سأضحك بكل تأكيد

Rana Samara Untitled: 42, 2021 Acrylic and spray paint on canvas

يحيى عاشور

كاتب من فلسطين

لكني، لا أرى أنني أعيشُ داخل نفسي، أنا أعيش داخل قصيدةٍ لا نهاية لها. أعرفُ ما قد يقوله العالم: "الجميع يقول ذلك". لكن منذ متى يستمع العالم إلى أحد؟ هل يعلم شيئاً عما يجب أن يحصل بعد أن يستمع؟

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

19/03/2023

تصوير: اسماء الغول

يحيى عاشور

كاتب من فلسطين

يحيى عاشور

حصل على الزمالة الفخرية في الكتابة من جامعة آيوا الأمريكية عام 2022. صدر له «لهذا ريان يمشي هكذا» (قصّة أطفال، 2021)، والتي حصلت على جائزة الملتقى العربي لناشري كتب الأطفال، و«أنتَ نافذة هم غيوم» (شعر فتيان، 2018)، كما له عدة إصدارات مشتركة بالإضافة إلى نشره في عدة مجلات إلكترونية. ترجمت كتاباته إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية.

“رغم كل الأسباب التي تتوسلني لأنساك، لا زلتُ لا أستطيع. ولا زلتُ لا أجد سبباً واحداً يدفعني إلى مسامحتك. مع مرور كل يوم، أكرهك أكثر وأكثر.”

كان هذا هو أول شيءٍ سمعتُ نفسي أكرره مراراً وتكراراً قبل أن ألاحظ “الشيء”. بدا ما سمعته كأنه قصيدة أو رسالة قد أقرأها، وليس شيئاً يُسمع. لستُ متأكداً إذا سمعتُ أحدهم يقول هذا لي أو إذا كنتُ أقولُ هذا لنفسي أو حتّى لشخصٍ آخر. من أنا ومن هذا الآخر “الذي أعرفه”؟

لا أتذكَّر متى كانت المرَّة الأولى التي لاحظتُ فيها وجود هذا الشيء. لكني أتذكَّر تماماً أوَّلُ شيءٍ قُلته حينها. كان التوتر والإرهاق يحاصران أفكاري، ولم يمنحاني وقتاً أتبين بالضبط ما هو، أو ربما من. صرختُ في وجهه: “أرجوك، افتح! أرجوك!”.

لمْ أفترض أنَّ بإمكانه فهم الكلمات فحسب، بل أنه يمكنه سماعها أيضاً. لقد حرصتُ على أن أصرخ، كما لو أنَّ الصراخ سيُنبتُ أذنين إذا ما كانتا موجودتين. سقطتْ بضعُ دموعٍ من عيني، كما لو أن هذا أيضاً سيسهم في أي شيء.

لا بدَّ أن وقتاً طويلاً قد مضى قبل أن يجيب، أو هكذا أدفع نفسي للاعتقاد. أن تصيبني الصدمة وأدركها، هذا لا يحدثُ في ثوانٍ. وألا تُحدث كلماتي أو صدمتي أثراً في الشيء وأن يواجه ذلك كله ببرود، كيف يستغرق ذلك أقل مما يلزم لوصفه؟

أجاب الشيء بكلمةٍ واحدة، أو بالأحرى بسؤالٍ حوى كلمةً واحدةً لا يقبل كلمةً واحدةً أيضاً كإجابة. “لماذا؟” قال الشيء. هذا السؤال حوَّل توتري إلى فوضى كبيرة، أكثر مما فعلت الكلمات العديدة التي سمعتُ نفسي أقولها سابقاً.

أظنني لمْ أكنْ أعرفُ بعد كيف أستسلم، وبالطبع لمْ أكنْ أعرفُ كيف أنهار أو أتصرف كحجرٍ ضخم أمام ذلك الشيء. تمنيتُ، في أعماقي، لو كنتُ أنا من ليس لديه آذان أو حتى عيون. لما كنتُ طلبتُ شيئاً من ذلك الشيء إذا لم أكن أراه، ولم أكن لأشعر بالحاجة إلى فتح شيء مثله أيضاً.

“لماذا؟” كرر عقلي السؤال.

حينها فقط، أدركتُ أنني نسيتُ لماذا أريد لهذا الشيء أن يفتح. هل يمكن حتّى فتحه؟ لماذا سيفتح لي بالذات؟ ولأي سبب من الأسباب؟ ربما لم يكن لدي أي سبب في المقام الأول. ربما ظننت أنه كان لدي سبب. من الممكن أن الشيء يعرف الإجابة بالفعل.

