“إن عقوبتي الإعدام والسجن مدى الحياة يتسمان بذات القدرة من اللاأخلاقية؛ لكن لو كان بيدي الاختيار بينهما، لاخترت الأخير، فنصف حياة أفضل من لا حياة على الإطلاق”
تطرح قصة الرهان لأنطون تشيخوف والتي كُتبتْ العام 1889 أي قبل ما يزيد عن مئة وثلاثين سنة، تساؤلاً كبيراً لا يزال إلى اليوم كما أعتقد جدلياً ومُحيراً، أيهما أكثر إنسانيّة من الآخر الإعدام أم السجن المؤبد؟ وعلى الرغم من أن تشيخوف أرادَ لشخصية المُحامي في القصة أن تكسب الرهان، فبعدَ أن قضى أوقاتاً طويلة من العزلة والكآبة الشديدة التي عانى منها مع بداية حبسه، استطاع أن يستثمر الفراغ الهائل الّذي وجدَ نفسه فيه بقراءةِ الكتبِ وسماعِ الموسيقى وتعلّم اللغات، وهذا كلّهُ جعلَ منه شخصاً أكثر نضوجاً فيما أفضى إلى احتقاره للمال وخروجه قبل انقضاء فترة الرهان بيومٍ واحدٍ فقط، إلا أن هذه النهاية وعلى الرغم من أنها تقدم نموذجاً يستعدي تأملاً خاصة في ميكانيزمات الدفاع التي استخدمها المُحامي في محاولةِ إحداث فجواتٍ في جدارِ العزلة الضخم الّذي كانَ يُحيط به، لا تضعَ حداً نهائياً للإجابة على السؤال المُتعلّق بإنسانيّةِ الفعل نفسه من حيثُ كونه ممارسة، ومما لا شكَ فيه أنَّ شكلَ ممارسة فعل الإعدام يبدو أكثرَ شناعة من فعلِ السجن، لأنه أكثر تطرفاً في أنه يزيل الاحتمالات تماماً، فالموت يُنهي بالنسبةِ لنا على أقل فرصة تخيل مألات متوقعة، فيما يُبقى السجن الاحتمالات قائمة بالنسبةِ للسجين ولنا بطبيعة الحال، الاحتمالات التي تبقى مُشرعةً على ما قد يكون أكثر بشاعة من الموت ذاته، لكن ما الّذي يعنيه السجن؟
الانقطاع عن الآخر، الانقطاع عن الذات
أبشعُ ما يعنيه السجن هو الانقطاع عن الآخر، الآخر الّذي يُبرّهنُ على أن الذات تتفاعلُ وتنسجمُ وتنمو وتشتبك وتحضر في نطاقِ الفعلِ والذاكرة، الآخر هو مرآةُ الذات، التي من خلالها يُمكِنُ أن تُبصرَ الذاتُ مجالَ نموها الحيوي والطبيعي، والسِجنُ يَحولُ دونَ أن تحدثَ عمليةُ الاتصال مع الآخر، ولذا فإن المَسجون في العزل الانفرادي ينقطع تماماً عن الآخر، بمعنى أنه ينقطع عن تلكَ المرايا المُتعددة التي يرى نفسه فيها، وهذا يعني الانقطاع عن الذات كذلك، لأنها ستكون أمامَ مجموع مرعب من العتمة والفراغ والوحدة التي ستتكثّف داخلها، أنها بلا شك صورة عالية من القمعِ والاضطهاد التي من الممكن ممارستها داخل السجن، حتى وإن لم يُصاحبها أي شكل من أشكال التعذيب الجسدي، يكفي أن ينقطعَ الزمنُ ليُجن الأسير إذا لم يخلقْ زمناً موازياً كما فعلَ وليد دقة بواسطة الكتابة، وسنرى كيفَ أحدث وليد دقة هذه الفجوة في جدار الزمن، لذا فإن محاولة النفاذ في جدار العزلة والانقطاع عن الزمن والآخر، هي الضمان للنجاة وهذه المحاولة تأخذُ الكثيرَ من الأشكال والتي يمكنُ أن تصل َإلى نسجِ حوارات مع كائنات مثل الصراصير والذباب داخل زنزانة العزل الانفرادي، في محاولة الهروب من الجنون والانفصام.
سمعت مرّة الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي في واحدة من المقابلات التلفزيونيّة، يتحدث أنه في واحدة من حالات وجوده في العزلِ الانفرادي قام بالتحدث مع حشرةٍ كانت تسيرُ في زاويةِ الزنزانة؛ ليحمي نفسه من الجنون، أنه مستوى مُتقدم من أشكالِ التعذيب والّذي هو في حقيقته ليسَ فقط نزعاً للحرية إنما تفريغ كامل لحياة السجين، مصادرة واسعة وبوتيرة بطيئة لكل ما هو متعلّق بهذه الحياة من مفردات، يشير إلى هذه القسوة الفائقة فيما يعنيه السجن يوسف إدريس في كتابه “مسحوق الهمس” يقول: “من قال أن السجن هو فقط مصادرة حرية الإنسان؟ أن فقدان الحرية ليس سوى الإحساس السطحي الأول، فالإنسان يظل يفقد أشياء كثيرة جداً في السجن، كلّ ما يَملكهُ أو باستطاعته امتلاكه، كلّ قدراته ومكتسباته، كل صلاته وقراباته وأحلامه وطموحة، كلّ ما ينفردُ به كشخص، وكل ما يتساوى به مع المجموع؛ كلها، بعد معارك استماتة طاحنة، لا يلبث أن يجدها، رغماً عنه وأمام ناظريه وبقوة الحبس والعزل القاهرة، تتسرب واحدة وراء الأخرى وهو لا يملك لها رداً ولا منعى، ثم يصحو الإنسان ذات يوم وهو يحس بالراحة الكبرى وقد انتهت الأزمة ومات الأمل تماما وحل اليأس الكامل، حينذاك فقط تبدأ حياة السجن الحقيقيّة، حياة أخرى مختلفة عن حياة الناس، حياة لا أساس لها ولا عد، وإنما طولها هو يوم واحد هو بالتحديد، ذلك اليوم الّذي تحياه”.
وبالعودة إلى سؤال تشيخوف حول إنسانية الفعل بينَ السجن مدى الحياة وحكم الإعدام، نجدُ أننا في حالةِ السجن مدى الحياة، نكون أمام برنامج مُمَنهج لسلسلةٍ متتاليةٍ من فعلِ الموت، وهو بذلك ليسَ موتاً واحداً واضحَ المَعالم، يُنهى الحكاية جملةَ واحدة بإنهاء الحياة من الجسد دفعةً واحدة، كما يحدثُ عند تنفيذِ حكم الإعدام إنما موتاً تدريجياً للذات دونَ فناء الجسد، الجسد الّذي إن لم يناضل ويَحمي نَفسَهُ سَيكون قميصاً رثاً بلا أي حياة، يعرضُ ممدوح عدوان في كتابةِ “حيونة الإنسان” إلى هذا المعنى بدقة يقول: “ولكن التعذيبَ بالتدريج يتسببُ في حدوثِ تغييرات في المعذِب ذاته، إضافة إلى التغييرات التي تحدث للمعذَب، فقد كان القضاء على الخصم يتم بالقتل، ولكن من خلال التعذيب، ومن خلال التخويف، بمعنى تحذير الناس من أن يفعلوا ما يعرضهم للتعذيب, يتم قتل الخصم، والآخرين، من الداخل من دون قتله، أو قتلهم، جسديا”.
تُفضي تجربة السجن، خاصة تجربة العزل الانفرادي، إلى أضرار مرعبة وفادحة، وما حدثَ ويحدثُ مع الأسير منصور شحاتيبت ومن قبله الأسير عويضة كلاب يعطى شكلاً بَشعاً لما قد يُسببهُ هذا التدمير المُتراكم والبطيء في ذات الأسير، إن النضالَ للبقاءِ على قيدِ الحياة في السجن، يمكنُ اعتباره الشكل الأكثر نُبلاً، أنه بمثابة حفر بالأظافر والأيد المجرّدة في صخرة العزلة الصماء، حفر للبقاء والاتصال مع الآخر والزمن ومقاومة النسيان وتثبيت الذاكرة، لكن كيف من الممكن أن يحدث ذلك.
