عندما طلب مني الصّديق سليم البيك، أن أكتب مساهمة تتناول المسيرة الإبداعيّة للرّاحل فاروق وادي؛ كان جوابي الأوّل أنّي أنجزت مراجعة مفصّلة لروايته الأخيرة “سوداد – هاوية الغزالة”، ليأتي ردّه بأنّه ينتظرها للنشر الفوري، على أن أكمل في مساهمة موسّعة تشمل كافة أعماله؛ وهو الأمر المحفوف بالكثير من الصعوبات، كوني لم أطّلع بشكل دقيق على كامل منجزه الأدبيّ، إلا أنّي شعرت بمسؤوليّة ما تجاه الرّاحل؛ مسؤوليّة دفعتني للاستجابة لهذا الطّلب، لأجد نفسي وقد تورّطت، ورطة الباحث عن منصّة قفز ضروري ومهم في بحر قد نرى سطحه مترامي الأطراف، ولكنّنا لم نختبر بعد ما يختبئ في أعماقه من مقترحات إبداعيّة وجماليّة.
وما أشعرني بأنّه بحر عميق، هي مطالعتي لكتابه قبل الأخير “متاهات الكتابة.. نبيع الكلمات، الحكايات، والأحلام” (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2022) هذا العنوان الذي سبقه إليه عام 2013، مجموعة من الباحثين “عبد الفتاح كيليطو متاهات الكتابة”، وكان الأخير قد أنجز عام 2000 كتابا وُسِمَ بعنوان “أبو العلاء المعري أو متاهات القول”؛ الفارق الواضح بين هذه الكتب، يكمن في كون الأخيرين، يدخلا في جنس السير الغيريّة، فيما جاء كتاب وادي، المؤمن بما كتبه ذات مقال موسوم بـ “غواية العنوان”، ليحاكي متاهاته الشخصيّة في عالم الكتابة، وهو ما يندرج تحت تعريف السير الذاتيّة؛ ليصبح السّؤال: هل كتب وادى بهذا المعنى سيرته الشخصيّة أو جزءاً منها في أعماله؟ للاقتراب من إجابة هذا السّؤال يمكننا الاطلاع على مقاربة الدّكتور عادل الأسطة في مقاله المعنون “سوداد: هاوية الغزالة: روح المؤلف ونصّه” خاصّة وهو يشير إلى العلاقة الواضحة بين أعماله الأولى “طريق إلى البحر”، و”رائحة الصيف”، و”منازل القلب”، و”عصفور الشمس”، وعمله الأخير “سوداد – هاوية الغزالة”. إلا أنّ أحداً منّا لا يمكنه أن يجزم بصحّة هذه المقاربة، ولكنّ وادي نفسه جزم بصحّتها في متاهاته حين قال: “الكتابة التي تسعى إلى تقديم تجربة محدّدة ونصّ مفتوح غير قابل للتجنيس، لم تكتب نفسها كسيرة” (ص41).
مهما يكن؛ إن عدنا إلى الكتب التي حملت نفس عنوان “متاهات الكتابة” أو “متاهات القول”، سنلحظ أنّ المشترك بينها يكمن في محورين أساسيّين هما، العنوان والهمّ؛ فعنوان المتاهة جامع على الرّغم من مفهومها المقارب للتشظي؛ والهمّ، همّ الكتابة التي تمثل أحمالاً ثقيلةً بنسب مختلفة، مسؤوليّة ما، تقع على عاتق غالبيّة روّاد هذه المهنة المرهقة والممتعة في آن. فما يعرف عن كيليطو حول كتاباته كما تشير مجموعة الباحثين في تجلّياته الكتابيّة، إلى أنّ “الفعل الكتابيّ لدى كيليطو، تصوّراً وإنجازاً، مرتبط بالفعل القرائيّ، على نحو يجعل تحقّق أحدهما رهيناً بالآخر” كما يقول الكاتب والنّاقد المغربيّ خالد بلقاسم؛ وهو الأمر الذي يمكننا ملاحظته بشكلٍ واضحٍ في كتابات وادي أيضاً، خاصّةً وهو يشير إلى تجربة الشّاعر البرتغاليّ “فرناندو بيسوا”، في روايته الأخيرة “سوداد” وإلى كتابات كلّ من التشيلي ” بابلو نيرودا” والفرنسيّ “ستاندال” و الألمانيّ” باتريك زوسكند” و الداغستانيّ “رسول حمزاتوف” وغيرهم العشرات من كتّاب الغرب، وكذا الحال في قراءته للأدب العربيّ قديمه وحديثه، والإشارة إليه بدءاً من “بن عربي” وصولاً إلى محمود درويش، وغالب هلسا، و إبراهيم أصلان، و سلمى الخضراء الجيوسي، فضلاً عن دراسته المهمّة لتجارب كنفاني وحبيبي وجبرا. القراءة إذن لدى وادي ما هي إلّا وقود كتابة جديدة؛ ولذا كان يكتب ليتساءل ويتأمّل: “لماذا تكتب؟! أحياناً أكتب حتى أثبت أنّ العزلة تستطيع أن تكون مثمرة، فتُنتج عالماً يضجّ بالبشر” (متاهات الكتابة ص23).