ماذا تكون الإجابة يا ترى؟ ما الذي جعلني أعتقد أنه يعرف الإجابة؟ لحظة! هل يعقل أن أكون أنا من طرح السؤال؟ لحظة! لحظة! أين أنا؟ من أنا أصلاً؟ متى ولماذا وكيف بدأ كل ذلك؟ ممن أطلب اللحظات؟ على من أطرح كل هذه الأسئلة؟

العالم لا يمنح أحداً لحظات “بدل ضائع”! كما أنه لا يحب تلقي الأسئلة من أي شخص لأي سبب من الأسباب! العالم يهوى الإجابات فقط.

والحياة! أين الحياة؟ أنا أبحث عنها. العالم أعمى وأصم وبارد. إنه معقد ويجرح. أعرف أن الحياة كانت ستجيب: “ولم لا؟ لماذا لا يفتح هذا الشيء؟ ما هو ذلك الشيء الذي لا أتمكن من فتحه بنفسي؟ إنسان؟!”.

لقد مضى وقت طويل قبل أن قررتُ أخيراً أن أعطي صمتي مزيداً من الوقت. ظللتُ أكررُ تلك الكلمات العديدة كما لو كنتُ أقولها لذلك الشيء. بدا أن الشيء يفهمُ كل ما كان يجري.

فجأة، قرر الشيء أن يكون لطيفاً. تماماً مثل الأمهات عندما يقررن السماح لأطفالهن بالحصول على ما طلبوه بعد وقتٍ يكفيهن للتفكير بدرسٍ يمكنهن تلقينه لهم بسماحهن لهم الحصول على ما يريدونه. فتح الشيء أخيراً دون أن يلقى إجابة مني على سؤاله. 

حينها فقط تأكدت من أنه كان يعرف الإجابة منذ طرح السؤال. حينها فقط، ولسببٍ ما، أدركتُ أنه ما كان ينبغي لي أن أطلب منه ما طلبت. لكن قُضي الأمر وفَتَحَ على أي حال …

حينها، تمكنتُ من رؤية الألوان، رؤية أشياء ملونة على الجانب الآخر الذي كان ذلك الشيء يخفيه. تمكنتُ أيضاً أن أرى لأول مرة كيف كان لوني غير مسموعٍ مقارنةً بالألوانِ التي رأيتها. 

وكانت الحياة والعالم يتقاتلان فيما بينهما ويجرح كل منهما الآخر من خلال الحب والموت. هذان أمران جديدان لم أستطع فهمها، مثلما لم أفهم تماماً الأمرين القديمين اللذين أوجداهما: الحياة والعالم.

لم أعرف بالضبط لم أردت ذلك الشيء أن يفتح في أقرب وقت ممكن، لكن بالطبع، كنت أعرف بالضبط ما أحتاج القيام به عندما يفتح. كنت أرغبُ هواءً نقياً.

لا شك أنه لم يكن ينتظرني على الجانب الآخر. هذه ليست الطريقة التي تعمل وفقها الأشياء. لا يمكنك أن تطلب البحر إذا كنتَ تعيش داخل نفسك، قد تحصل فقط على لونه. ولونه يلفني بالكامل.

لكني، لا أرى أنني أعيشُ داخل نفسي، أنا أعيش داخل قصيدةٍ لا نهاية لها. أعرفُ ما قد يقوله العالم: “الجميع يقول ذلك”. لكن منذ متى يستمع العالم إلى أحد؟ هل يعلم شيئاً عما يجب أن يحصل بعد أن يستمع؟

أثقلتني رؤية الحب والموت يتقاتلان، كدتُ أطلب من الشيء أن يغلق.

لكن حينها فقط، جالت فكرة مجنونة في ذهني: أريد أن أهرب من الشيء وأن أترك كل الأصوات التي لستُ أدري من أين أتت. لكن ماذا سيكون أمامي؟ هل نهاية هذه الطريق بعيدة؟ ليس لدي شيءٌ أخسره إذا حاولت. في الواقع، سأحظى بأشياء كثيرة إذا نجحت.

تماماً قبل أن أحاول الإفلات من الشيء وأمضي إلى ما لا أعرفه، أغلقَ. بدأ كل شيء يُحاصرني بالبرد والظلام من جديد. أيقنتُ أن الشيء يعرف كل شيء عني. أيقنتُ أنه يعرفُ كل شيء عن كل شيء.

