أثناء سفره لتقديم فيلمه off frame، والذي كان نبش أرشيفي للحضور الثوري في السينما الفلسطينية، صادف المُخرج مُهنّد اليعقوبي شخصًا، ادّعى أن لديه مجموعة ضخمة من الأفلام المؤيدة للفلسطينيين. حينما نظر اليعقوبي إلى القائمة، وجد بها كُتلة أفلام مُجهّلة، وللمفارقة، كان هذا تحديدًا المادة المفقودة في مشروع فيلمه الجديد، استمر في البحث عنها عشرة سنوات.
يُحيل فيلم R 21 aka Restoring Solidarity المعروض حديثًا ضمن فعّاليات أيام القاهرة السينمائية، محدودية الأرشيف إلى مادة فنيّة حيوية وفاعلة في نقد السردية العالمية لفلسطين، وفترة نضالها المُسلّح بين الستينيات والثمانينيات. مشاهد مُجمّعة من أفلام تجريبية وتسجيلية ودعائية، حُفظت في غُرفة أستاذ ياباني على مدى عُقود، كانت هذه الأفلام في عُهدة مكتب طوكيو لمنظمة التحرير الفلسطينية.
يُفتتح الفيلم بمشهد مُظاهرات في شوارع طوكيو مُناهضة لاتفاقية اليابان وأمريكا 1960، وتطوّر الخطاب اليساري في اليابان، ليتم تضمين المسألة الفلسطينية ضمن نشاط الجيش الياباني الأحمر. في المشهد التالي، يظهرُ ياسر عرفات موضحًا طبيعة الترابط بين مُنظمة التحرير والجيش الأحمر، إذ لدى الإثنان نفس الرغبة في الحُريّة.
ينتمي الفيلم إلى ما يُسمّيها المُخرج الكوبي خوليو غارسيا “السينما غير الكاملة”. تتطلّب السينما غير الكاملة موقفًا من العالم فقط بدلًا عن بُعد الجودة التقنية والفنّية، لذلك يُمكن أن تُصوّر بكاميرا 8 مم، في الغابة، أو في الاستوديو، أو في موقع حرب. الموقف الأساسي الذي يُمكن أن تعمل عليه السينما غير الكاملة، هو أن يكون سؤل الفنّان قادرًا على تجاوز حاجز النُخبة، أو جدل الأوساط الثقافية، بحيث تكون المادة الفيلمية، مُفعمة بصدق وحدّة كافيان، لأن يكون الفيلم مادة جامعة للعادي والنُخبوي.
الأرشيف الكوني
يعود الأرشيف، من نفس النقطة التي يُمكن أن يعود لها بدء التاريخ، يظهرُ ذلك في الإرث المعرفي المُتمثّل في تفاصيل استحالت إلى “ذاكرة” حضارة بلاد الرافدين في حيّز مركزي من التاريخ، بنت حضارة بلاد الرافدين أول أرشيف معروف في التاريخ. كانت هُناك مكتبات لاحقًا، شهدها التاريخ، إلا أن المكتبة الوحيدة التي كُتب لها البقاء، كانت مكتبة بها تسجيل لتفصيلات اللحظة التاريخية.
لم يكُن بُعد النظر إلى المُستقبل، لبقاء الحضارة، هو مادة الأرشيف الآشوري، بل كان تسجيل العادي والوظيفي هو ما شكّل هذه المادة، بما في ذلك ثبت المُلوك القُدامى في البلاد. تدخُل الذاكرة ضمن العمل الأرشيفي، من خلال عملية الإحالة من الذهني، إلى المكتوب والموّثق، هُنا يُمكن ضبط الأفكار وتجميعها.
ضمن آليات السلب التي مارستها العولمة، خضع الأرشيف، وما يُمثّل من فرصٍ لخلق ذاكرة محليّة، إلى طابع الانتقاء السياسي وتدجين السرديات لمُوافقة الخطاب العالمي، حيث الثقافات المحليّة التي تنتمي إلى عوالم، مُستعمر ظاهريًا أو باطنيًا، لم يعُد لها مكان في تركيب عالم مُتجانس تحل فيه القيمة، والتصوّر، الغاية والرؤى والأهداف، محلّ التشتت والتمزق وتقاطع النسق الثقافي. نزعة التوافق الإجباري، ووحدة السردية، تحوّل العالم إلى مفهوم واحد بالضرورة، بينما الصورة الواقعية للعالم، هي أنّه تشكيل مُتنوع من القوى والانتماءات، الثقافات والتطلعات.