ولأنّ الكتابة خطّ وَصْلٍ بين فكرة مرسلٍ وحاضنة متلقٍ، وهي عادة ما تكون بحاجة إلى فضاءات جديدة يمكنها أن تحمل همّ الرّسالة؛ اهتم فاروق وادي بكتابة قصّته أو ما يدور حولها من تصوّرات أو أحداث هنا أو هناك، في كلّ مقال كان يقذف به للنشر، وكأنّه راح يغزل على منوال ذاك “الخيط السريّ الممتدّ من القلب.. إلى المكان القصيّ في دهاليز القلب الآخر” (متاهات الكتابة، 89). فلقد بدأ وادي بكتابة القصّة القصيرة في صحيفة “الجهاد” المقدسيّة منتصف ستينيّات القرن المنصرم، ومن ثمّ مجلّة الآداب البيروتيّة، وصولاً إلى عدد من المنابر والمجلاّت العربية، فكانت مجموعته القصصيّة الأولى “المنفى يا حبيبتي”، ليدخل بعدها عالم الرواية بروايتين هما: (طريق إلى البحر) و(رائحة الصيف)، ومن ثم كتب السيرة في (منازل القلب) بعد زيارته الأولى لمدينة قلبه “رام الله”؛ وهو الكتاب الذي اجتهد ليجمع فيه، بين سيرته الذاتيّة، وسيرة المدينة التي ولد وعاش فيها طفولته بكلّ خلجاتها، وسنوات شبابه الأولى بكلّ جمالها. لتتوالى الإصدارات التي وصلت خمسة عشر إصداراً كان آخرها روايته “سوداد- هاوية الغزالة”. فيما تُرجم بعضها إلى عدّة لغات حيّة.
وادي الذي برع في سبك المقالة الثقافيّة، طيلة عقودٍ في عموده الأسبوعيّ بصحيفة الأيّام الفلسطينيّة، وبعض الصحف العربيّة، كبراعته اللّافتة في النّقد الأدبيّ، تحديداً في كتابه المرجعيّ “ثلاث علامات في الرّواية الفلسطينيّة”، غاص عميقاً في الاستفادة من تجريب تداخل الأجناس الأدبيّة في كتاباته، حيث كان يؤمن دون مواربة بأنّ فعل الكتابة فعل حريّة كما عبّر عن ذلك في حوار صحفيّ قال فيه: “إذا كانت الكتابة هي عمليّة ممارسة الحريّة، فإنّني بالفعل لا أمارس حريّتي إلّا من خلالها” تماماً كما كان يؤمن بما قاله يوماً الإسبانيّ الرّاحل حديثاً خافيير مارياس حينما أكّد “أنّ أجمل رواياته تلك التي عجز عن كتابتها، وأجمل ما في الكتابة هو الضياع، عندما يفقد الروائيّ خارطة الطريق”؛ ولذا كانت آخر كلمات وادي لأهل بيته “بدّي أكتب”.
والضياع الذي يشير إليه خافيير، هو نفسه ما أسماه وادي بالمتاهة، فكان كتاب “متاهات الكتابة” الذي يشكّل أرضيّة مناسبة للاطّلاع على التّجربة الحياتيّة والإبداعيّة للكاتب وعناصر تكوينها من جهة، وتجارب عديد الأسماء العربيّة والغربيّة من جهة موازية، والذي كتبه وادي لا ليقول هذه تجربتي، أو ليبحث في تجارب الآخرين من جهة شخصيّة أو إبداعيّة وحسب، ولكن ليحاول الوقوف أمام الفوارق البينيّة القائمة أو المتقاطعة المحتملة بين الذهنيّ والواقعيّ في تصوّراته وتصوّراتهم، وظلال التّجربة والتعبير عنها في حياته وحيواتهم. بحثاً عمّا يمكن أن يكون في المساحة الفاصلة بين الوضوح والايهام، بين الواقع والخيال، بين الصّفة ومشتقّاتها، صفة الكاتب بوصفه كاتباً، ومشتقّاتها باعتباره أولاً وأخيراً إنساناً ومواطناً، تائهاً ومقهوراً؛ ولا عجب في ذلك، وهو الباحث بوعي طموح، ورؤيةٍ كاشفةٍ، عن ملامح العلاقات الظاهرة والغامضة بين الكاتب وكتاباته، في سياق محاولته العميقة للتمييز بين العبد والحرّ؛ عبد يسير مع القطيع، في مقابل حرّ هو من يخلق طريقه ويعبّدها. هكذا عاش فاروق وادي الإنسان والكاتب ليروي، وعلى وقع ما ترك من أثر غاب ليبقى.