أوهام اليسار الممانع تجعله نتيجة "عمق الألم" الناتج عن السيطرة الإمبريالية الأميركية يقبل بدعم إمبريالية أخرى لعلها تزيح عن كاهله تلك السيطرة. لكن هذا يعبّر عن قصر نظر، لأن الآخر الروسي قادم لكي يفعل ما فعلته الإمبريالية الأميركية، فهو إمبريالية وليس "حليف الشعوب". إمبريالية تريد السيطرة والنهب والاستغلال.
كان لينين يحلل بنى الدول انطلاقاً من فهمه المادي، لهذا لم يُخطئ في تحليله لطبيعة الحرب التي نشبت سنة 1914، فقد أكد أنها حرب بين إمبرياليات، رغم معرفته بهيمنة إنجلترا وفرنسا واقتسامهما العالم، وميل ألمانيا لكي تحصل على حصتها بعد أن تطورت متأخرة عنهما. لم يعتبر موقف ألمانيا تمرداً على السيطرة الإنجليزية الفرنسية، ولا استقلالاً عنهما، بل أكد أن ألمانيا إمبريالية تسعى للحصول على حصتها في عالم تتقاسمه الرأسماليات الأقدم. رغم أنه كان يشير إلى ضيق مستعمراتها، وضعف صادراتها وتوظيفها المالي في الخارج.
اليوم يعود صراع الإمبرياليات، ورغم أن العالم لا يسير نحو حرب عالمية، فإن خلافات الأممية الثانية، والتي كانت سبباً في إفلاسها (وفق ما كتب لينين)، تعود من جديد. حيث باتت روسيا إمبريالية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث تحوّلت إلى الرأسمالية وسعت لأن تهيمن على العالم. ولقد ظهر هذا الأمر وكأنه ميل "استقلالي" عن السيطرة الأميركية. هذا ما فهمه اليسار الممانع، وتعلّق به، ليدخل في متاهة دعم إمبريالية ضد أخرى، رغم أن الصراع بين الإمبرياليات، وخصوصاً الأميركية والروسية، لا يصل إلى مرحلة الصدام العنيف، بل أن الميل العام لدى الطرفين هو التفاهم لأن كليهما يحسب حساب الصين، الإمبريالية التي تتغلغل في العالم بهدوء، وهيمنت اقتصادياً دون ضجة. أميركا تحتاج إلى روسيا لتطويق الصين، وروسيا تحتاج إلى أميركا "المتراجعة" و"المنسحبة" لكي تضمن سيطرتها هي بدل السيطرة الصينية.
لكن لا يرى اليسار الممانع سوى "الميل الاستقلالي" لروسيا، و"الدولة الوطنية" التي "تقاوم الهيمنة الأميركية". هكذا قيل في صفوف الأممية الثانية عن صراع ألمانيا وإنجلترا، هكذا بالضبط. وأشار البعض حينها إلى أن دعم ألمانيا يقود حتماً إلى إضعاف إنجلترا، الإمبريالية المسيطرة عالمياً حينها. لكن كان موقف لينين واضحاً: فهذه إمبرياليات تتصارع على تقاسم العالم، وبالتالي يجب أن نقف ضدها وضد حروبها. وأن نسعى لإشعال فتيل الثورة ضدها.
الأمر مختلف هنا، فاليسار الممانع مختلف، وهو لم يعرف لينين بل وصلته "الماركسية" في "رضّاعة" عن طريق الماركسية السوفيتية، حيث سمعها سماعاً في الغالب، أو قرأها من الكراريس التي كانت تصدرها تلك الماركسية منطلقة من أن في أهل الشرق "جهلة" لا بد من تجريعهم الماركسية "بشكل مبسط". هذا التبسيط كان قتلاً للماركسية. ماركسية مسطحة، شكلية مشوشة ومشوهة، حيث خضعت لتكتيك الاتحاد السوفيتي، أي باتت أيديولوجية دولة. لينين كان بالنسبة له بضع نصوص مقتطعة جرى توظيفها في بنية أيديولوجية تخدم مصالح دولة تريد اليسار أن يكون تابعاً لها، ومنفذاً لتكتيكاتها.
