على الرغم من أن جوناثان نويل، بطل رواية “الحمامة” يذكِّرنا أكثر ما يذكرنا بمسخ كافكا في روايته “الإنمساخ”، إلّا أنه يحيلنا أكثر، في عجزه وصراعاته الداخلية الناتجة عن حادث عرضي بسيط، إلى إيفان، بطل قصة “وفاة موظف” القصيرة للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، وأثر القهر والخوف في تكوين شخصية كلٍّ منهما، ودورهما في تحديد مصير الشخصيتين. فجوناثان الذي تعدى الخمسين من العمر أمضى من حياته 20 سنة من دون أي حوادث تذكر فهو لا يحب الحوادث، ويكره من بينها تلك التي تهز كيانه النفسي من قبيل مصادفة شخصٍ في الممر المؤدي إلى المراحيض المشتركة حيث يقيم. وهو يحب الرتابة، وإذا ما صودف أن حدث له طارئ مهما كان من البساطة والخفة فإنه يقلب كيانه رأساً على عقب، ويُدخل الفوضى إلى حياته التي ما زالت ضحية اضطرابات نفسية ورثها من فترة صباه.
وقد حدث هذا الأمر صباحاً عندما فتح باب غرفته الوحيدة هامًّا بالخروج إلى المرحاض قبل التوجه إلى عمله، فإذ به يرى حمامةً جاثمةً بسكونٍ على بعد شبرٍ من باب الغرفة الخارجي. يصاب جوناثان بالذعر ويغلق الباب عائداً إلى الداخل، لازياً إلى سريره، متدثراً بأغطيته ليدفئ كتفيه المرتعدين من البرد، وليعيش ساعاتٍ من الصراعات والهواجس والمونولوج الداخلي والمخاوف التي سببها وجود الحمامة في الممر المؤدي إلى غرفته وإلى بقية الغرف المجاورة.
تنفتح رواية الحمامة للكاتب الألماني باتريك زوسكيند، (دار المدى، بغداد 2022 ترجمة كاميران حوج) على مشهد عودة الفتى جوناثان نويل من صيد السمك إلى منزله، وهي اللحظة التي كان لها الأثر البالغ في تكوين شخصيته بقية حياته. حين وصل لم يجد أمه في البيت، بل وجد مئزرها معلقاً على مسند الكرسي، ليخبره والده أنها اضطرت للسفر وستغيب لفترة طويلة، ثم لا يلبث أن اختفى الأب بعد أيام. أياماً أخرى ويأتي أناس لا يعرفهم لينقلوه وأخته بعيدًا إلى عمهما الذي لم يشاهداه من قبل، فيخبئهما في مزرعةٍ بعيدة عن منزله حتى نهاية الحرب.
بعد سنوات من انتهاء الحرب لم تتبدل شخصية جوناثان ولم تتطور، وكونه ما زال يشعر بالعجز لم يمتلك حس المبادرة، لذلك نراه يفعل كل ما يطلبه منه عمه، يشير إليه أن يعمل في الزراعة فيعمل بشغفٍ، إلى أن يطلب منه التطوع في الجيش فيطيع قراره الذي ذهب به إلى الهند الصينية وأبعده عن الحياة لمدة ثلاث سنوات، وحين عاد لم يجد أخته التي أخبروه إنها ربما هاجرت إلى كندا. بعد ذلك يطلب منه عمه الزواج من فتاةٍ لم يسبق أن رآها فيفعل. وحتى هذه التي أنجبت ولداً قبل مضي أربعة أشهر على زواجهما، تركته وهربت مع بائع خضار تونسي، ما جعله محط سخرية الناس وتلصصهم على حياته. وهنا كانت النتيجة التي توصَّل إليها جوناثان، والتي قادته إلى القرار الذي اتخذه؛ “الناس لا يُوثَق فيهم، وأن على الإنسان، إذا أراد الهدوء والسلامة، أن يعتكف عنهم”. في هذا الوقت، يحدث الفرق في سيرة جوناثان، إذ يتجرأ، وللمرة الأولى على اتخاذ قرارٍ، قرارٌ يخصه هو ويغير حياته، وهو المغادرة إلى باريس كي يختفي في زحامها عن أعين الناس.
وكما توقع، كانت ضالته في باريس التي وجد فيها عملاً بصفة حارس مصرف، واستأجر غرفة مما يسمى غرف الخدم، في الطابق السادس من أحد المباني القريبة من عمله، لا تتعدى مساحتها سبع أمتار ونصف المتر، فيها سريرٌ وطاولة ومغسلة وعلاقة ثياب، وهي كل ما يريده لحياته في سنيِّه المقبلة كونه لا يبحث عن الترف بل كل ما يريده هو مبيتٌ آمن. لقد صارت هذه الغرفة مأواه الذي يأتي إليه بعد انتهاء العمل، يأكل فيها وينام، ولا يغادرها حتى خلال أيام العطل. ومن شدة إعجابه بها، قرر شراءها ليمضي فيها بقية حياته بعيداً عن الناس والمفاجآت المزعجة التي يسببها الاحتكاك بهم.
مع مضي الأيام، وفي الستينيات، جرى تعديلٌ على نظام الكهرباء فأصبح التيار أقوى، ما أتاح لجوناثان اقتناء سخانتين كهربائيتين، واحدة للطبخ وأخرى للتدفئة. وبعد سنوات قليلة اشترى سريراً جديداً ومذياعاً وجهاز تلفزيون ومكواة، وبعدها اشترى براداً لحفظ الطعام، ثم ركَّب على الجدار رفًّا خشبيًّا وضع عليه سبعة عشر كتاباً من الكتب المنوّعة في مختلف المجالات، كما أصبح يحتفظ بزجاجات من النبيذ تحت السرير، بينها واحدة فاخرة ليحتفل بها يوم إحالته إلى التقاعد.
كبُرت الغرفة بالأغراض الجديدة كما تكبر القوقعة مع نمو الحلزون داخلها. لكن لم يكن يخطر ببال جوناثان، أنه بعدما بنى مملكته على أكمل وجهٍ، وبعد أن استتبَّ له المقام فيها، أن تحدث له تلك المصيبة التي وقعت حين خرج من غرفته متوجهاً إلى المرحاض صباحاً، ليرى حمامةً أمام غرفته فيحدث الاضطراب الذي يخاف من حصوله لحياته الهانئة في رتابتها.
وجوناثان الذي جعل الغرفة حصنه الحصين في وجه الآخرين، لم يدعُ إليها أي ضيفٍ، إذ إن دخول هذا الضيف سيغير من مسار حياته، كما فعلت الحمامة. ولا فرق في نوع المؤثر، سواء كان حمامة أو سُلَحفاة أو شخص ما، كل طارئ سيدمر سكينته وعزلته. ولذلك نراه يراقب الممر كل صباح قبل خروجه من الغرفة كي لا تتكرر تلك المصادفة التي حدثت قبل 25 سنة، حين التقى أحد نزلاء المبنى بينما كانا متوجهين إلى المرحاض في نفس الوقت، وعلى الرغم من اللطافة التي أبداها الجار، إلا أن بدنه يقشعر يوميّاً كلما تذكرها.
يمكننا القول إن الحبكة الأساسية، والحدث الأساسي للرواية، يكمنان في هذه الواقعة التي تُبرِز دواخل جوناثان وأمراضه النفسية الكامنة التي تأجَّلَ وصولها إلى مداها الأعلى إلى حين ظهور تلك الحمامة في حياته. ومن شدة الدقة في سرد وقائع حياة جوناثان وتفاصيلها، وإظهار المكان، الغرفة، التي أصبحت بمثابة شخصية رئيسية أخرى بجانب شخصية البطل، نعتقد أن الكاتب يريدنا أن نتوقف مليّاً عند الخلل الذي أحدثه حلول الحمامة أمام بابها أكثر من الاهتمام بما تبقى من حوادث تالية أو سابقة. لذلك، وفي بنائه للرواية، يبدو أن الكاتب أهمل الزمان باعتباره من عناصر الرواية الأساسية فلم يوظفه في بناء الشخصية أو الرواية، بقدر ما ركز على المكان، الغرفة، الذي أعطاه الأولوية في السرد لإظهار توافق المكان مع شخصية جوناثان الانعزالية، وتماهيه مع الغرفة وتماهيها معه، وتبيان دورها في تعزيز شخصيته. لذلك رأينا أن جوناثان اتخذ قراراً مصيريّاً بعد هروبه من الحمامة وانتقاله للعيش في غرفة فندق ليست أوسع من غرفته، بل تماثلها بالحجم، حين شعر أنه أُجبر على الابتعاد عن غرفته المحبوبة لأنها ملاذه ومعشوقته وسبيله للحصول على الأمان من خلال وحدته وانعزاله، بينما لم تحقق له غرفة الفندق ذلك بسبب شعوره بالغربة عنها، وعن عالمه الذي ساهمت غرفته في تعزيزه، حينها قال غداً سأنتحر، ثم نام.