“لن أسمح لك بالإفلات بسهولة. لا تقلق! كل ما تحتاجه، أو حتى ترغب فيه، سيأتي إليك. فقط اطلب.” مجدداً، شخصٌ ما أو شيءٌ ما يقولُ شيئاً! قد يكون الشيء. قد يكون أنا. من يعلم؟ الله وحده يعلم، كما يقولون، أليس كذلك؟

يا إلهي، لديَّ أسئلةٌ كثيرة، أحدها كما تتوقع: “لماذا أنا بالذات؟”، لكني أعتقد أنه لو كان هذا أول سؤال أطرحه، سأكونُ أنانياً بعض الشيء. هناك الكثير من الأشخاص الآخرين الذين يستحقون إجابة عن نفس السؤال. أكثر مما أستحقها أنا. لطالما اعتقدت أنه ليس عدلاً أن أسألك إياه.

الناس من حولي يقولون أنني “رائعٌ حقاً” أو أن “ما فعلته رائعٌ حقاً!” لكن في أوقات كثيرة، لا أشعر بذلك قط. لا أفخر بنفسي وبأي شيء فعلته. أُذكِّر نفسي دائماً: ما جدوى أن أكون الأفضل في ظل مُنافَسة ضعيفة جداً؟ أريد فقط أن أكون أفضل مما كنته من قبل، وآمل أن يكون ذلك فقط ما يراه الناس. آمل ألا يكون تقديرهم لما أفعله نابعٌ من اعتقادهم أنني أحاول تعويض شيءٍ يجعلني أبدو مختلفًا من الخارج.

يا الله، لا أريد أن أكون نجماً! أريد أن أكون شجرة!

شجرة؟ أعرفُ شخصاً واحداً على الأقل سيُضحكه ذلك. يكفي شخصٌ واحدٌ لفتح جرح. يكفي شخصٌ واحدٌ ليملأ القلب بالدموع إذ يضحك.

كنتُ دائماً أريدُ أن أبكي قلبي. أعترفُ أيضاً أنني أردتُ دائماً أن يُعانقني أحد. لكن من سيعانقني؟ من غادرني أم ربما من غادرته أنا؟

أريد أحداً يُعانقني بقوة حتى يتصادم قلبانا، فتنهمر منهما الدموع.

“من غادرني أم ربما من غادرته أنا؟” لا أعرف ما إذا كانت هذه الكلمات تشير إلى شخصين مختلفين أم شخص واحد فقط. أنا حقا لا أعرف! أعرفُ شخصاً سيضحك على ذلك أيضاً. إنه أنا، سأضحك بكل تأكيد. 

ربما قال لي أحدهم ذات مرة: “لا يزالون يحبونك، لأنهم لا يعرفون كل شيء عنك حتى الآن.” وربما أوضح لي آخرٌ الجملةَ بشكلٍ أفضل: “إنهم يقولون فقط أنك شخص جيد، لكن ما يعنيه ذلك حقاً هو أنك جيد في إخفاء عيوبك.”

بدا أن الشيء يعرف ويفهمُ كل شيء أيضاً.

“لن تسمح لي بالإفلات (بسهولة)؟ متى ستسمح لي بالإفلات إذن؟” سألتُ الشيء.

أجابني: “أتمنى ألا تصل إلى تلك المرحلة أبداً”. وأضاف: “أنت مثل غرفة. عندما تكون غرفة، لا يمكنك أن تكون أكثر من ذلك. إلا أنه لا يمكنك فتح بابها قط لترحل. الوحيد الذي يمكنه فتحه هو واحدٌ لم تره من قبل. عندما يأتي لزيارتك زيارةً لا ثاني لها، عندها سيمكنك أن ترحل وستعرف معنى ذلك حقاً.”

قبل أن أضيف شيئاً، تابع: “الآن من فضلك، توقف عن طرح الأسئلة حول هذا الأمر. سيضحك الناس إذا سمعونا. من فضلك، استمر في النظر خلالي واستمتع بحياتك بالطريقة التي تراها مناسبة، سأكون هنا من أجلك.”

“انتظر، انتظر، سؤال أخير” قلت. “سينتهي هذا الذي أعيشه الآن، أليس كذلك؟” سألته، وبمجرد أن فعلت، حاصرني الندم. لم أكن أعرف الجواب. رغم ذلك، كنت أعرف كيف سيجيب الشيء.

“نعم، سينتهي” أجاب الشيء.

“لكنه سيعاود الرجوع، أليس كذلك؟” سألت، في محاولة يائسة لمهاجمة سَكينة الجواب. 

“صحيح. الأرض ليست مسطحة.” قال ضاحكاً.

 “ولا قلوبنا مسطحة كذلك”. قلت في نفسي.

انتهيت من الغرق في تفاصيل الأشياء. الآن، أستطيع أن أتنفس.

الكاتب: يحيى عاشور

هوامش

موضوعات

...للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع