عادة ما ينظر كتّاب الرواية للذاكرة بوصفها وعاءً يفيضُ بالصور، فيه من الحنين ما يزاحم البراءة، ومن البراءة ما يخطّ ملامح الوجوه، ومن الوجوه ما يملأ اللوحة المعلّقة على مسمار الحائط؛ والحائط السور، وأقصد سور عكا، في المعنى الفلسطيني كما الشجرة، أصل حكاية يجب أن تروى، ليس لأننا لم نروِها من قبل، ولكن لأننا ما زلنا نعيش تفاصيلها سُنّة وجود، وفرضَ ثبات.
ولأنّ فريضة الصّمود الفلسطينيّ، هي موطن سُنّته، شكلا معاً، الفريضة والسّنّة، امتيازاً فلسطينيّاً حقّق قوام الذاكرة وقيمتها، ممّا دفع بالسّارد الفلسطينيّ إلى الاتكاء عليها لاقتفاء أثر حياة الناس بما لهم وما عليهم، ليشتقّ أسئلته الوطنيّة من أسئلته الاجتماعيّة، بما لا يفصل بين الشرط التاريخيّ ومفارقاته الماديّة، التي أسّست للجدل العربيّ المقيم في سؤال التقدّم والتخلّف، الأصالة والحداثة.
بهذا الجدل المقيم، وفي استدعاء واضح ومباشر للعديد من الثنائيّات الضديّة، جاءت رواية “بلد المنحوس” لسهيل كيوان، بدون شعارات برّاقة وخادعة، لتذكّرنا بمعنى النكبة في السّلوك الفلسطينيّ، الفرديّ والجماعيّ، وتعبيراته المقاومة والمستسلمة على حدّ سواء، في مقابل الدّهاء والمكر والخبث الصهيونيّة المنظّمة للفعل اليهوديّ المستعمر للبلاد.
يبدأ سهيل كيوان روايته “بلد المنحوس” (مكتبة كل شيء، حيفا، ٢٠١٨) في فصولها الخمسة الأولى، بالاعتماد على تقنيّة كتابة المشاهد السينمائيّة الوصفيّة ما بين مكان وآخر، بصوت الرّاوي العليم، ليستعرض مرّة ملامح مدينة عكّا جغرافيّاً واجتماعيّاً من منظور عربيّ فلسطينيّ، ومرّة مدينة “وارسو” واقعاً سياسيّاً واجتماعيّاً لجماعة أخرى، هي الجماعة “اليهوديّة في أوروبا”، الأولى باعتبارها أرض الحكاية التي سيدور على هامشها الصراع على سياقين أساسييّن، داخليّ “عشائريّ وفرديّ” وخارجيّ “قوميّ ووطنيّ”، ليقدم لنا النموذج الفلسطينيّ البريء والسّاذج في إطار قوانينه القبليّة، والثاني بوصفه النموذج اليهوديّ المحنّك والمنظّم في إطار أهدافه الاستعماريّة، وما بين هذا وذاك يعرّج على تاريخ الفضاء المكانيّ “عكّا”، وكذا تاريخ شخوصه من أبناء البلاد والمستعمرين، ليؤسّس لتوالي الأحداث في بناء حكائيّ متسلسل حيناً، ومتحرّك أحياناً أخرى، وكأنّه يخاطب الإنسان بوصفه إنساناً في تداخل متعمّد يساوي بين معاناة الجلاد والضحيّة، وتلبّس الأول لمعاناة الثاني، والأخير للتخبّط والتيه.
التداخل بوصفه حالة نفسيّة
والمساواة بين الجلاد والضحيّة، يمكننا أن نفهمها في سياق معالجة الكاتب للمحاولات الصهيونيّة الدؤوبة، تأسيس منظومة بنى تحتيّة لتخليق “ذاكرة قوميّة جماعيّة” تقيم علاقة ما بين الصهيونيّ المهاجر والأرض التي استعمرها، فهذا صوت “بن غوريون” أو يوسف غرين، في الرواية وهو يقول: “علاقتنا في بلشتينا واضحة لا شكّ فيها، حتى العرب يعترفون بها، فهم يعتبروننا أولاد عمّهم، (…) والحقيقة أنّني فوجئت، من مدى تقديس المسلمين لآبائنا، حبّذا لو ترون، كم يحترمون ضريح يوسف الصدّيق قرب نابلس، ومغارة (المخبيلا)، وأضرحة سارة وإبراهيم، وراحيل، وكلّ الجماعة التي تعرفونها في حبرون، إنّهم يقيمون فيها النذور، واحتفالات الطّهور والزّفاف لأبنائهم” (ص22-23).