وبما أن "الماركسية الستالينية" هي استعادة لـ "ماركسية" بليخانوف وكاوتسكي والأممية الثانية، فقد تاهت كما تاه هؤلاء على أبواب الحرب الأولى. ويمكن أن يظهر ذلك واضحاً عند تذكّر شعار ماركسيي الأممية الثانية: الدفاع عن الوطن، الوطنية، حماية الوطن، كل هذه الكلمات هي التي ينحكم لها اليسار الممانع الآن. فـ "الدولة المستقلة" هو ملخص فهمه لوضع الدول، وهنا روسيا والصين، وكذلك دول الممانعة (سورية، إيران، فنزويلا، وغيرها). ما هو التكوين الطبقي لهذه "الدول الوطنية"؟ لا من إجابة، لأن الأمر يتعلق بالسيطرة الإمبريالية والتمرّد على هذه السيطرة. هذا هو القانون الذي يحكم العالم، لكن أين الطبقات والصراع الطبقي؟ ما طبيعة التكوين الاقتصادي؟ ليس من جواب، لأن الأمر يمسّ "المسألة الوطنية"، "الوطن". ولهذا فإن السيطرة أو الاستقلال هما الثنائية التي تعشش في ذهن يساري ممانع.
لكن كل تاريخ الرأسمالية كان يشهد ميل رأسمالية للتخلص من سيطرة أخرى، والحروب العالمية والإقليمية كانت نتيجة ذلك. وكان هدف كل منها الاستحواذ على الأسواق ونهب المواد الأولية، وحرمان الخصوم من هذه وتلك. نزعة "الاستقلال" متأصلة لدى الرأسمالية التي تشكلت على "بنية صناعية". بالضبط لأن الصناعة التي تعني الإنتاج السلعي تفرض البحث عن أسواق خارجية، وأن تراكم رأس المال الناتج عن ذلك يبحث كذلك عن أسواق خارجية. لهذا فهو يرفض هيمنة رأسمال آخر، على العكس يبحث هو عن الأسواق من أجل الهيمنة والسيطرة. هو "يستقل" عن الآخر المهيمن من أجل أن يستحوذ على الأسواق، وأن يهيمن هو. هذا هو قانون الرأسمالية ببساطة، والذي أسّس لنشوء الإمبريالية، وإلى الحروب بينها. حيث أن كل منها يريد أن يكون "مستقلاً"، وأن يسيطر على العالم. هذه بديهية في الرأسمالية شرحها ماركس باستفاضة في الرأسمال، والعديد من الدراسات الأخرى.
مع الأسف لم يُقرأ ماركس، وكذلك لينين، بل قُرئ تكتيك سياسي على أنه الماركسية، هذا هو تكتيك الدولة السوفيتية. لهذا ليس مستغرباً أن تكون النتيجة هي الانكفاء عن لينين وماركس وتكرار ما أتت به الأممية الثانية. فستالين هو إعادة إنتاج لهذه الأممية بمنهجيتها ومنظوراتها. وأفكاره كانت في صُلب الماركسية السوفيتية، التي جرى تعميمها على أنها الماركسية.
كيف يمكن أن نقف مع إمبريالية تسعى للهيمنة بكل وحشية ضد أخرى؟ أميركا إمبريالية ولا بدّ من الوقوف ضدها، لكن اختلافها مع روسيا لا يعني أن هذه "دولة مستقلة"، و"وطنية"، وأنها تحارب الهيمنة الإمبريالية. هي تحاربها ربما، لكن لأي سبب؟ هل لمصلحة الشعوب؟ أو لمصالحها هي؟ بالتالي سيكون السؤال هو: كيف لرأسمالية أن تدعم مصالح الشعوب؟ نفهم أن الدولة الاشتراكية تدعم مصالح الشعوب بغض النظر عن كل الملاحظات التي يمكن أن تُساق فيما يتعلق بالاتحاد السوفيتي الذي دعم الشعوب. لكن هل نستطيع أن نفهم لماذا تدعم رأسمالية الشعوب؟ ضد الإمبريالية مثلاً؟ وماذا ستفعل حين تهزمها؟ هل ستسمح بتحرر الشعوب، أو تفرض هيمنتها، وتمارس نهبها؟
ما تقوله الماركسية هو أن الرأسمالية تنطلق من مصالحها، ومصالحها تتمثل في التوسع والنهب والهيمنة. هل روسيا خارج كل تصنيف للرأسمالية؟ الرأسمالية رأسمالية، لا يمكنها أن تستمر دون أن توسع سوقها، وتراكم الثروة، وبالتالي تستغلّ وتنهب. هذا ببساطة ما تقوله الماركسية، ماركسية ماركس ولينين وليس التخبيص السوفيتي. حتى وإن لم تكن روسيا إمبريالية فهي رأسمالية، وكما تقول الماركسية فإن كل رأسمالية تتطور إلى الطور الإمبريالي، ليس من الممكن أن تبقى الرأسمالية في وضع "وسط"، فإما تتحوّل إلى إمبريالية أو تنهار إلى رأسمالية تابعة. وروسيا بقدراتها العسكرية وتطورها العسكري، وتطورها الصناعي، رغم ضعفها الاقتصادي، تجاهد لأن تفرض سطوتها العالمية لا أن تنهار إلى دولة طرفية. هذا هو الفارق بين يلتسين الذي سمح بانهيار روسيا إلى الحضيض، وبوتين الذي أراد أن تعود روسيا قوة عُظمى. قوة عظمى رأسمالية يعني إمبريالية.