العولمة، من خلال التعميم الغربي المُمتد عالميًا، توقد شرارة من التفرّد الأعمى، لاستبعادها التشكيلات الثقافية الأصلية. في هذا السياق، تناول جاك دريدا الصُورة الحداثية للأرشيف، في صورة كونيه تُشير إلى “البدء”، حيث هناك صلة مربوطة بالأشياء، إما وفقًا للطبيعة أو للتاريخ، وبذلك فإن الأرشيف، هو إشارة لاستعادة الأصل.
عمل مُهند اليعقوبي على تقديم فيلم يستطيع أن يُشكّل نفسه، أو يُعطى فرصة كافية لتمثيلات الثقافة المحليّة الفلسطينية -والنضال المُسلّح جزء منها- كي تُعيد تجميع نفسها، حتى تخرج من إطار التعاطف المجّاني، رد الفعل الذي أصبح مُعتادًا تجاه المسألة الفلسطينية. في الفيلم، لا يوجد امتعاض من فُقدان الأرض، لأن مرارة الفقد حاضرة مُنذ زمن، والأفضل من استدعاء هذا الفقد في سياق يُمجّد الحدث في صورة الماضي، هو أن المادة الفيلمية قُدّمت بإشارات زمنية عابرة، بينما الأحداث، التي تم تجميعها من أفلام مُختلفة، تحتفظ ببراح التأويل، وبالزخم العاطفي لآليات شديدة العادية، يُمكنها تمثيل صورة لذاكرة مُجتمع ومدينة ونشاط يومي مُعاش، حتى وإن كانت المُقاومة هي قطب النشاط اليومي.
كان فعل تقدير الفضاء بين المادة الفلمية -وما تطويه من حفظ زمن فائت- وفاعلية استقلاليتها في البناء الفيلمي، حاضرًا عن عمد، في كيفية تعامُل مُهنّد اليعقوبي مع الفيلم، لأن الواحد وعشرون فيلمًا، بحكم اختلاف الأنواع الفيلمية، كانوا مادة مرجعية كافية لخلق بنية درامية، لكن يعقوب، وفريق العمل، فضلّوا أولًا الانطباع الشخصي تجاه المشاهد، لتكوين “حالة” وليس فقط صورة، بينما آلية العملِ هو “أن تُترك المادة لتُعبّر عن نفسها”.
في كتاب “الشكل الفيلمي”، يؤسّس آيزنشتاين للزمن السينمائي، باعتباره زمنًا مجازيًا، ونفي للنشاط الواقعي للزمن الحرفي. يعملُ فيلم R21، بدءًا من العُنوان، على تطويع الزمن المجازي، المُقطّع، كي يستعيد التضامُن، في صُورته السياسية والأخلاقية، ومن خلال أشياء تنتمي إلى العادي، ولا تتجاهل كارثية مذابح مثل صابرا وشاتيلا، تلّ الزعتر، إلا أن الفيلم يضعُ لجوانب الثقافة المحليّة، من أغنيات وبنية مجتمعية، نفس قدر الأهمية للمذابح ومقاتلي النضال المسلّح، ساكني الجنوب، يسنُد أحدهم على صخرة يخبره طول عمرها بضرورة التمسّك بالأرض.
عالمية الكارثة
لم أكُن أعرف أي شيء مُسبقًا عن الفيلم، حجزتُ تذكرة في السينما لأجل بيانات قليلة، تُفيد بأن الفيلم الذي سيُعرض هو فيلم فلسطيني، مُجمّع من عدّة أفلام قديمة تعود إلى تضامن الجيش الأحمر الياباني مع مُنظمة التحرير الفلسطينية. كان الفقر الذهني لديّ تجاه الفيلم، عاملٌ كافٍ للدهشة خلال المُشاهدة، لأن ما ظهر على الشاشة، كان مُحاولة لاختبار قُدرة الذاكرة الفلسطينية على تدجين صورة عن ذاتها، وبشكل مستقل، بعيدًا عن التدخّل الفنّي قدر الإمكان من قِبل صُنّاع العمل. الانطباع المبدئي الذي حضر، كان موضوعًا في العُنوان مُباشرة، وكان يُمكن مُلاحظته قبل فعل المشاهدة، وهو أن هذه البانوراما المشهدية، التي تُشكّل فيلمًا له بنية مُتفرّدة، تبحث عن تحقيق التضامن، بصورته السياسية المُرتبطة بالواقع المُعاش، وباعتبار أن التضامن، هو رد فعل كوني، بُعده الأخلاقي يدفع التعاطف ومجانيّاته بعيدًا. بعد المُشاهدة، ظلّ سؤال الدهشة حاضرًا، ليس لبُعد الجودة في الفيلم، ولكن لكوني عربيًا، في زمن به سيولة معرفية وسهولة الوصول إلى معلومة، ومع ذلك بدت المادة الفيلمية جديدة تمامًا.
