كبرت في الداخل الفلسطيني منكشفة على العالم العربي البعيد قسريًا؛ من خلال قناة الاتصال الوحيدة وهي التلفزيون الأردني الرسمي. عرفت الدراما من خلال “العلم نور” و”أبو عواد”، ودون وعي معمّق أو دراسة فهمت بالتجربة أن الشخصية (الكاراكتر) التي تعلق في الذهن ولها من التميّز والخصوصية الكثير تتأرجح بين “سُمعة” و”عليوة” و “غليص” والفارس البدوي.
في مرحلة الانكشاف على السينما، هيمنت في بيتنا -كما في العالم العربي أجمع- أفلام الدراما المصريّة، كوميديا اسماعيل ياسين، وتراجيديا فاتن حمامة. وحفرت في الذاكرة حكايات وشخصيات كثيرة لا تُنسى، ورسائل اجتماعية وسياسية.
بمرور السنوات وتراكم التجارب تُصقل الخبرات؛ وبتخصيص الموارد للإنتاج، وتشجيع دراسة الموضوع، تنمو الصناعة السينمائية، يشحذها النقد والبحث، وكل هذا كان غائبًا عن المشهد الأردني الذي انشغل بالدراما التلفزيونية وقدّم لنا مبدعين كُثر، ولعلّ أحبهم عليّ جولييت وجميل عواد بداية، والمبدع الراحل ياسر المصري لاحقًا.
منذ العام 2007 تشهد السينما الأردنية زيادة في الإنتاج، وتنوعًا في المبدعين ورواياتهم وأساليبهم ورؤاهم الإخراجية. وفي العام 2008 أقيمت “الهيئة الملكية للأفلام” فأصبحت هناك هيئة داعمة لصناعة الأفلام في الأردن، هي الممثل الأساسي والداعم الرئيسي لتطوير وصناعة الأفلام. رغم محدودية التمويل -كما صرح المخرجون- فإن إقامتها إلى جانب افتتاح “معهد البحر الأحمر” لدراسة السينما، هي بمثابة بشرى لمحبي السينما في المملكة، وبادرة للارتقاء بهذه الصناعة. يرافق هذا العمل الرسمي نشاط أهليٌّ يتمثل بمنصة “أفلام عمّان” و”مهرجان عمان السينمائي” الذي تقام دورته الثانية هذا العام. كما نجحت السينما الأردنية في الوصول إلى محطة تاريخية عند ترشيح فيلم “ذيب” للمخرج ناجي أبو نوار للأوسكار عن فئة الفيلم الأجنبي في العام 2016.
إن الأفلام التي تتاح لنا من خلال المنصات الرقمية ومبادرات المهتمين والعاملين في القطاع السينمائي الأردني، جديرة جدًا بالتقدير لما تؤسس له من نشر التوعية حول ضرورة السينما كأداة تعبير تعكس هموم المجتمع وقضاياه، وترتقي به نحو عبور الحدود ووصول العالمية والتجديد وفتح الأفق ولفت النظر الى مبدعيها ورواياتهم.
بين الضفّتين
أفرز تاريخ المنطقة الجيوسياسي علاقة وثيقة بين ضفتيّ النهر، فقد كانت الأردن ملاذاً للاجئين الفلسطينيين خلال النكبة، وكانت أرض فلسطين حاضنة للجنود الأردنيين الذين قضوا خلال المعارك ضد العدو الصهيوني. هذا الارتباط وجد له مكانًا في صناعة السينما الأردنية، لتكون فلسطين وقضيتها عنوانًا لعدد من الأفلام. يرجع ذلك إلى الأصول الفلسطينية لبعض المخرجين، والأخر لكون فلسطين قضية عربية جامعة.
اختارت المخرجة ساندرا ماضي المولودة لأبويّن فلسطينييّن الحديث عن تشكّلات جديدة للنكبة من خلال فيلمها التسجيلي “ذاكرة مثقوبة” (2008)، وقدمت لنا حكاية عن مصير مجموعة فدائيين قدمّوا أفضل أيام حياتهم لفلسطين ثم أكملوا ما تبقى منها في فقر وعوَز. كما قدّمت فيلم “قمر 14” (2006) حول قصة الملاكم فرج درويش ابن مخيم البقعة الفلسطيني الذي تنهار حياته الرياضية ويتم إقصاؤه من منتخب الملاكمة الأردني بعد رفضه منازلة غريم إسرائيلي في مباراة دولية.
