“كما يكون الوعي، تكون أدواته” بهذه الخلاصة التي تختزل الكثير من المقدمات، رسم فيصل دراج مسار الطريق الأمثل للوصول إلى الأهداف المرجوة من السياق الفكري الذي إن امتلك الوعي؛ استملك أدواته ووظفها لتخليق معنىً جديداً نحو الخلاص.
وفي فعل الاستملاك، انتزاع ما؛ حاولت مؤسسة أكاديمية رائدة، كما هي جامعة بيرزيت بالتعاون مع مؤسسة فكرية معرفية، كما هي مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ترجمته من خلال المقاربة ما بين الإطار النظري والممارسة التطبيقية في كتاب بحثي شارك فيه عدد من الباحثين طلاب برامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعية والإنسانية، صدر بعنوان “مفهمة فلسطين الحديثة” ليؤكد العنوان الفرعي “نماذج من المعرفة التحررية” أن العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، لا يجب أن تقوم على نظرية ولع المغلوب بمقولة ورواية الغالب كما نظّر لها ابن خلدون، ولكن على أرضية أنهما شكلان متقابلان ومتمايزان في الحضور والمعنى، لكل منهما روايته التي تتكئ على تاريخ ذاتي وصفات خاصة مهيمنة كانت أم مغيبة.
هذه المحاولة المهمة والضرورية لإعادة الاعتبار للمعرفة التحررية التي بدأ الاشتغال عليها مبكراً غسان كنفاني، تُعد خروجاً واضحاً ومعلناً عن السياق الذي دُفعت إليه الحالة الفلسطينية دفعاً في العقود الثلاث الأخيرة، لتصبح فكرة فلسطين المستندة على مرتكزات ثقافية وحضارية صلبة؛ بلا محتوىً أو معنىً. كما يمكننا اعتبارها مؤشراً مهماً لاستجابة المثقف الفلسطيني لفكرة أن علاقات القوة لا يمكنها أن تشكل فارقاً إلا بالاتكاء على العدّة المعرفية، لتوسيع هوامش الفرادة والتميز والاختلاف، باتجاه تشكيل شبكة أمان ثقافية اجتماعية يمكنها أن تقوي من المناعة الوطنية لتستلهم منها تعبيرات الصمود فعلاً وقولاً، ببساطة لأن “الطريق تصنعها الخطى” وفق تعبير عبد الرحيم الشيخ المشرف المحرر لهذا الكتاب الذي اتخذ من هذا التعبير مقولة معبرة لمحاولة الانفكاك من مظاهر التبعية والانصياع، على كل الصعد وكافة الحقول، بما فيها الحقل المعرفي.
المقدمة كإطار ناظم ومكمل
القارئ المنتبه لمقدمة عبد الرحيم الشيخ، قائد كتيبة الباحثين السبعة المشاركين في صياغة هذا الكتاب على امتداد سبعة فصول جاءت بعناوين لافتة، يلحظ أن مقدمته لم تصغ باعتبارها استعراضا لما قدمه الباحثون ومفاتيحهم النقدية وأدواتهم التطبيقية وحسب، ولكنها صيغت بوصفها الإطار الناظم وربما المكمل لمجمل أفكاره ومجادلاته، وكأننا في حضرة فرقة موسيقية تعزف لحناً تدرج سلمه الموسيقى على وتري الحداثة والأصالة في آن، حداثة الأدوات، وأصالة الطرح.
فنجد الشيخ يشير على جبهة الحداثة، دون أن يسميها، إلى تحرر الباحثين من أثر الاستعمار في المنهج والهدف من جهة، ومن هيمنة الأطر النظرية السائدة في الأكاديميا الغربية، وفرعها الإسرائيلي، من جهة ثانية، فيما يجادل على جبهة الأصالة، في مفهمة فلسطين كـ “حالة استعمارية” خضعت بنسب متفاوتة، وعلى أزمنة مختلفة، ومن مراكز قوى متعددة، لما أسماه بـ “تسليع المعرفة”، وإدارتها إدارة مسيسة خاضعة بالكلية للسياق النيوليبرالي.