بيد أنّ المحمول الدّلالي لهذه المساواة ما بين الجلّاد والضحيّة، يعبّر عن الحالة النفسيّة المسيطرة والمعكوسة على شريحة واسعة من الفلسطينيّين تحديداً بعد فقدانهم للأمان، وهو ما يشير بدوره إلى حال تناقض الإنسان المحاصر ما بين شعوره بهويّته القوميّة، وإكراهات الواقع الاستعماريّ، الأمر الذي احتلّ حيّزاً مهماً في هذه الرّواية وهي تجتهد لمعالجة قضيّة الذّات والآخر النّقيض على نحو استدعى الكاتب لمحاكاة ظاهرة التأثّر والتأثير التي لعبت دوراً اساسيّاً في تهديد شكل الهويّة العربيّة الفلسطينيّة لدى الإنسان الفلسطينيّ. فالنكبة، أو “النحسة” بلغة كيوان في الرواية، لم تعبّر فقط عن ضياع الوطن، وإنّما أيضاً عن خلخلة منظومة القيم الاجتماعيّة السائدة في مجتمع شرقيّ كما هو المجتمع الفلسطينيّ، حيث رصدت الرّواية بين صورة الذّات والآخر الـصّراعيّة، نماذج من الذّات الفلسطينيّة المشوّهة التي تقود صراعات داخليّة بين ذات مهزومة منكسرة، وأخرى نفعيّة انتهازيّة، يمكننا أن نلاحظها ونحن نستمع لشكري زيداني أحد شخوص العمل في مونولوج داخليّ مهم يحاكي سؤال الهويّة وهو يقول: “كان يكفي لو عرّفت نفسي على أنّني عربيّ عكاويّ، ما العلاقة بيني وبين إسرائيلي! هذا الذي عرّى جدّي، وسرق من أستاذي دارة الفن! هذا الذي حوّل حياة الحي إلى جحيم بطبوله! وافقتُ على خيانة جدّي وحبيبتي ياسمين وقدورة!” (ص219).
ولأنّ الصورة قاتمة بهذا الشّكل، استعان الكاتب بشيء من السخرية، ليعالج حالة الوهن الفكريّ العربيّ، التي تجلّت في تصرّف شركات التبغ المحلّي الترويج لمنتجاتها باعتماد إعلانات كتب عليها “اجتماع الكلمة، واتفاق الأمّة، على تدخين سجائر أوتومان” (ص27). ففي حين أنّ الاجتماع والاتّفاق تحقّقا بهذا المعنى حول تدخين التّبغ، فإنّهما لم يتحقّقا حول نار المستعمر، في إشارةٍ واضحةٍ إلى رصد الكاتب للهوّة الفاصلة بين منظومة البنى الفكريّة لدى العربيّ وواقعه اليوميّ.
غير أنّ كيوان، لم يستكفِ بهذا الحال، فراح يستدعي مفهوم التّيه بمعناه السّلوكي اليومي لشعب لم يكن مؤهّلاً اجتماعياًّ لمجابهة استعمار منظّمٍ فكرياً، “يقفون في طابور طويل، يتشاغلون في الحديث عن حالة الطّقس وطول الليل والنّهار، وأسعار الحاجيات، وأخبار الزّواج والطّلاق والوفيّات (…) كان يستقبلهم موظّفان، واحد ذو ربطة عنق زرقاء، يتفنّن بإهانتهم (…) وأمّا ذو الربطة الحمراء من أصل بولوني، ويدعى شموئيل (…) كان يؤمن بالفكر الاشتراكي ويستقبلهم بابتسامة (…) بتصوّري أنّ أحد مقاييس نجاح دولتنا، يكمن بتهذيب عرب إسرائيل، وإقناعهم بحقّ الشعب اليهوديّ في أرض إسرائيل، يجب أن نمنحهم شعوراً بأنّهم شركاؤنا في المصير، ونستفيد منهم في هذا المحيط العربيّ” (ص128- 129)
الخطاب النقديّ الذي مارسه الكاتب، لم يكن ذاتيّاً وحسب، ولكنّه أيضاً تعمّد تعرية وجه هذا المستعمر، حين مارس فعل النّقد بصوت السّارد العليم، وهو يعلّق على حوار (بات شيبع – إيزاك أو راتشينسكي)، “عاد إلى الأوراق، ولكن بامتعاض، هذه المشاعر التي تتحدّث عنها تزعجه، فهو يستمتع بالحقد ومشتقّاته، كمدمن عليه، منه للآخرين، ومن الآخرين تجاهه (…) هذا يعني أنّ هناك، من يقف في وجه القذارة، ويشهّر بها، ويفضحها. أفضل الأجواء بالنسبة إليه، هي الأجواء العفنة، حيث لا مكان للنّقاء أو السّذاجة أبداً”. ص132، إلّا أنّ المهمّ في هذه التعريّة، أنهّا لم تميّز بين مستعمر وافد من أوروبا، وهو في الرّواية، إيزاك المولود في بولونيا، وبات شيبع المولودة في فلسطين “تصاباريت”، فكلاهما لا إشكال لديه إن قايض الكرامة بالحياة، فالكرامة بالنسبة لهما ووفق إيزاك أو راتشينسكي: “هي أن تنجو، وتواصل الحياة” (ص133).
معالجة الكاتب لشخصيّة مركبة كما هي شخصيّة راتشينسكي الذي استولى على هويّة ابن خالته إيزاك، جاءت معالجة ذكيّة وغير مألوفة في السّرد الفلسطينيّ، إذ يمكنها أن تحيلنا لتفكيك الشخصيّة الصهيونيّة الساعية دائماً وابداً للتحلّل من كلّ قيمة إنسانيّة أو أخلاقيّة في سبيل الوصول إلى هدفها الأسمى لاقتلاع شعب واحتلال أرضه وتاريخه بصرف النظر عن الأثمان التي يمكن دفعها من كلا الطرفين، وهو ما يمكن أن نلاحظه أيضاً في تركيبة شخصيّة المرأة الصهيونيّة، والتي تعبّر عنها شخصيّة بات شيبع في الرواية، حيث لا تجد غضاضة في ممارسة البغاء من أجل نفس الهدف، إسرائيل الكيان، وكأنّي بالكاتب يستدعي شخصيّةَ واحدةٍ من أشهر عملاء الموساد، هي شخصيّة وزيرة الخارجيّة الإسرائيليّة السابقة “تسيبي ليفني” التي دارت حولها الكثير من الأقاويل لممارستها الجنس من أجل إسرائيل، وإن لم تقرّ هي بذلك علانية.
ومهما يكن الأمر، فإنّ تقديم صورة المرأة العربيّة في مقابل المرأة اليهوديّة في الرواية، أنصف المرأة العربيّة الفلسطينيّة إلى حدّ بعيد، حيث قدّمها بوصفها النموذج الثّابت، الصّامد، المساند، بل والمحرّض لفعل المقاومة والانتصار لشرفه الشخصيّ والوطنيّ، وما إعلان إضراب نساء عكّا عن أزواجهن حتّى يتمكّنوا من منازلة المستعمر، إلّا خير دليل على الدّور الرياديّ والمسؤول للمرأة الفلسطينيّة منذ بدايات المواجهة، فهذه نجمة تستهجن تقاعس الرّجال وزوجها منهم وهي تقول: “لقد نجحوا بخصيكم، اقتنعتم بأنّكم عاجزون عن مواجهة من يحرمونكم النّوم بطبولهم وأبواقهم، عاجزون حتّى عن ترميم بيوتكم، هكذا قُتِلَتِ الشّهوة، لم يعد لي قدرة على شيء، هذا الشّيء الذي في بالك، انتهى عندي وعند كلّ نساء الحيّ، جميعهنّ يعانين من الحساسيّة والبرود، ما بدّي إشي منّك، احسبني قد متّ ودفنتَني”(ص241 – 242). وذلك على الرّغم من ظهور نماذج نقيضة للمرأة العربيّة السيئة في الرواية كما هو نموذج جملات التّي تسببّت في عديد المشاكل، بل وباعت دكّانها لليهود.
ولأنّ ما قدّمه سهيل كيوان في هذه الرواية، جاء بمحمول خطاب نقديّ واضح، ختم سرديّته بمواربة باب الأمل دون تشريع أو إغلاق، ولكن بمساحة يمكنها أن تقول الكثير، حيث لم يأت ظهور شخصيّة الممرّضة كرفدان شكري زيدان، ومن قبلها عودة شخصيّة ريبيكا – رحميانوف في نهاية السرديّة، على سبيل المصادفة، ولكن لمعان كثيرة يمكن تأويلها باتجاه استشراف القادم، فمواجهة الأخيرة، وأقصد ريبيكا، لراتشينسكي بأنّه سرق اسم شقيقها إيزاك، تعني فيما تعني أنّ الحقيقة لابدّ وأن تظهر طال الزّمن أم قصر، وسيطرة الأولى كرفدان على شخصيّة العجوز السارق، حيث يعبّر الكاتب عنها بصوت الرّواي العليم: “كرفدان تناديه إيزاك عندما يكون مطواعاً وطيّباً، ولكن عندما تريد معاقبته، تناديه بغضب: راتشينسكي، فيكفهرّ وجهه ويجهش بالبكاء. (…)، ينظر في سقف الغرفة، وإذا نطق لا يقول سوى: إلهي متى ستميتني” (ص325). ومجاز السيطرة هنا، يمكننا تأويله على أكثر من وجه، ولكنّ الوجه الأقرب يقول: يمكننا أن نعيش معاً، في دولة ديمقراطيّة واحدة في فلسطين التاريخيّة، ولكن ليعلم كلّ منّا حدود تعريفه والآخر، فنحن أصحاب الأرض وأنتم الشّركاء وليس العكس. وهي رؤية تستهدف تفكيك منظومة الاستعمار في الوعي الجمعي لدى طرفي المعادلة الفلسطيني والإسرائيلي، وأظنّ أنّ الكاتب سهيل كيوان ينتمي إليها، حيث مشروع الدّولة الواحدة التي ينادي بها فريق من الفلسطينيّين، ما زال ورقة لم تسقط بعد، وإنّما هي أقرب ما تكون للتحقّق بغضّ النّظر عن تفاصيل من يملك قوّة توجيه الآخر وتعريفه.