أما المخرجة ميس دروزة فقد اختارت المضي في رحلة بحث عن حبيبها حسن من خلال فيلمها التسجيلي “حبيبي بستناني عند البحر” (2012)، لتجد نفسها في وطنها فلسطين مع مجموعة متشابكة من القصص حيث البحر قِبلة العائدين.
انطلق المخرج محمود المسّاد في مسيرته السينمائية عام 2000 بفيلمه التسجيلي “الشاطر حسن”. رغم أن فلسطين ليست موضوع الفيلم، إلا أن شخصية حسن المهاجر المغربيّ الغارق في البؤس في أوروبا، هو تجسيد لكثيرين من المهاجرين والنازحين واللاجئين العرب في مختلف أماكن تواجدهم، وما أكثر هؤلاء الهاربين من سجن غزة إلى بطن البحر وشوارع أوروبا!
في فيلمه الروائي القصير “جلدة” (2020)، اختار المخرج هادي شتّات تصوير حياة شاب تتحوّل عند اكتشافه الحاجة إلى جلدة لوقف تسرب المياه من الحنفية، ليجد نفسه واحدًا من آلاف يقفون في طوابير للحصول على جلدة.
يمتاز هذا الفيلم بالامكانيات التحليلية الواسعة لقصته، ارتباطها بالواقع العربي الشاحب في السنوات الأخيرة، لكن ارتباطها فلسطينيًا -كما أراها- يبدأ من فكرة نقطة الماء، التي كانت في غاية التفاهة إلى أن حولتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى وسيلة لتعذيب الأسرى الفلسطينيين.
المخرج فراس الطيبة قدم فيلمه “شواهد” في العام 2008، وهو تسجيلي قصير حول محاولة مجموعة فنان شباب تشييد مجسم لمقبرة أرقام، مجموعة هائلة من الشواهد مزروعة في قطعة أرض تحمل أرقامًا لغائبين غزيين. يوثق الفيلم ما واجهه هؤلاء الفنانين من قمع لحريتهم في التعبير الفني، لكن الأبرز كان اختيارهم لعنوان الشواهد “غزاوي”. هذه الحكاية تعيد للأذهان معاناة عائلات فلسطينية كثيرة تجهل قبور أحبتها. إسرائيلياً كانت هذه خيارًا لجعل التيه والمأساة الفلسطينية في استمرار.
أما في فيلمه الروائي القصير “الوادي” (2012) فاختار الطيبة تقديم كوميديا تحمل رسائل مبطنة حول الحالة العربية وبضمنها فلسطين. فهناك نهر يجف فتلغى بذلك حدود، وجندي عائد من المعركة بسبب جرح في إصبعه، وهي تعبير أراه عن الأسباب وراء خسارة السيادة على الضفة الغربية خلال النكسة.
وفي سياق الجرح المفتوح الذي خلّفته النكسة، قدم المخرج سائد العاروري فيلمه “نكسة روح” (2018) وروى من خلاله حكاية المرأة التي فقدت حبيبًا خرج للحرب دفاعًا عن تراب فلسطين فلم يعُد. كما العلاقات التي تربينا عليها بين الجيل الأول والثالث، يرافق الحفيد جدته إلى مأوى الذكريات التي تحيي بفضل من بقوا بيننا يحملون روايتنا في عقولهم وقلوبهم.
أما المخرجين دارين سلام وأمجد الرشيد فقد اختارا مواجهة حكايات النكبة بصورة مباشرة، فقدما فيلمهما الروائي القصير “الببغاء” الذي يتحدث عن عائلة فلسطينية هجرت بيتها في العام 1948 بمحتواه ومن ضمنه ببغاء. تقوم هذه الببغاء بمضايقة العائلة اليهودية التي تحتل البيت وتسكنه ، لتعلن بذلك عن رفض التعايش والتكيّف مع الواقع الجديد.