بالتالي، لماذا يقف اليسار الممانع مع إمبريالية ضد أخرى؟
بالضبط لأنه شيطن الإمبريالية الأميركية، فباتت الشرّ المطلق، متجاهلاً أن هذا "الشرّ" هو نتيجة طابعها الرأسمالي بالتحديد، وليس لأنها شيء آخر متأصل فيها. والإطلاقية هنا تعني أن كل مختلف معها هو خير، هكذا هو العقل الشكلي الذي ينحكم للمنطق الصوري. وهذه سمة كل اليسار العالمي. بالتالي فهو لم يعرف الماركسية، سوى أنه كرّر بعض المصطلحات والجمل والمفهومات. أي أنه غطى منطقه الصوري بمصطلحات ومفهومات استجلبها من الماركسية، وهذا لا يغيّر شيئاً في أنه لا زال ينحكم للمنطق الصوري ما قبل ماركسي.
الصراع العالمي هو بين إمبرياليات، بغض النظر عن كل الهذر الذي يتلفظ به اليسار الممانع، فروسيا تريد الهيمنة لكي يتطور اقتصادها وتهيمن رأسماليتها، لكنها تصطدم بهيمنة أميركا ورأسمالييها، في وضع عالمي هيمنت عليه الإمبرياليات القديمة (خصوصاً أميركا) منذ نهاية الحرب الثانية. وهذه الهيمنة لتلك الإمبرياليات هي التي تدفعها لـ "الصدام" معهم، والضغط من أجل الحصول على حصة في السوق العالمي. هنا لا يتعلق الأمر بـ "الاستقلالية" بل بالتنافس، والصراع من أجل كسب قطعة أكبر من "الكعكة العالمية". هذا هو جوهر الصراع العالمي، أو التنافس العالمي، وهو التنافس الذي سيقود إلى إعادة تشكيل التحالفات، وترتيب الهيمنة على مستوى العالم.
هل نقف مع طرف ضد آخر؟ هل نكاية بأميركا التي نهبتنا واستغلتنا، وهتكت استقلالنا، وفرضت سيطرتها علينا، سنقف مع إمبريالية أخرى، ناهضة، تريد فعل كل ذلك بنا؟ لكن متوهمين أنها لن تفعله بنا؟
أوهام اليسار الممانع تجعله نتيجة "عمق الألم" الناتج عن السيطرة الإمبريالية الأميركية يقبل بدعم إمبريالية أخرى لعلها تزيح عن كاهله تلك السيطرة. لكن هذا يعبّر عن قصر نظر، لأن الآخر الروسي قادم لكي يفعل ما فعلته الإمبريالية الأميركية، فهو إمبريالية وليس "حليف الشعوب". إمبريالية تريد السيطرة والنهب والاستغلال.
حين تنتفي القدرة على التحليل وفق المنهجية الماركسية يحدث كل ما هو غريب ومستهجن. والماركسية ليست في وارد هذا اليسار، بالضبط لأنه لم يعرفها أصلاً، واكتفى ببضع شعارات ومصطلحات.