في مُقدمة كتاب “أحلام وطن” يُشير إدوارد سعيد، إلى أن العلاقة بين المواد المرئية والفلسطينيين، هي علاقة تشملُ فعل المقاومة، إذ أن التاريخ النضالي الفلسطيني بأكمله، يقوم على الرغبة في أن يكون مرئيًا.
جاء الفقر في الانطباع الذهني تجاه براح المادة المرئية الفلسطينية المؤرشفة، من خلال نشاط وحدانية المفهوم الذي تفرضه العولمة، إذ أن “الآخر”، يمتلكُ قوّة تتجاوز سلب الأرض، وتتصاعد إلى إلغاء الحضور الفلسطيني في الصورة، سواء في إطار واقعي أو مجازي، ويُعيد سعيد نشوء هذا الخطاب من شعار الإحتلال “إننا شعب بلا أرض، نذهبُ إلى أرض بلا شعب”
لا يثبت فعلُ الأحقية في الاستيطان، من خلال السيادة المؤسسية والعسكرية فقط، بل في السيادة على ذاكرة الآخر، محوها، وإعادة تدجينها بسردية جديدة. يتجلّى هذا النشاط في العمل الصحفي، ففي 2003، نُشرت مقال في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، بعنوان “يُمكنك القيادة لمسافة طويلة دون أن ترى عربيًا واحدًا”، بينما يُكمل إدوارد سعيد على هذا العُنوان، موضحًا أن هذه شبكة طرق ممنوع من الفلسطينيين السفر خلالها.
لنتخيّل، أثناء قيادة أحدهم دون أن يرى عربيًا واحدًا، أن هذه الطرق، على امتداد الضفة الغربية، تحفل جوانبها بأسماء قُرى ومدن وأراضٍ تم مُصادرتها، من أجل بناء مُستوطنات جديدة، حتى أن الأسماء الأصلية لهذه الأماكن، بفعل الزمن، يُنسى أنها قد وُجدت من قبل.
يحضرُ الفيلم كمادة مُقاومة، فاعلة ونافذة، في إطار مُحاولة استعادة ما هو منسي، أو يوشك أن يُنسى وجوده الأصلي، هذا هو الهمّ الفنّي والسياسي في آن، ولذلك فإن الإيقاع الحركي رغم تعددية الحضور اللغوى وتنوّع الأسلوب البصري في الأفلام المُستقطعة، يظل قادرًا على الربط والتجميع، فالبنية التي تُحيل المشاهد من الإنفصال، إلى الوحدة السردية، هي بنية تستدعي الحقيقة، قبل أن تُكوّن مفهومًا فنيًا للفيلم، وبالتالي فإن البُعد السياسي في الفيلم، ليس معنيًا بسؤال السياسة الجدلي والنظري، بل هُناك مُحاولة لأن يتحوّل الأرشيف إلى مادة حية، تخلق من ذاتها فعل المقاومة، والأحقية في أن يستحيل فُتات الذاكرة إلى سردية، لها حق في أن تُرى، ومع هذه الرؤية، تشملُ المسحة السياسية عُنف جمالي، يقوم على استقطاب ما وراء المشهد العادي، البيت القديم، السوق ومرح الأطفال وصمود المُقاومة.
الترسّل: مُرواغة الوقوع في ورطة
إحالة من الأدب إلى السينما، انتقلت تقنية الحكي من خلال الترسّل epistolary mode، الذي عُرف في الأدب الأوربي ببنية التواصل خلال المُراسلة، إلى تقنية سينمائية تقوم على استخدام مُباشرة للرموز، العوامل السردية، باعتبارها وسائل تواصل لربط الناس عبر زمان ومكان مرحلة مُعيّنة. ينطوي أسلوب الترسّل على آلية موازاة صراع الظهور والبقاء، بينما الأسلوب الفيلمي، حتى في حالة الفيلم التسجيلي، ينتقل بروح زمن الحدث. مثلما تنطوي هذه الإشارة على إمكانية الاستعادة، مثل استعادة التضامن في الفيلم، فإنها لا تغفل حيّز الفقد والفراغ الزمني بين لحظة الحاضر واللحظة المُستدعاة، التي تنطوي على تصدير النفي، لكنّه نفي لا ينتهي عند ذاته، وإنما يتداعى، بفعل المقاومة من خلال المرئي، إلى إحلالًا مجازيًا للرغبة، في أن تكون مع الآخر، وأن تُعيد تخيّل مكان آخر، بزمان آخر.