المبنى وعنصري الأرض والناس
وحينما نتحدث عن المجال النيوليبرالي، نجد أن الفصل الأول من الكتاب والذي تقدم فيه الباحثة فيروز سالم دارستها تحت عنوان: “من أروقة المحاكم الاستعمارية إلى الأرض: الصراع اليومي على الزمان والمكان في الأغوار الفلسطينية” يدور في هذا الفلك، فلك توظيف المستعمِر للمفهوم الليبرالي للدولة، وإن كان مفهوماً مفرّغاً من مضامينه الفعلية، إذ نرى الباحثة سالم قد ذهبت مباشرة للمقاربة القانونية في ظل ما أسماه عبد الرحيم الشيخ في مقدمته بـ “عنف الحداثة، بصورتيه المؤسّسة والحافظة، في الحالة الفلسطينية” (ص.٧) ما يذكرنا بما استعاره نعوم تشومسكي من رجل القانون الهندي “رادهابينودبال” وهو يقول: “عندما يدخل سلوك الأمم في الحساب، فقد يخسر القانون حربه أمام الجرائم”(١)، ليصبح السؤال: هل جابه القانون في الحالة الفلسطينية، سلوك أو جرائم “الأمة المستعمِرة”، إن صح وصف الأمة على الحالة الإسرائيلية، أم طوّعه المستعمِر كأداة استعمارية؟ وماذا عن المستعمَر، هل استفاد فعلاً من نفس الأداة ونقصد القانون لتصبح أداة معكوسة بيد المقاومة يمكنها أن تحقق نتائج ملموسة وحقيقية على الأرض؟ هذا ما حاولت ورقة سالم أن تجادل فيه بالاعتماد على سرديات السكان الأصليين، أصحاب الأرض.
ومن حيز الصراع المكاني إلى كمين الصراع الديموغرافي، تأخذنا الباحثة خلود ناصر لتفجرَ عديد الأسئلة المشروعة في وجه القارئ الفلسطيني على وجه الدقة، وأهمها: كيف تخلى أو تراجع الاهتمام الفلسطيني عن سلاحه الأمضى، رحم المرأة الفلسطينية؟ ولماذا تورط في خطاب التمدن “الماكر” بتعبير عبد الرحيم الشيخ؟ والأهم، إلى أين سيصل الحال في هذه المواجهة، خاصة مع تزايد معدلات الخصوبة في المركز الاستعماري الصهيوني، في مقابل تراجعها في الحاضنة الفلسطينية؟
ففي الفصل الثاني من الكتاب، وتحت عنوان: “سؤال الديموغرافيا: بين التوجهات الفلسطينية والإسرائيلية الراهنة” عملت ناصر على تحليل الخطاب الاستراتيجي الفلسطيني والإسرائيلي من منظور اقتصادي سياسي، عبر سياق التفاعلات والتداخلات المركبة في سياق ثقافة الاستهلاك الوافدة على الصعيد الفلسطيني، واستدخالها لمفاهيم نيوليبرالية تدّعي التنمية، ولا تستهدف سوى تفعيل آليات السيطرة.
من هذا المدخل تطرح ناصر في أول عناوينها الفرعية سؤال الديموغرافيا، لتجيب عن جزئه الأهم بنظرة تاريخية على مخطط المشروع الاستعماري، وكذا التوجهات الديموغرافية الاستراتيجية في إسرائيل، لتقف أمام الجهود الحثيثة لتعزيز الوجود اليهودي في مقابل الحد من الوجود الفلسطيني في الفضاء المكاني، معرجة على التوجهات الديموغرافية الاستراتيجية في فلسطين، والتي تتباين مؤشراتها بين وعي ذاتي فاعل قبل الانتفاضة الأولى، ووعي دخيل تائه وتابع بعد محاولات إنشاء الكيانية الفلسطينية على الأرض بعد أوسلو، وصولاً إلى نتيجة مفادها تعظيم الأمر لدى الإسرائيلي، وإغفاله لدى الفلسطيني في مفارقة عجيبة لا تنذر إلا بالخطورة.