الكتابة ومقاومة النسيان
يقضى وليد دقة هذا العام عامهُ الخامس والثلاثين داخل السجن، بمعنى أخر يُمكن لنا القول أن وليد دقة يحفرُ في جليد العزلة البادر منذ أكثر من ثلاثةِ عقود من الزمن، وخلال كل هذه السنوات يقدم وليد دقة محاولاته مُثابرة وحيّة للضربِ في جدار العزلة بمعاول كثيرة، أكمل وليد دراسته وحصل على الماجستير، وهرّب نطفة إلى خارج السجن لتكون ميلاد، ومارس فعل الكتابة وكلّها فجوات في جدران العزلة، محاولات رفض لمصادرة الحياة بواسطة قنوات اتصال مع الخارج، مع الآخر ثم مع الذات، ولعل أكثرها أهمية بعد فعل تهرّيب النطفة إن لم يكون موازياً لأهميةِ فعل التهريب أو متفوقاً عليه، هو فعل الكتابة. حينَ أرادَ وليد أن يورّث ذاتهُ بيولوجياً، هرّب النطفة لتكون ميلاد ويكون أبناء ميلاد ويكون أبناء أبناءها وهكذا دواليك تستمرُ فكرة وليد البيولوجية في التناسل إلى ما لا نهاية، وهنا تتوقف فكرة السجن، لكنه حينَ أراد أن يورّث قضيتهُ وإيمانه وقناعاته وأفكاره وروايتهُ مارسَ الكتابة، وهرّب الرسائل والمخطوطات والتسجيلات الصوتيّة، كتبَ وليد مقالات وكتب داخلَ السجن، لعّل من أكثرها لفتاً للنظر عملين روائيين للأطفال واليافعين أصدرتهما مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، بعد أن تم تهريبها من السجن، “حكاية سر الزيت” الصادرة عن مؤسسة تامر وكتاب “سر السيف” الصادر حديثاً، عملين أدبيين إبداعيين يمارسُ من خلالها وليد فعل كتابي إبداعي يختزل بكثافة وخفة مذهلة تجربة السجن بطريقة قلّما تُشاهد في أدب السجون، بلغة تمزج بين العامية المحكية والفصحى وسرديّة تقوم على الفعل العجائبي والمغامراتي وبحس فكاهي وخفيف.
يعتمل وليد فعلاً ابداعياً كتابياً يعيدُ بواسطتهُ ترتيب العلاقات مع ذاته والآخر والزمن في السجن، الزمن الموازي والزمن خارج السجن المُتوقف كما يشيرُ إلى ذلك في الرسالة مُرسلة لأبي عمر: “نحن لمن لا يعرف قابعون في الزمن الموازي، قبل انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي ومعسكره الاشتراكي، نحن قبل انهيار سور برلين وحرب الخليج الأولى والثانية والثالثة، قبل مدريد وأوسلو واندلاع الانتفاضة الأولى والثانية” وفعل الكتابة الذي يحاول من خلاله وليد دقة سبر أغوار العلاقة مع الزمان المقطوع والمكان الثابت، هو فعل النحت في جدار العزلة، هي الإزميل المُستخدم في اختراق ثبات الزمان والمكان اللذان يُحاول السجن تكريسهما في ذات السجين وصولاً إلى حالة الانقطاع والوحدة وضياع الذاكرة.
“حكاية سر الزيت” و”سر السيف”، ثنائية الاظهار والاخفاء وحماية الحكاية
صدرت الطبعة الأولى من كتاب “حكاية سر الزيت” عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي العام 2018، الكتاب الّذي يُقدم من خلاله وليد فلسفة الإخفاء بواسطة جود الابن الّذي يحاولُ الدخول إلى سجن؛ ليرى والده، مستعيناً بأصدقائه الحيوانات، وبشجرة الزيتون المُعمرّة وزيتها الذي يُمكّنهُ من عدم الظهور، يعالج وليد دقة بواسطة سرديّة ممتعة وخفيفة رغبتهُ في أن يتصلَ بالعالم خارج السجن، يتجاوز وليد دقة محددات واقع السجن المعتم بتطويره لفعل الخيال والذي يُترجمه كتابياً في كتابَي “سر الزيت” و”سر السيف”؛ لتجاوز صرامة الواقع، عمل تحتشد فيه طاقة إبداعية مشحونة برغبات وليد المعرفيّة والفكرية والتي يعيد من خلالها تحليل الواقع والاتصال به وتبني وجهات نظر حوله، من خلال كتابة ترميزية يُسقط بواسطتها أفكار ووجهات نظره على قضايا مختلفة مثل الحكاية الشعبيّة والذاكرة المُعرضة للخطر ومشكلة التنسيق الأمني وعنفوان الفعل المقاوم وغيرها من القضايا، كتابة تختلطُ فيها المغامرة بالواقع، الرغبة في الخروج من السجن ولقاء الخارج بالداخل، وفي هذا المسار