إذا ما تجاوزنا فكرة التجنيس الأدبيّ، وتحصّنا خلف شرط البداهة بمنطقها العفويّ، سنجد أنّ برهان جودة وأهميّة النصّ الأدبيّ، لا يكمن في القضيّة موضوع المعالجة وحسب، ولا في لغته ومركّباتها، كما لا ينحصر في اسم الكاتب ومكانته في الوسط الأدبيّ، ولكن في ندوب الرّوح التي يلمسها القارئ، ووساوس الأفكار التي يتركها النصّ في مخياله.
وحين يكون الحديث عن ندوب الأرواح، فنحن على الأغلب نتحدّث عن روح فلسطينيّة الهويّة، جرحها الأعمق سببه الرّئيس يكمن في الانكسار، وآلامه المتكرّرة من توالي الخيبات، وأشكالها المستنسِخة للهزائم. وأما الأفكار ووساوسها، فهي لا تخصّ حصراً سوى اللاجئ، أي لاجئ أو منفيّ، وهو يطلّ من نافذة حلمه على بلاد لا يفصله عنها إلا قليل من اليقظة والوعي، وكثير من الزمن.
هذا ما يمكن أن يداهم القارئ وهو يتجوّل متجلّياً بين ردهات رسائل بيسان عدوان إلى مجهول بصيغة الكتابة الظاهرة، معلوم بتأويلات المعاني المضمرة، وهي ترشده إلى ملامح الطريق قائلة: “حتى لو تجنبتَ المعارك، لن تنجو من الهزائم” (ص179).
وهزائم بيسان عدوان في باكورة أعمالها الأدبيّة الماثلة بين أيدينا اليوم بعنوان “رسائل الشتات: سردية المنفى والوباء”، الرقمية وابن رشد، 2022” لا تتوقّف عند خلل الحياة بين مواعيد الولادة والموت لأجيال متعاقبة من الفلسطينيّين، ولا فيما بين فعل الولادة ومفعول الموت من انعدام للفروق، وإنّما في مقدار الخيانة وطقوسها الموحشة في بعديها الذاتيّ والموضوعيّ، حيث ملامحنا في المرايا وهي تعكس تشوّهاتها مرّة، ومسوحها الجغرافيّة في الحاضنة العربيّة وصدى صوتها في أخرى. فهي خيانة الذّات للذّات في الأولى، وخيانة الأخ والصّديق لخارطة وتاريخ البلاد في الثانية.
ورسائل بيسان انشغلت، في مجملها، بالبحث عن بيسان الإنسانة ونوافذ حكاياتها مع المكان الأصل، والمكان المنفى، فما بين فلسطين ومصر وتركيّا، تشتّت بشغفٍ لا نهائي، كما عبّرت في رسالتها التاسعة قائلة: “كان عليّ حين أغلق نوافذ الحكاية، وأُلملم أطياَف العابرين خلسة في نصوصي القديمة كي يأتي النّهار، كان علىّ أن أتقن فنّ العبور بنفسي، فإذا بها رحلتي الأولى إلى مدن الالهة الأولى ونقاط الوصل بين عالمين ومتنٍ يؤنس براحاً، بات ضروريا للحياة” (ص85).
هذا البحث الشاق والمضني، دفع بالكاتبة عدوان لمحاولة الإجابة غير المباشرة وربّما غير الواضحة عن سؤال: كيف سنَلجُ إلى الرواية؟ ص33، هذا السؤال العام الذي عبَرَت إليه عدوان بكل تجاربها ورؤاها وحمولتها من الخيبات والانكسارات، لم يكن ليصبح ماثلاً في مخيالها لولا كونها فلسطينيّة الهوى والهويّة، وهي من تؤكد: “أن تكون فلسطيني يعني أن تُصاب بشقاء جميل لا تقدر على الفكاك منه، أن تصاب بلوثة أمل زائفة، أن تُحوّل أيّ هزيمة كبُرت أو صغُرت إلى حجارة تتكئ عليها للصعود، أن تُبقي مستوى الموت مرادفاً لمستوى الحياة، أْن تُصاب بهذا القدر الغرائبيّ الذي يلاحُقـكُ كعاصفة صغيرة كلّما غيّرت اتجاهك لتنجو” (ص37).
إنّ عدوان في نصّها المفتوح على تأويل العلاقة الصفريّة ما بين المرسل والمتلقّي على الرّغم من المتغيّرات البينيّة هنا أو هناك، إنّما دشّنت مشروعها الأدبيّ بمقترح ثوريّ لا يشير إلى السلاح وحده في منازلة الآخر النقيض المستعمر، ولكنه يؤكّد على ضرورة الانحياز للغة الخطاب ومرويّاته التاريخيّة. دون أي ادعاء بالفرادة أو منازعة على الاسبقيّة.