لم يغِب هاجس المُفارقة الواقعية خلال مُشاهدتي للفيلم، فحتى الذاكرة التي لديها سُلطة قوية في الظهور، تظل ذاكرة حبيسة سياقات الخطاب العالمي والمناورات السياسية، تقفُ عند عتبة الحاضر دون دُخول، إلا أن الطريقة التي صُنع بها الفيلم، تُحيل إلى مناورة بالمثل، لا تتعلّق فقط بالمُنتج السينمائي، وإنما بعمومية تجربة الإبداع الفلسطيني، وبكونية البُعد العالمي للكارثة.
الجانب المُتعلّق بعمومية التجربة الإبداعية الفلسطينية، ينكشف من خلال تشابه أدوات مُناهضة الشتات، والذي هو حقيقة حاضرة، لكن يتم مُقاومتها من خلال الأحقية في تكوين ذاكرة محليّة على الهامش. حينما بدأ يعقوب فيلمه، فإنه بدء على عمله، على مُستوى إبداعي، مُنذ الفكرة الأولى التي افتتحت المشروع، تستحيل هنا رحلة البحث والجمع إلى عملية إنتاج الفيلم، لأن فعل التكوين، يبدأ مُبكرًا، بينما بلورته على الشاشة، هو مرحلة نهائية.
يُداخل مُهنّد بين أداتي النبش في أحراش الذاكرة، وبين البُعد العالمي لتدمير الذاكرة المحليّة، أو لكارثة الإعتداء بوجه عام. مُعظم الأفلام التي عُرضت مشاهدٌ منها ضمن فيلم واحد، صُحبت بفويس أوفر ياباني، مع وجود ترجمة إنجليزية، بينما الأفلام التي عُرضت بالعربية، ظلّت بترجمتها الإنجليزية واليابانية، في هذه الحالة، تأخذ أشكال الإعتداء مسارات مُتقاربة، تُشكّل صورة كونية للإمبريالية. دوي قنبلة هيروشيما وناكازجي، يُسمع صداه في نكسة 67، ويمتد إلى صبرا وشاتيلا، وتلّ الزعتر.
ظلّت فكرة المسحة العالمية للمسألة الفلسطينية حاضرة في ذهني، لأن ما رأيته معروضًا على الشاشة، أكثر انطواءًا على بُعد عالمي من محدودية المُسمّى المؤدلج دينيًا أو سياسيًا، إذ لا يختلف كثيرًا صمت مُهنّد الفنّي، وتدخّله في المادة الفيلمية، عن أيقونة ناجي العلي، حنظلة الذي وُلد مُديرًا ظهره للناس، ولم يلتفت إلى الآن، يقف صامتًا، يقول كلمة واحدة، تستحيل من صرخة كتيمة إلى الفضاء العالمي، نفس الفضاء شغله مُريد البرغوثي بسيرته الروائية “رأيتُ رام الله”، التي كوّنت صورة لها وجهان، أحدها للشتات، والآخر لمُحاولة جمعه مرة أخرى، بزيارة إلى الأرض.
رُبما استطاع إيليا سُليمان، عبر أسلحة الصمت والسخرية والذاكرة، أن يُحقق مُعادلة لجمع صورة كاملة للذاكرة، لكن من خلال اللحظة الراهنة، مُبطّنة بضرورة الإشتباك مع السياق السياسي، باعتباره واقع مُعاش. أدرك سُليمان، مُبكرًا، أن التفوّه في مُناخ يُجيد التصيّد والإدانة المؤسسية، يُشبه الوقوع في ورطة، ورطة فرد، أو جماعة، ذات ذاكرة مقموعة، تحتاج إلى مراوغات لإعادة إنتاجها على هامش السردية السائدة. بينما مُهنّد، في نفس السياق، ترك المادة على حالة تصويرها الأولى، لغات مُتعددة، أفلام بعيون ناس من الخارج، تشتبك مع نفس هموم صنّاع أفلام محليين في نفس السياق.
لم يخلُ الفيلم من حضور عاطفي كثيف، مثلما هو الحال -بالنسبة لي كمُشاهد- في أفلام إيليا سليمان، التي تستحيل سخريتها إلى جديّة مُفعمة بالمرارة، وهنا يحضرُ سؤال استدراكي، ما المُشكلة في التأثّر طالما هذا الشعور ينتقل من حيّز العاطفي المؤقت، إلى حيّز السياسي المرتبط بالواقع، بما هو مُعاش، ومعروف من خلال الفقد ؟
بالتأكيد، ليست هناك مُشكلة، لأن هذه مسألة لا تسقط بالتقادم.
“هذا المقال إهداء إلى الجُندي المصري محمد صلاح”