ولأن لأمر المفهمة أبعادا أخرى، تأخذ منحى التأثير والتأثر على صعيد المنظومة الأخلاقية، درس الباحث أشرف عثمان بدر في الفصل الثالث من الكتاب، موضوعاً أظنه جديدا في حقل الدراسات الفلسطينية، أتى بعنوان “الاشمئزاز كآلية استعمارية: الاستعمار الصهيوني نموذجاً”
والمهم في هذه الدراسة، لا يكمن في غرابة العنوان، وإنما في ما توقف أمامه الباحث من سياق تاريخي سيكولوجي نفسي يرتبط ارتباطاً اصيلاً بالمسألة اليهودية في أوروبا على وجه التحديد، وتطورها الدراماتيكي المعكوس على الحالة الاستعمارية في فلسطين، حيث اجتهد بدر في توضيح خط الانكسار الفاصل في الشخصية اليهودية نتيجة معاناته الأوروبية، ما أدى إلى حالة نفسية صراعية لا يمكن تجاوزها إلا من خلال استدعاء كل مظاهر التعصب الإثني والديني في سياق الشرط الوجودي على الصعيدين السلوكي والخطابي.
الأمر الذي دفع الباحث للدخول إلى دراسته عبر المدخل النظري والمفاهيمي، ومن ثم الولوج إلى السياق التاريخي للعنصرية الاستعمارية، كي يصل إلى حيثيات مأسسة الاشمئزاز على جبهة الفعل سواء في الحيز العام أو في الخاص، ضد الآخر النقيض أو ضد الذات أحياناً، وبما يرتبط بالعرق أو الطبقة أو النوع الاجتماعي أو الدين، وانعكاس كل ذلك على الفلسطيني المقاوم والأسير.
وانطلاقاً من كون فكرة الصراع بين المستعمِر والمستعمَر، عادة ما تعني تصادم الإرادات؛ كان صدام السيادة على الزمان والمكان في الحالة الفلسطينية، بعد هزيمة حزيران في العام ١٩٦٧ وخاصة في الفترة الممتدة بين الانتفاضتين ٢٠٠٠ – ١٩٨٧ صداماً شرساً ودموياً، لما يعنيه ربط السيطرة على الزمان بالسيطرة على المكان، وعلاقته بالذخيرة الخطابية لكلا الطرفين المستعمِر والمقاوم في آن.
من هنا تنبع أهمية دراسة الباحثة قسَم الحاج، في فصل الكتاب الرابع، والموسومة بعنوان: “حظر التجول والإغلاقات العسكرية: اعتقال الزمكان الفلسطيني وتحريره”، حيث ذهبت الحاج تدرس محاولات المستعمِر إعادة هندسة الزمكان الفلسطيني، وأدوات الفعل المقاوم لتحريره، متكئة على تحليل لعبة قانون الطوارئ وتاريخه القديم الحديث، وآليات السيطرة من قبل المستعمِر، في مقابل، تعدد أزمنة المقاومة للمستعمَر في شروطها الثابتة والمتحركة وفقا لمتطلبات كل حالة ومرحلة.
البنى الدالة للهوية والحكاية والخطاب
وكي تقف الحكاية على أرض صلبة، في ظل صراع وجودي يتخذ من الرواية مدخلاً مهماً وضرورياً، كان لزاماً أن يجيب هذا الكتاب ولو على جزء يسير من سؤال الهوية الفلسطينية وتعبيراتها الكاشفة عن التاريخ الاجتماعي والسياسي ومركّباته، على نحو تحقيبي يتتبع آثار تعدد الجهات الحاكمة ومن ثم الاستعمار. وهو ما راح الباحث علي موسى يضيء على إحدى تفصيلاتها في الفصل الخامس من الكتاب تحت عنوان: ” أبعاد الهوية الفلسطينية في سيَر ذاتية ومذكرات من نابلس (١٩٤٨- ١٩٦٧)”.