ويشكّل تَعالُق لغة الخطاب بالمرويّات التاريخيّة في نصّ بيسان، نسقاً من أنساق المحاكاة مرّة، والمحاكمة في أخرى، وإعادة التموضع في ثالثة، بما يحدّد علاقة الزّمن المستحضر بالمكان المختطف، فنجدها تقول: “أتعرفُ أنّ حاسّة الشّم لدي معطّلة منذ وطِئْتُ بلاد الأتراك، تركتُها في مكان ما، أحتّلُ روحي؛ كأنّي أحتفظ بي هناك، هنا، هناك، وهناك أماكن لم أخترها، إنّما كانت تختارني: فلسطين مصر وتركيّا. التاريخ يأبى مفارقتي ويعيد الشريط في المشهد” (ص31).
هكذا تبدو علاقة الزّمان بالمكان في نصّ عدوان، علاقة محمّلة بعديد المعاني والدّلالات الذاتيّة والموضوعيّة في آن، فهي ذاتيّة من حيث تعبيرها عن شعور العجز في مواجهة القدّريّة التي جعلت من الفلسطيني موضوعاً للتاريخ؛ وهي موضوعيّة لأن التاريخ ذاته بات مادّة سجال غالباً ما تخضع لشروط المنتصر وما تمليه من لغة القوّة.
ولأنّ “الحظّ لا يصيب إلا الأهداف المتحرّكة” (ص91)، سنلحظ استثمار بيسان للطّاقة التاريخيّة لهذه الجغرافيّات الثّلاث المشار إليها “فلسطين مصر وتركيّا”، لخلق تقابل دلاليّ يؤكّد مقتضيات الرّبط بين الأسباب والنّتائج، ما دفعها لاستدعاء عديد الأسماء والأحداث والأساطير، كأن نجدها تفنّد اسطورة شمشون ودليلة، وتحاكي قصّة بطل شعبيّ تركيّ هو “حكيم أوغلو”، لتربطها بقصّة آخر فلسطينيّ هو “مشعل” لتقول: إنّ الحكايات تتشابه كما الوجوه، وإنْ كان لكلّ منهما منطِقُهُ الذي لا يشبه الآخر.
وعلى الرغم من ذلك، فإذا ما كانت مقتضيات الرّبط بين الأسباب والنتائج بهذا الأسلوب النثريّ، قد تعتبر ضرورة معرفيّة يمكنها أن تُسهم في استخلاص العبر والدّروس للنخب السياسيّة، فهي بالنّسبة للمثقّف تأخذ أبعاداً أخرى، لا تدّعي الفعل الثوريّ التحريريّ، ولكنّها بمضمونها الفكريّ، تعدّ بشكل ما، إقراراً ضمنيّاً بحاجتنا الماسة لفهم يمكنه أن يوسّع من نطاق الاجتهاد بغية تشكيل رافعة لخلاص العقول قبل الأسماء من الخلفيّات الإيديولوجيّة، والبشر قبل الأوطان من شرك الدّلالات الرّمزيّة، على نحو يحرّر الأهداف الوطنيّة من قيود الممكنات السياسيّة.
هذا الإقرار الضمنيّ، لا سبيل لإدراكه إلا بشيء من التأمّل في التفاصيل الصغيرة التي تعمل على اكتمال المشهد الكبير، وهو ما تحاول الكاتبة تمريره وهي تقول: “أنا امرأة بسيطة، يا الله! لا أخافُ من القتل الواضح، لا أخافُ من جنود الاحتلال، ولا دبّابات المركافا، ولا طائرات F16 التي اعتدنا أن ننام على صوتها في غزّة؛ أخاف التّفاصيل التي انفجرت في مرفأ بيروت، وأخاف أشباح قتلانا في صبرا وشاتيلا التي تزورني كَّلّ ليلة منذ أربعين عاماً، أخاف أْن أظلّ محاصرة بنصفِ ارتباطٍ ونصفِ انفصال، مشتاقة إلى الماضي ومنبوذة منه” (ص127).
بيسان عدوان التي “لا تخاف من القتل الواضح” كما لا تخشى الشّتات قدر خشيتها من اغتراب الذّات، كتبت سرديّتها للحبيب الوطن، أو الوطن الحبيب بحثاً عن نفسها في “مدن تصنع تاريخ الهزيمة وتبحث عن بطل في هوامش الماضي حتى تمنح المريض قبلة للحياة” (ص129)، على الرّغم من علاقتها الوثيقة ببعض هذه المدن بـ”نصف ارتباط، ونصف انفصال”، وعلى الرغم من إيمانها بأنّ الكتابة “حيلة أخرى من آليات الدفاع عن النّفس” (ص115)، كتبت سرديّتها هذه، لا لتقول هذا هو حالنا وفقط، ولكن لتؤكد أنّ “التاريخ لديه دائما ما يرويه” في محاولة أخرى للنّجاة من المؤقّت، على نحو يعيد تعريف الهامش.