قد يكون عام 1948 هو الأسوأ في تاريخ الشعوب العربية، إنه عام النكبة الذي شُرّد فيه أهل فلسطين عن أراضيهم التي احتلها العدو الصهيوني وقرر إقامة دولته على أرضهم، وهي الطعنة التي شقت قلب كل عربي تاركة جرحاً غائراً لم يندمل. ولأن كل واحد منا مُقاتل بطريقته، فأهل الطرب أيضاً مقاتلون بحنجرتهم وموهبتهم وشعبيتهم كذلك، ولعل محمد عبد الوهاب أول من أشهر صوته في مواجهة العدو وقدم أول أغنية للدفاع عن القضية الفلسطينية بعنوان "فلسطين"، الأغنية من كلمات على محمود طه ومن ألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وفيها حث واضح على الجهاد ومواجهة المغتصب.
أخي جاوز الظالمون المدى... فحق الجهاد وحق الفدا.
أنتركهم يغصبون العروبة... مجد الأبوة والسؤددا؟
بعدها بعدة أعوام، رحل الملك فاروق تاركاً الحكم للضباط الأحرار، فقدم عبد الحليم حافظ أغنيته الشهيرة "ثورتنا العربية" من تأليف مأمون الشناوي وتلحين رؤوف ذهني، وفيها أشار إلى فلسطين قائلاً:
ضد الصهيونية... بالمرصاد واقفين
وهترجع عربية.. حبيبتنا فلسطين
وحاتفضل في الدنيا.. نور يهدي البشرية
وفي عام 1960 حدثت الوحدة بين مصر وسوريا، ووضع حجر الأساس للسد العالي، وبهذه المناسبة قدم كبار المطربين نشيد "وطني الأكبر"، وكانت الألحان لمحمد عبد الوهاب ومن تأليف أحمد شفيق كامل، وكان الغناء لعبد الوهاب وعبد الحليم وصباح ووردة وهدى سلطان ونجاة وشادية.. وفي المقطع الخاص بحليم يقول:
وطني يا ساكن قلبي وفكري.. عهدي وأصون
العهد بعمري.. أنا اللي هأرفع بإيدي رايتك
على القدس كله وعلى الجزاير..
حليم لم يتوقف عن الغناء لفلسطين بعد ذلك، ففي عام 1960 غني "ذكريات" وقد استرجع في هذه الأغنية ذكريات ما جرى في 48 على الآراضي الفلسطينية. حتى أنه في أغنية "مطالب شعب" لم ينسَ أن يتحدث بلسان الفلسطنيين مخاطباً جمال عبد الناصر.
باسم اللاجئ.. باسم حقوقه في فلسطين
باسم دمانا.. بالشهدا الفدائيين
عاوزين، عاوزين يا أمل الملايين
العودة لأراضينا
ولكن بدلاً من تحقيق العودة أصابت مصر نكسة وهزيمة مخزية على يد العدو الصهيوني، ورغم ذلك ظلت القضية الفلسطينية شغل حليم الشاغل، فقدم أشهر أغانيه "المسيح" من كلمات الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي وألحان بليغ، وقدمها في حفل بلندن لتكون بمثابة صرخة للعالم في وجه الظلم.
قبل النكسة بأيام معدودة، وعلى مسرح قصر النيل، قدمت أم كلثوم أغنية "راجعين بقوة السلاح" وهي من ألحان السنباطي، ومن أشعار صلاح جاهين، والأغنية موجهة للجيش، حيث غنت فيها
جيش العروبة يا بطل الله معك
ما أعظمك ما أروعك ما أشجعك
مأساة فلسطين تدفعك نحو الحدود
حول لها آلالام برود في مدفعك
في العام نفسه كتب الشاعر نزار قباني قصيدة "أصبح الآن عندي بندقية" وهي القصيدة التي تحولت إلى أغنية بعدها بعامين من غناء كوكب الشرق أم كلثوم وتلحين عبد الوهاب، ومن أجواء القصيدة..
عشرون عاماً وأنا أبحث عن أرضٍ وعن هوية.
عن وطني المحاط بالأسلاك
أبحث عن طفولتي
عن كتبي
عن صوري
عن كل ركن دافئ
وكل مزهرية
أما فريد الأطرش فقد كانت له أغنية بعنوان "وردة من دمنا" من كلمات الأخطل الصغير، وتلحين فريد يقول فيها:
وردة من دمنا في يده لو أتي النار بها حالت جنانا
يا جهاداً صفق المجد له لبس الغار عليه الأرجوانا
شرف باهت فلسطين به وبناء للمعالي لا يداني
إن جرحاً سال من جبهتها لتمته بخشوع شفتانا
مع رحيل جيل العمالقة، ظهر بأوائل الثمانينات المطرب "محمد منير" ليغير شكل الأغنية المصرية تماماً. منير يعتبر أكثر من غني للقضية الفلسطينية على الإطلاق، تقريباً لا يخلو ألبوم من ألبوماته وإلا كان به أكثر من أغنية لتلك البلد الحبيبة، وربما يعود له الفضل في تحويل الأغنية الوطنية أو التي تناقش قضايا عربية أو محلية إلى أغنية شعبية، يتغني بها جمهوره في الحفلات، ولك أن تتخيل ألاف الشباب بحفلة منير وهم يرددون باللهجة الفلسطينية أغنية مثل "العمارة" وهي من كلمات كريم العراقي وتلحين جعفر حسن.. قد يبدو الأمر وكأنه مظاهرة تنديد وهم يهتفون..
جيينا نصبحكم بالخير.. يا العمارة العمارة
جيينا نمسيكم بالخير.. يا العمارة العمارة
واحنا نغني في كل مكان.. أغاني الشعب الثوارة
وأصغر طفلة بفلسطين شالت بالكف حجارة
غايتنا نعمرلكو البيت.. يا العمارة العمارة
ولا أحد بالطبع يمكنه أن ينسي "شجر الليمون"، الأغنية التي عبّرت بصدق عن طول الأزمة ووجعها، وهي من تأليف الشاعر عبد الرحيم منصور والذي قدم له أيضاً أغنية "شمس المغيب" التي تدور حول نفس الموضوع -حب فلسطين- ومن تلحين أحمد منيب، وفيها يتساءل..
كام عام ومواسم عدوا
وشجر الليمون دبلان على أرضه؟
فإن نسي، أو تناسي الجميع القضية الفلسطينية فإن منير يرد عليهم في أغنية "القدس" قائلاً:
ينساني دراعي اليمين.. ينساني دراعي الشمال
لو نسيت القدس.. أدبل، أنتهي، أموت..
لم يكن للقضية الفلسطينية نصيباً كبيراً مع باقي جيل منير، فهاني شاكر وعمرو دياب ومحمد فؤاد لكل واحد منهم أغنية يتيمة، ثم مع مرور الزمن بدأت الأغاني لفلسطين تخفو شيئاً فشيئاً، حتى انفجر بركان الغضب مع الإنتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر 2000، عقب تدنيس أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي لساحة المسجد الأقصي، فكتب مدحت العدل أوبريت "الحلم العربي" وشارك في غنائه 22 مطرباً عربياً من مختلف البلدان ولحّنه صلاح الشرنوبي وحلمي بكر.
ولكن الحلم العربي تحول إلى كابوس اليوم، فلم تعد فلسطين وحدها المنكوبة، لقد أصابت النكبةُ الوطن العربي كله. فهل بإمكان الأغاني أن تساعد أوطاناً تُنهب أراضيها ويشرد أهلها؟