في العام 1988: “إنّ العدل وحده لا يُسيّر عجلات التاريخ”.
ويكفي أن نشير في هذا المقام إلى أنّ الثقافة الفلسطينيّة التي ساهمت بشكل فاعل ومحسوس في تعريف العنف الثوريّ في الأدبيّات المناهضة للاستعمار، ومهمّته في عمليّة المجابهة والتحرّر، لم تعد مصدر إلهام لشعوب المنطقة العربيّة والعالم بأكمله، كما كان الحال في سبعينيّات وثمانينيّات القرن العشرين، حيث إنها تخلّفت عن محاولة البناء على مقولة غسان كنفاني المهمّة في هذا المعنى: “إنّ الإنسان لا يختار تاريخ ميلاده، ولكن بإمكانه أن يختار طريقة موته”، إلا أنّ المفارقة اللافتة في هذا الأمر، تكمن في ملاحظة شكل من أشكال الوعي بالهزيمة لدى شريحة واسعة من مدوني السرد الفلسطينيّ على امتداد العقود الخمس الماضية، غير أنّه وعي لم يستطع حتى اللحظة، أن يؤسّس لسياسات رسميّة أو شعبيّة، يمكنها أن تحوّل الهزيمة إلى انتصار.
وتنطوي فكرة الحديث عن المشروع الثقافيّ السياسيّ على حالة التباس عينيّة لا تميّز جيداً بين إنتاج الأدب بوصفه أدباً، وصياغة أسلوب حياة تملك زمام الحركة في نطاق قيميّ يمكنه أن ينهل من التراث الاجتماعي، ليشارك في خط مفردات التاريخ السياسيّ، فيشكّلا معاً رافعةً للفعل الثقافي، إلى أن يصبح أداة وعي وبناء ذهنيّ على نحو ينتج مجموعة من القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة وحتى السياسيّة والاقتصاديّة، لا تُصاغ إلا عبر مشروع ثقافيّ سياسيّ يعمل على مجابهة إكراهات الواقع، ويعي متطلبات التحرّر من الاستعمار وتعبيراته الظاهرة والمستترة، ليحدّد مفهوم الخطاب في سياقه الفاعل المهيمن على الوعي الفرديّ والجمعيّ، كي يصبح المثقّف الملهم في محيطه البيئي، هو الشخص القادر على تفكيك النظريّة لتصبح ممارسة، والسياسيّ الفاعل هو المتحرّر من اشتراطات نظريّة فن الممكن، لصالح الفكر الاستراتيجيّ الجامع بين المحدّدات التاريخيّة والحدود الجغرافيّة دون التخلّي عن الشروط الوطنيّة.
للوهلة الأولى تبدو فكرة المشروع بهذا المعنى، فكرة ضبابيّة الملامح، مراوغة التأطير، ما بين مفهومي الهزيمة والمقاومة، بما لا يتّفق أو يتوافق مع موضوعيّة التحقيب الزمنيّ للأمرين معاً أو كلّا على حدة، إلّا أنّ حقيقة الأمر تقول: إنّ الوصفة السحريّة لمثل هكذا مشروع لا تتمخّض عنها مخرجات آنيّة بالضرورة، قدر تحديدها للمسار وتفاعلاته في سياق سجالات السؤال الشائك والملّح حول علاقة الثقافيّ بالسياسيّ؟، حيث لا إجابات حاضرة أو معلّبة، كي لا تصبح “اللعبة السياسيّة هي محرك المسميّات” على حدّ تعبير الراحل علي الخليلي.
وفي ذلك قال غسان كنفاني في كتابه المعنون “الأدب الفلسطينيّ المقاوم تحت الاحتلال” عام 1968: “إنّ الشكل الثقافيّ في المقاومة يطرح أهميّة قصوى ليست أبداً أقلّ قيمة من المقاومة المسلّحة ذاتها، وبالتالي فإنّ رصدها واستقصاءها وكشف أعماقها تظلّ ضرورة لا غنى عنها لفهم الأرض التي ترتكز عليها بنادق الكفاح المسلّح”.
وهذا ما يجعلنا نشير إلى أنّ فهم الأرض في سياق الكفاح المسلّح، لا يتشابه بأي حال من الأحوال مع صورته الماثلة في الحاضر الراهن بكل تجلّياته السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي نرى ونلمس في زمن التسويات السياسيّة المبتورة، وهو أيضا ما يدفعنا للحديث عن هذه القضيّة باستخدام تعبير مركّب كـ “المشروع الثقافيّ السياسيّ”، أولاً للتمييز ما بين الثقافي والأدبي، وثانياً للتأكيد على أنّ البنى المفهوميّة لتكامل ما هو ثقافيّ مع ما هو سياسيّ والعكس، هو ما يشكّل مفهوم “النطاق المركزي” وفق نظريّة الألماني “كارل شميت”، وهو النطاق الذي إن صحّ، صحّت كل النطاقات الهامشيّة، وإن رافقتها بعض الخطابات المتنافرة أو المتنافسة، غير المؤثّرة على المتن الأساس، أي مجال النطاق المركزيّ، في تفاهم محدّد بلعبة الكراسي التبادليّة، التي تتيح لنا صياغة ما هو تكتيكي دون المسّ بما هو استراتيجيّ.
والنطاق المركزيّ الذي نشير إليه هنا، هو نطاق مشروع ثقافيّ سياسيّ لا يستقيم في نزعته التحرّريّة، إلّا حين يستقيم في مداره القيميّ المشكّل لكلّ ما هو ثقافيّ أخلاقيّ، لا تُحاصر تعبيراته في فضاء المنتج الأدبيّ والفنيّ وحسب، ولكن في كلّ ملمح نقديّ يستطيع أن يلتقط كلّ إرهاصات المسار السياسيّ، ليعاين كلّ تكتيكي في بعده الاستراتيجيّ إن وجد، ويحيّد كل ما لا يملك رؤىً تشكّل في ملمحها العام روافع للهويّة الوطنيّة في تمظهرها التحرّريّ المعزّز لمكانة الإنسان الفلسطينيّ في وطنه وخارجه حتى نيله لحقوقه التاريخيّة والجغرافيّة.
ومع أنّ سؤال الأزمة حول غياب المشروع الثقافيّ السياسيّ، هو سؤال مركّب على الرّغم من مشروعيّته، إلا أنّ الملاحظ في ممارسة الفكر السياسيّ الفلسطينيّ، هو انتباهته العالية لأهميّة هذا المشروع، ومحاولته الدؤوبة تهميشه عبر حصر مفهوم الفعل الثقافيّ في فكرة الإبداع الأدبي ومنتجه الفردي والمؤسساتي، وفي أحسن الأحوال، عدم الاعتراف بضروريّة صياغته على النحو اللازم المؤطّر والمؤثّر معاً في كافّة مركّبات جغرافيا الشتات الفلسطيني، ضمن شرط منظومة القيم الأخلاقيّة الجامعة لكلّ مساهم في “ورشة بناء الحضارة الإنسانيّة والكونيّة” على حدّ تعبير الراحل سليمان ناطور
ولأنّ “الإنسان، والأرض، والحريّة، ثالوث يشكّل أعمدة الثقافة الفلسطينيّة”، عوضاً عن تمكين كلّ ضلع من ضلوع هذا الثالوث، بات المتابع لمجريات الأحداث وتجلّياتها في العقدين الأخيرين، يلحظ محاولة بعض النخب السياسية، تشكل بنية فكريّة دخيلة على الحالة الفلسطينيّة، تحاول جاهدة هندسة هويّة جديدة للإنسان الفلسطينيّ لا تربطه علاقة بالضلعين الآخرين “الأرض، والحريّة”، سوى شكل العلاقة الاستهلاكيّة وليست المنتجة، بمعنى أنّها علاقة لا ترى في الأرض والحريّة معاً إلا مرتكزان أساسيّان، الأوّل مرهون بشعار التحرير ضمن الممكن والمتاح في عمليّة التسوية السياسيّة “الأرض الفلسطينيّة المحتلّة في العام 1967” وذلك على الرّغم من تدمير المستعمر لأيّ فرصة واضحة لنجاح هذه العمليّة، والثاني مرهون بسقوف مسيسة لحريّة الفرد وإن تعارضت مع الجماعة، على أرضيّة مفاهيم مشوّهة وممجوجة حول فكرة الحرّيات العامّة والخاصّة في سياقها الديمقراطيّ الوافد والمُروض، والمحدّد بسقوف النيوليبرالية في ظلّ ثقافة الاستهلاك لا الإنتاج.
ولعلّ هذا الاختراق على صعيد هندسة الهويّة، هو ما يضفي المشروعيّة اللّازمة للوقوف أمام مسؤوليتنا الجماعيّة لضرورة رسم ملامح مثل هذا المشروع الثقافيّ السياسيّ بأبعاد وطنيّة تستمد قوة مشروعيّتها من قاعدة قانون الضرورة، على نحو يقدّم الأرض بوصفها بطلاً، والحريّة باعتبارها غاية، والإنسان بما هو إنسانيّ وليس فقط وسيلة وأداة للتوظيف السياسي.