إن نظرنا لعلاقة الخطاب بالمعنى من وجهة نظر بول ريكور حين قال: إنّ “كل خطاب يُنتَج باعتباره حدثاً، إلاّ أنّه ينقاد للفهم، باعتباره معنى” سننتبه إلى وفرة المعاني المضمرة، المتطابقة والمغايرة في رواية الكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج المعنونة “أحجية إدمون عَمران المالح” (هاشيت أنطوان/نوفل – بيروت – 2020)، إلا أنّ المختلف المميّز في وفرة المعاني المضمرة التي اتّسمت بها هذه السرديّة، لم يستهدف الانزياح عن كلّ نمط حكائيّ كلاسيكيّ واضح وممتدّ وحسب، ولكنّه دفع بفرضيّة الشكّ في كلّ حدث مستقرّ أو شخصيّة أساسيّة أو هامشيّة في الحكاية موضوع الرّواية، مُوظفاً أسلوب التفكيك والتقويض، سواء ورد الأمر على لسان السارد “عمران الشخصية المركزية” أو لسان “فرانز الشخصية الثانية” في السردية؛ ربّما بغية مقاربة كلّ معنيين لا يلتقيان لتخليق دلالات جديدة ومعانٍ محتملة.
أحد هذه المعاني، يعالج فيها الكاتب، المسكوت عنه في رواية المستعمِر عن اليهود العرب، متخذاً من يهود المغرب نموذجاً؛ ليقارب معانٍ أخرى لا تربطها بالأولى أيّة دلالات ظاهرة، كما هي معالجته لقضيّة الفساد الثقافيّ، ليكتشف القارئ دلالات ومعانٍ جديدة تؤكّد وجود علاقة وثيقة بين المعنيين على نحو يصيغ خطاباً مغايراً ومختلفاً يقول إنّ للخراب العام على امتداد البسيطة، وجهاً واحداً يرتدي أقنعة عدة على سبيل التمويه، سواء تعلق الأمر بسرقة وطن أو بالسطو على الأفكار.
الحكاية على المستوى الدلالي
تعاين سردية احجيوج بذكاء لافت، الممارسة الاستعمارية في بعدها الثقافي المُدجن لكل مروية فكرية مغايرة، حتى وإن صدّرتها شخصية متماثلة لا نقيضة، يُمكنها أن تعرّي قبح المستعمر واستطالاته في المكان وخارجه، ما دفع الكاتب لاستدعاء قصّة حقيقيّة لناقد وروائيّ وصحفيّ مغربيّ يهوديّ معادٍ للصهيونيّة، يُدعى إدمون عمران المالح (1917 – 2010)، من أهمّ أقواله الخالدة: “أنا مغربيّ يهوديّ لا يهوديّ مغربي، مناضل عربي وطني، أحمل بلدي المغرب أينما ذهبت”، مؤكداً “لا أعرف أيّة دولة اسمها إسرائيل”(ص24).
وبشيءٍ من التخييل، افتتح الكاتب على خلفيّة حكاية إدمون الحقيقيّة، حبكته السرديّة القائمة على حادثة رشوة تعرّض لها بطل القصّة “الكاتب والناقد العربيّ اليهوديّ عمران” عرضها عليه ناشر يهوديّ زميل يدعى فرانز غولدشتاين، حينما رفع ستار السّرد عن مدخل مشوّق غلّفه بصيغة أمر، من ضميرٍ غائب: “مرّر رواية اليوم المقدّس إلى القائمة القصيرة، وستحصل على شيك بعشرين ألف فرنك”(ص7)، وصيغة الأمر “مرّر” في هذا المقطع، إنّما أرادها الكاتب ليقارب منذ الجملة الأولى، خطاب الاستعلاء المستخدم من قِبل المستعمِر، ليس فقط في الفضاء المكانيّ المسلوب من أصحابه الأصليين، ولا هو ضدّ الآخر النّقيض وحسب، ولكنّه أيضاً ضدّ الذّات في تماثلها المرتبك، ما يعني أنّها أيّ “الشخصيّة اليهوديّة” شخصيّة تعاني من رهاب الخوف والقلق من كلّ شيء وفي أيّ زمان ومكان، الخوف من الآخر المستعمَر؛ والقلق على مصيره المجهول.
مقاربة الخطاب بهذا المعنى، انفتحت على أكثر من مستوى دلالي أتاح للكاتب فرصة استعارة صوت الآخر المستعَمِر، ليعاين هواجسه القائمة والمحتملة في خطّين متوازيين؛ خطّ صراع المرويّات الزّائفة حول اليهود العرب، وسبل تهجيرهم القسري من أوطانهم الأصليّة، وخطّ صراع المقولة سواء تجلّى منطوقها في رواية أو قصّة أو جائزة أو أيّ شيء آخر متّصل بالثقافة ودورها الفاعل، من قِبَل شخص أو مؤسّسة، في الدّاخل المُعادي أو في الخارج الحليف. في محاولة حثيثة لصياغة تصوّرات تنزع فتيل الالتباس بين كلّ مقدّس ومدنّس، نزيه ومخاتل.
تقويض الخطاب
بعد استدعاء حكم الخلوة بين الرجل والمرأة من الشريعة الإسلاميّة بتصرّف جعل من التّناص ظلاً لمقولة أخرى: “ما اجتمع يهوديّان إلّا كان التآمر ثالثهما”(ص22)، نجد الكاتب بدأ بتهيئة القارئ بلغة تبدو محايدة يتلخّص دورها في تنحية أيّة معالجة انفعاليّة، لتناول المرويّات الزّائفة في الخطاب الصهيونيّ، لا سيما حول قضيّة اضطهاد اليهود العرب ورحلات تهجيرهم، وهو يسأل على لسان بطله عمران: “هل تعرف (سفينة) إيجوز؟ بعد أن سألت انتبهت إلى أنّ السؤال ساذج ولم تكن ثمّة حاجة إليه (…) طبعاً قال فرانز غولدشتاين. من يجهل الجهود الجبّارة التي بذلها الموساد لإنقاذ اليّهود المغاربة من عنصريّة المسلمين وإعادتهم إلى إسرائيل”(ص24-25).
وفي مقطع آخر نراه يقول على لسان بطله أيضاً: “الحقيقة هي أنّه يوجد دائماً مسلمون متعصّبون يلقون كلّ أسباب تخلّفهم على إسرائيل محوّلين كلّ كبتهم الدينيّ إلى كراهية تجاه كلّ اليّهود (…) وبالتّأكيد، ثمّة نماذج من اليّهود يغذّون تلكم الأساطير بخبثهم وخداعهم؛ وآخرون في إسرائيل يستثيرون كراهيّة كلّ المسلمين، بسبقِ إصرارٍ أو من دونه”(ص26). هذه اللّغة الحياديّة التي تجلّت بشكلٍ أكثر وضوحاً وهو يُفصّل صورة الآخر النّقيض لدى كلّ طرفٍ على جبهتيّ الصّراع، وظّفها الكاتب لتصبح مدخلاً مقبولاً لتقويض الخطاب بعد معاينة التّقابل المسكون بالشكّ والريبة والتوتّر، ليبدو الكاتب مع هذا المستوى الدلالي على صعيد اللّغة، في هذا المقطع تحديداً، مشغولاً بهاجس إمكانيّة ترجمة الرواية للغات تغدو معها شريحة القرّاء المستهدفة، شريحة أخرى غير تلك العربيّة التي كُتب النصّ بلغتها، لا ليعلن عدم انحيازه لرواية ضدّ أخرى، ولكن ليشقّ مسلكاً يُمكّنه من استعراض رؤاه كاملة دون اجتزاء، في سياق عمليّة تفكيك الخطاب بغية تقويضه.
الرواية وجائزة الأدب المقاوم
هكذا شكّل احجيوج حبكته الروائيّة من مركز وهامش، صاغ معاً البنى الفكريّة والسياسيّة لسرديّة عالجت في المركز قضيّة فساد الجوائز الأدبيّة على الصعيدين الفكريّ والسياسيّ، لتقارب في هامشها قصّة اليهود العرب وعمليّات تهجيرهم القسريّة إلى “أرض الميعاد” التي كرّرها الكاتب في روايته أكثر من عشر مرّات في أقلّ من مئة صفحة، ليس بهدف نفي صفة الانتماء الدينيّ لهذه الجماعة البشريّة عن شخصيّة بطله، وإنّما ليقدّم خطاباً مختلفاً يأخذ بعين الاعتبار كافة التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة التي صاغها الصراع، مشيراً بوضوح إلى ضرورة الاهتمام بأفكار جديدة لم يكن في مقدور أيّ من الطرفين التّطرق لها. كما هي فكرة الدّولة الواحدة التي يقدّمها احجيوج بمواربة على لسان أبطاله، وكذا فكرة المساواة بين الحقوق، حقّ الفلسطينيّ اللاجئ في العودة، وحقّ اليهود “السابرا” الذين ولدوا في هذه البلاد قبل وبعد النكبة. وهي أفكار قد تكون مرفوضة في عنوانها العريض، لدى شرائح واسعة من جمهور طرفيّ الصّراع، ولكنّها باتت الأقرب إلى النّفاذ والتطبيق في ظلّ فشل خيار حلّ الدولتين المنزوع من سياقه الجغرافيّ والتاريخيّ.
يحسب لرواية “أحجية إدمون عَمران المالح” للمغربي احجيوج، المُشاركة في أول مسابقة فلسطينيّة عربيّة تحمل اسم غسان كنفاني، ونالت ثقة لجنة التحكيم لتصل إلى القائمة القصيرة؛ أنّها جاءت في بناءٍ فنيّ محكم، بمحمولٍ أدبيٍّ شديد الالتصاق بقضيّة الحقّ الفلسطينيّ، وقادر على صياغة خطابٍ مقاومٍ لواقع خطاب الزيف الاستعماريّ وتقويض مرويّاته، مما يؤهّلها لأن تكون الرّواية الفائزة بما يشكّله مثل هذا المحمول من رافعة واضحة للخطاب الفكريّ لهذه الجائزة في موسمها الأول، وهي الجائزة التأسيسيّة المؤصّلة للسير قدماً باتجاه كتابة الرّوايات ذات الأفكار المهتمّة بشأن القضايا الوطنيّة والاجتماعيّة الملتزمة بالخطّ المقاوم، ما يدفعنا للقول: إنّ ما جاءت به هذه السّرديّة يشكّل حمولةً فكريةً مهمّةً جعلت من المعنى ظلاً يستحقّ جائزة كنفاني.