وسعياً للخروج عن الأنماط التقليدية للتأريخ، كان لتحديد هذه الحقبة الزمانية في هذا الفضاء المكاني، أسبابه المنطقية لدى الباحث نظراً لمحاولة انتصاره للتجارب الفردية في السياق الجماعي، فضلاً عن اختياره لمدينة نابلس لاعتبارات سياسية واقتصادية متصلة بالحقبة الزمنية المدروسة، وهي حقبة الإدارة الأردنية للضفة الغربية.
في الفصل السادس من الكتاب، اجتهدت الباحثة أسماء الشرباتي، في محاولة الإجابة على سؤال ميخائيل أبل: ما هي المعرفة المهمة أو المشروعة؟ خاصة في عصر صناعةِ الوعي وأدواتهِ الحداثية التي نظّر لها الفيلسوف الفرنسي دوبريه، وهو يتحدث عن علمِ الميديولوجيا وانتقالِ المعنى في المجتمعِ البشري، فخصصت الشرباتي بحثها المشارك للمقاربة الثقافية البصرية وتحليل النص متعدد الوسائط، تحت عنوان: “صور الفاعلية في الكتب المدرسية الفلسطينية”.
وجاءت دراستها لتقول في جمل بسيطة ومباشرة، إن المناهج الفلسطينية الصادرة بعد اتفاقية أوسلو، انزاحت في تعبيراتها الثقافية والاجتماعية عن حال الشعب الفلسطيني المستعمَر ويومياته تحت الاحتلال، لصالح الرؤى السياسية وإشكالياتها، بمعنى آخر، انزاحت عن القضية بوصفها الموضوع، لصالح المسألة السياسية باعتبارها الحدث.
أما خاتمة الكتاب في فصله السابع، فكانت خاتمة موفقة إلى حد بعيد وهي تتناول عنوان: ما بعد- فلسطين: الخطاب الثقافي الفلسطيني وتراجيديا الهزيمة” للباحث المشارك عبد الجواد عمر، الذي أهتم بمفهوم المقاومة أدبياً، عبر تحري سؤال الهزيمة، وتحولاته الناتجة عن علاقة المنتج الأدبي وكتّابه بسياق المشاريع السياسية.
ولأن “حركة التاريخ تقود قوانين الصيرورة، وتحوّل الفوارق الكمية إلى فوارق نوعية، إلى تحولات مستمرة في أنماط الخبرة الاجتماعية، وأشكال التعبير الثقافي عنها”(٢)، وفق عبد الرحمن بسيسو، يخلص عمر إلى أمرين في غاية الأهمية، يقول الأول: “إن الحاضر يتألف من عدة أزمنة تتقاطع وتتوازى، وبالتالي فإن أفق الإمكانات منفتح ومتصارع عليه وللشعر والأدب قدرة على إقحام نفسه في “لعبة الأزمنة” إن صح التعبير” (ص.٢٣٩) وأما الثاني فيؤكد أن “قراءة الهزيمة في التاريخ العربي الحديث لها مساران، واحد يؤدي إلى تجدد المواجهة بأشكال جديدة، (…) ومسار آخر يرسخها كمقولة سياسية ويجعل منها منطلقاً نحو القبول والتصالح معها” (ص.٢٤٩).
أخيراً، على الرغم من أهمية هذا الكتاب على جبهتي الأفكار المطروحة، وفعل الممارسة النقدية الواردة في مضامينه، إلا أنه يؤخذ على بعض أطروحاته، تقريرية الطرح على حساب اشتباكه، وفي المقابل، تتسم دراساته المهمة والضرورية بعدم التقوقع حول حقل معرفي واحد، وإنما استمدت قوة مجادلاتها، كلغة خطاب تحرري، من حقول معرفية متنوعة؛ فجاء كتاب “مفهمة فلسطين الحديثة”، على شكل ملاحقة لآليات السيطرة في محاولة لتخليق معنىّ جديد.
الإحالات:
-
سنة 501 الغزو مستمر,نعوم تشومسكي, دار المدى, ص386
-
قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر، عبد الرحمن بسيسو، الموسسة العربية للدراسات والنشر- ص.176.