الّذي يسيرُ فيه النص ثمة خطر مُحدق طوال الوقت، ولذا كان لا بد من الإخفاء للحفاظ على الحكاية (جود) من الاندثار والنسيان، وفي كتابه “سر السيف” يُكمل وليد دقة كتاب “حكاية سر الزيت” بذات السردية العجائبية والمغامرة وبواسطة جود ولينا ورؤية والأصدقاء الحيوانات يدخل جود إلى الداخل المحتل إلى قاقونة في رحلةٍ عجائبيّة يعتمل فيها فعل الخيال مجدداً، الخيال الّذي يُمكِّنُ جود في القصة من تجاوزِ حواجز جغرافيّا الاحتلال الجديدة، والنفاذ إلى التاريخ بواسطة ذاكرة الجدة، الذاكرة المُتضررة بفعلِ الزمن إلا أنها مُلتفة التفافاً قوياً حول حكايتها الفلسطينيّة، حكاية النكبة واللجوء والانقطاع المفاجئ عن سيرورةِ الحياة الطبيعيّة، مُستخدماً هذه المرّة فلسفة الإظهار لمعالجة ذلك، وموظفاً السيف هذه المرّة معادلاً موضوعياً لشجرة الزيتون أم الرومي في سر الزيت؛ ليكن السيف وسيطاً لإظهار الحكاية هذه المرّة وليس اخفائها؛ لأنه اخفاها رغبةً في اظهارها، الحكاية التي تُشكّلُ هاجساً جوهرياً لدى وليد دقة كما نرى في العَملين، وبالعودة إلى فهم ما تعنيه حالة الانقطاع والمصادرة الكليّة لحياة السجين داخل السجن، نستطيعُ أن نفهمَ الحرص الكبير لدى وليد دقة لحماية الرواية الفلسطينيّة من النسيان، ببساطة لأن وليد جزء من هذه الرواية ونسيانها والانقطاع عنها هو نسيانه أيضاً والانقطاع عنه، يقول وليد دقة في واحدة من الرسائل التي كتبها داخل السجن والمعنونة بـ “كابوس” شارحاً عمق الخوف الذي يتمركز في أعماق قلبه وعقله من أن يناله النسيان، في حوار مع سجين جديد من “ريحة الأهل والأحباب” كما يصف في الرسالة يقول:
– من دار مين؟
– السجين من دار أبو ياسين.
– بتعرف حدا من دار الدقة؟
– السجين كلهم، حسني وإحسان وعبد وأسعد وجواد ومفيد، كلهم، ليش إنت مين بتعرف منهم؟
لم أجبه على سؤالهُ وواصلت اسئلتي، -“بتعرفش إنه في الهم أخو سجين؟
– السجين: “لع هذول ناس اوادم ما الهم بالسجون
” ثم حاولت أن أصيغ السؤال بطريقة أخرى: “ولا عمرهم جابوا قدامك سيرة أخوهم بالسجن ؟
– السجين بقلك هذول جماعه أوادم ما الهم بشغلة لحبوس
في هذه اللحظة أحسست بأني غير موجود وكأنني وهم كنت أتخيله وها أنا الآن اكتشف الحقيقة، بل شعرت بأنني ميت، فالرجل عدّدَ جميع أسماء أخوتي دون أن يذكرني، بل أكّد مراراُ أنهم ستة أخوه ولا سابع لهم في ذاكرة الناس”
النتيجة النهائية للموت هي النسيان، أن يطوي الزمن من كانوا بيننا ويحل النسيان في كل تلك المساحات التي كانوا يشغلونها، لهذا فإن المعنى الحقيقي والنهائي للموت هو مرادف تماماً للنسيان، الناس تموت في الحقيقة حين تُنسى، والسجن قد يُحدث ذلك.
النسيان، هو هاجس السجين، أن يراكم الوقت والانقطاع وإيقاع الحياة المُتسارع وانشغالاتها أغطية النسيان على الصورة الحيّة التي كانت قبل زمن تتجول بين الناس وتجلس في حكاياتهم ويومياتهم، وهذا الانقطاع هو انقطاع عن الحكاية الفلسطينية ذاتها؛ لأن الأسر متعلّق من متعلقاتها، وجه ينعكس في البحيرة، وغياب الوجه في مرآة البحيرة، يعني أن البحيرة ذاتها جفت.
مما لا شك فيه أن موجه التطبيع العربي هي واحدة من المحاولات المستمرة لقطع الصلة بالحكاية الفلسطينية، لنسيانها ولذا نجد وليد دقة يقدم هذه القضية في سر السيف من خلال شخصية الضبع أبو سحويل، الضبع الّذي يُمكنهُ أن يغيّر إدراك من ينظر إليه ويجعله دون وعي يسير خلفه، تخلق الكتابة التي يُمارسها وليد دقة داخل السجن هذا الاتصال غير التقليدي مع الواقع، أنها بلا شك فعلاً مناضلاً من أرقى ما يكون، يفتح بواسطة الكتابة وليد نوافذه تجاه العالم، ويضرب مجدداً في جدار العزلة كلّما تراكمت غيوم النسيان، ليبقى حياً وحاضراً، حين تبقى الحكاية الفلسطينية حية وحاضرة.