تستطيع الكاميرا، بما تمثّله من سلطة على مركزيّة الزّمان، أن تلعبَ دوراً أكثر فاعليّة من البندقيّة لسرقة المكان أيضاً؛ على هذا النّحو من المقاربات المكثّفة، يُمكننا أن نقرأ استدعاء الكاتب والروائيّ الفلسطينيّ إبراهيم نصر الله، لشخصيّة المصوّرة الفلسطينيّة الرّائدة كريمة عبّود في جزئه الثاني من مجموعته الروائيّة “ثلاثيّة الأجراس” والمعنون “سيرة عين”، وهو الاستدعاء الذّي لم يأتِ لاعتبارات التأريخ أو لكتابة سيرة غيريّة وحسب، ولكنّه الآتي على سبيل التفنيد لمقولة المستعمر الأولى، ” أرضٌ بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض” حيث وظّف هذا “الشعب المستعمَر” الكاميرا كأداة إخفاءٍ لشعب الأرض، الواقع تحت نير الاحتلال، ببساطة لأنّ “البندقيّة تستطيع أن تقتل شخصًا واحدًا أو اثنين، لكنّ الكاميرا تستطيع أن تُبيد مدينةً حين تُخليها من سكّانها”(١).
والحديث عندما يتعلّق بالمفردة البصريّة في مواجهة رصاصة البندقيّة على الجبهة الفلسطينيّة، وجب أن يبدأ بنيويًّا من لحظة الفعل الأولى للمصوّرة كريمة عبّود، بوصفها رائدة فعلٍ بصريّ؛ وأن لا ينسى أو يستثني الحضور الطاغي، لشخصيّة حنظلة التي خلقها المبدع الرّاحل ناجي العلي من رحم المعاناة، بوصفها أيضًا الشخصيّة الفلسطينيّة الحاضرة بفاعليّة بصريّة أكيدة على الرّغم من غياب صاحبها؛ وما بين هذه وتلك، يمكننا تناول البعد السينمائيّ باعتباره أداة تجسيد مرئيّ للوجود، مقابل محاولات الشطب والإخفاء.
وصراع الرؤية والإخفاء منذ الخروج الأوّل في عام النّكبة، مروراً بالثّاني في عام النكسة، وصولاً للثّالث عشيّة حصار بيروت، هو صراع المعادلة المختلفة والمتغيّرة والمتحوّلة بالضّرورة، لعديد الأسباب والعوامل الاجتماعيّة والسياسيّة والجغرافيّة وحتّى الإبداعيّة؛ وهو التصوّر الذي سعى مهرجان “أيّام فلسطين السينمائيّة” منذ دورته الأولى، أن يؤكّده ويعبّر عنه، دون تصريحٍ مباشرٍ، وفق ما يمكن فهمه من برامج وأفلام وجلسات نقاش البرنامج الموازي في دورته التاسعة، بعناوينه الواضحة “تأمّلات في الذّاكرة الجمعيّة البصريّة – قبل الخروج من بيروت، وما بعده – الفلسطينيّ شخصيّة سينمائيّة”، وكذلك لمحتوى كتيّب “حديثٌ لذاكرةٍ بصرية”، ليصبح سؤال المعادلة المتفرّع لعديد الأسئلة: هل سيصبح للمقولة البصريّة اليد العليا في المواجهة بالمعنى الثقافيّ بين مفهوميّ الرؤية والإخفاء، خاصّة مع التطوّر الهائل على الصّعيدين الفنيّ والتقنيّ؟ كيف يمكن لصُنّاع السينما الفلسطينيّة أن يرسموا صورةً كونيّة لفلسطين القضيّة والشعب؟ وإلى أيّ حدّ استطاعت السينما الفلسطينيّة اجتياز التقسيمات الجغرافيّة والسياسيّة للشعب الفلسطينيّ في الداخل والخارج؟
في الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، نجد أهمّ إنجازات هذا المهرجان تتلخّص في مقاربة سؤال الهويّة، بوصفه سؤالاً مركزياً، تكمن داخله عديد الإجابات عن عشرات الأسئلة المحتملة؛ سؤال المسألة الإبداعيّة في المعالجة الدراميّة، وسؤال الإنتاج وحاجاته التقنيّة، وكذا سؤال محاكاة فضائيّ الزّمان والمكان؛ ففي المهرجان كلّ ما عُرض من منتجٍ فلسطينيّ، هو لمنتجين فلسطينيّين، سواء من الداخل أو الخارج، وفي المهرجان أيضًا برزت روابط القوّة الكامنة بين الجغرافيا المختطفة بتاريخها المسلوب، وبين الإنسان المنفيّ في الشّتات والمحاصر في مساحاتٍ أخرى من البلاد، وكذا تكمن خيوط العلاقة الوثيقة والتبادليّة بين مركز الموضوع الجمعيّ وهامش الذاتيّ، حيث “يمكن للمثقّف في مثل هذه الحالة أن يصبح مؤلّف لغةٍ، يحاول من خلالها أن يَجهَرَ بالحقيقة في وجه السلطة”(٢)، على حدّ تعبير إدوارد سعيد.
وصعود نجم السينما الفلسطينيّة المعاصرة في ظلّ تراجع مكانة السينما المصريّة بوصفها مركز الإبهار الهوليوودي في الشرق، لم يأتِ على سبيل المصادفة، وإنّما تحقّق نتاج فعلٍ تراكميّ تأسّسَ بأبعاده الإبداعيّة على يد عديد الأسماء الفلسطينيّة، بدايةً من ميشيل خليفة الذّي بدأ بسرد الحكاية الفلسطينيّة في زمن الثورة، وعاش تحوّلات ما بعد الخروج من بيروت، مرورا بما قدّمه المخرج المجدّد إيليا سليمان من “واقعيّة صادمة” على حدّ اجتراح الإيراني حميد دباشي بوصفها محدداً حاسماً للحظة السّينما الفلسطينيّة(٣)، وصولاً لما تقدّمه اليوم مها حاج ومعاصروها من منتجي وصنّاع السينما الفلسطينيّة؛ وهو ما يعني أنّ المفردة البصريّة آخذة في الحضور والثبات والتمدّد.