ولأن الحبكة تركز على واقعة الحمامة، وما طرأ على شخصية جوناثان من تغيُّرات وصراعات داخلية وظهور حالات الخوف والاضطراب النفسي الذين حركتهم تلك الواقعة، نعتقد أن الكاتب كان يريد كتابة قصة قصيرة وليس رواية. فهي أقرب إلى القصة القصيرة مع قلة الشخصيات والحوارات والحوادث، غير أنه طورها لتصبح رواية قصيرة. ونعتمد في كلامنا هذا على معرفتنا بما فعله سابقاً مع روايته الشهيرة “العطر، قصة قاتل” التي كانت في الأصل قصة قصيرة، ثم طورها فأصبحت رواية. إذاً ليس المهم ما حدث بعد أن تدرَّع جوناثان بثيابه الشتوية التي ارتداها في ذلك اليوم القائظ من شهر أغسطس/ آب، متسلحاً بالمظلة لكي يحمي نفسه من هجوم الحمامة، بينما كان يحمل حقيبة سفر وضع فيها أغراضه المهمة مغادراً غرفته إلى أحد الفنادق ليمضي فيه أياماً أو ربما أشهراً ريثما ترحل الحمامة وتزول الآثار التي تركتها على أرض الممر. بل المهم، هو ظهور الخوف والصراعات الداخلية التي اعتملت في نفسه، مثلما اعتملت تلك الاضطرابات والصراعات والهواجس ومشاعر الخوف داخل شخصية إيفان ديمتريفيتش تشرفياكوف، في قصىة تشيخوف القصيرة “وفاة موظف”، بعد أن عطس فوق رأس الجنرال بريزجالوف بينما كان يشاهد عرضاً مسرحيّاً.
فكما فعلت الحمامة مع جوناثان، غيرت العطسة مصير إيفان وجعلت هواجسه تتفاعل ومخاوفه تتزايد، بعدما ظن أن الجنرال الذي يعمل في مصلحة السكك الحديدية لم يقبل اعتذاره عن تبليله رأسه ورقبته برزاز العطسة. وقد ظن إيفان أن الجنرال في تأففه منه ومن اعتذاراته المتكررة ربما يريد أن يُلحق به الأذى، فكان يصر على تكرار اعتذاراته ومحاولات شرح موقفه كلما قابل الجنرال. لذلك، وبعد أن طرده الجنرال من مكتبه حين حاول الاعتذار مجدداً وإنكار تهمة السخرية التي اتهمه بها الجنرال، عاد إلى منزله واستلقى على الكنبة ومات.
كان يمكن لجوناثان أن يلقى مصير إيفان، إلا أن الكاتب جعله يعطي لنفسه الفرصة ويمتنع عن الانتحار، حين استفاق في الليل على ظلام الغرفة الحالك، واعتقد أنه ما زال محبوساً في القبو بينما الحرب تدور في الخارج. حينها أدرك حاجته للناس لكي ينقذوه، وكاد أن يصرخ أنه لن يستطيع متابعة العيش من دون الناس، فنراه صباحاً وقد نزع عنه الفترة التي تلت عودته إلى منزله ووجد أمه وقد اختفت، فغادر الفندق قاصداً غرفته، وفي الطريق يسترجع اللهو الذي كان يمارسه قبل سنوات كثيرة فيلعب ببُرَكِ الماء التي تركها المطر الذي نزل ليلاً، تماماً كما كان يفعل في صباه، متغلباً بذلك على القهر الموروث، وعلى خوفه، وهو ما لم يستطع أن يفعله إيفان فمات.