الأمر الذي يفرض علينا لزامًا تناول صورة الشخصيّة الفلسطينيّة في السينما والتحوّلات التي مرّت بها منذ ظهورها الأوّل بوصفها صورة المحاكاة لشخصيّة اللّاجئ، ومن ثمّ الفدائيّ والمقاوم، ومن قبلها وبعدها بوصف الفلسطينيّ أولاً وأخيراً إنساناً بعيداً عن مفارقات إلباسه دوريّ البطولة والتضحية، ببساطة لأنّه بكلّ أحواله ضحيّة ارتدت ثياب البطولة شاء ذلك أم أبى؛ فهو ضحيّة لسلب المستعِمر كلّ مقدّراته الطبيعيّة من أرض وسماء وحقّ في ممارسة الحياة، وهو بطل لمجرّد صموده في مواجهة مثل هذا العسف الجائر؛ وتقديم صورة الفلسطينيّ بعيداً عن نمطيّتها السابقة تَزامَن مع تحوّلات الخطاب الفلسطينيّ نفسه، من خطابٍ تعالت شعاراته الثوريّة بلغة الرّفض في زمن الثّورة، إلى لغة السؤال في الانتفاضة الأولى وما تلاها، وصولاً إلى لغة التّردّد والشّكّ والتّيه والتخبّط أحياناً عشيّة انطلاق العمليّة السّلميّة “أوسلو”، وما أفرزته هذه التحوّلات مجتمعةً من لغة بدت ولا تزال تقارب الفلسطينيّ في سياق شروطه الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة المتحرّكة في مكان ما، والملتبسة والمتغيّرة في أماكن أخرى؛ الأمر الذي حاولت السّينما أن تجتازه قدر الإمكان، فكانت هناك إخفاقات ونجاحات ما تزال تحاول صادقة التحرّر من السطوة المباشرة للموضوع ومكانه بمجازهما الاستعماريّ المهيمن على ذهنيّة الشعب الفلسطينيّ ومكوّناته الجغرافيّة والاجتماعيّة في الدّاخل والخارج، على أن يكونا معاً، أي الموضوع ومكانه، فريقاً من فرق شهود العيان على التفصيل الجماليّ أو السياقيّ للأعمال السينمائيّة، لا أن يختفيا لصالح البعد الجماليّ الفرديّ فقط، على عكس ما بدا الحال عليه في السّاحة الأدبيّة مع نهايات العقد الأخير من القرن الماضي، تحديداً في الضفة والقطاع، حيث بات التحرّر من الموضوع الجمعيّ يقدّم بوصفه انتصاراً لجماليّات المعنى الفرديّ والإنسانيّ.
في خضم هذه التحوّلات يداهمنا سؤال الذّاكرة، وما تلبّسها من خطاب الحنين المفرط في تحديد الصّورة الذهنيّة للمدينة الفلسطينيّة ما قبل الاستعمار، “حيث بات الاحتفاء بهذه الصورة مبالغاً فيه إلى حدّ بعيد”(٤) وفق ما طرحه الكاتب والباحث عصام نصار، في جلسة ” تأمّلات في الذّاكرة الجمعيّة البصريّة”، إلّا أنّها قد تكون مبالغة معبّرة بشكل أو بآخر عن سؤال ثقافة الأزمة، كما أشار إليها محمود درويش باعتبارها “محصّلة تاريخيّة لمعاناة مرحلة كاملة، مرحلة تختلط فيها (…) الحداثة بالاغتراب والأصالة بالسلفيّة (…) في ثقافة الأزمة، خيارات ورؤى متشابكة بعضها يعلن الهرب من مواجهة الحاضر عبر اللّجوء إلى صياغات الماضي”(٥).
بيد أنّ السينما بوصفها أداةً من أدوات تشكيل الوعيّ الفرديّ والجمعيّ، عادةً ما تتوق إلى المزيد من الحريّات، ولذا فقد سار ولا يزال منتجيها باتجاه محاولة الخروج عن كلّ تأطير مقيّد، تحديداً في علاقتها المشتبكة مع العوامل السياسيّة، وهي المحاولة التي بدت واضحة في العقدين الأخيرين على وجه الدّقة، حيث ذهب صانع السينما الفلسطينيّة يجتهد لرسم ملامحه الخاصّة على بعد مسافة مقبولة من الموضوع الوطنيّ، ما منح منتجي وصانعي هذا الشّكل المقاوم مساحاتهم المختلفة، لمعالجة سؤال الهويّة ومركّباته الذهنيّة، في ظلّ واقعٍ لم يزل يعاني من غياب البيئة اللّازمة لفكرة الصّناعة وما تتطلّبه من شروط تمويليّة، مازالت تشكّل عائقاً واضحاً وملحًّا في طريق المحاولات السينمائيّة الفلسطينيّة الدؤوبة، لخلق مكانةٍ لها في المشهد السينمائيّ العالميّ، باعتبارها المكانة التي يمكنها أن تلعب دوراً فاعلاً في زحزحة رؤى المركزيّة الأوروبيّة، لصالح إعادة الاعتبار لقضايا الهامش وأهميّتها.
إحالات: