الخلاف الجوهري هنا هو حقوق الشعب الفلسطيني التي نُهبت والتي من حقه استرجاعها، بما في ذلك عودة اللاجئين. هذا ما يخلق إشكاليات لا بد للدولة الجديدة أن تحلها انطلاقاً من هذا الأساس، ودون التسبب بمشكلات جديدة. أما أن تصبح المسألة متعلقة بطرد "اليهود" فهذا ما يعزز بقاء الدولة الصهيونية، ويزيد من تطرفها، كأي موقف طائفي ضد طائفة معينة.
يواجه طرح الدولة العلمانية الديمقراطية الواحدة في فلسطين بالرفض، وحتى التهجّم، من قبل العديد ممن يعتقد أنه الوصي على القضية الفلسطينية. ولقد واجه نشر وثيقة الحركة الشعبية من أجل فلسطين دولة علمانية ديمقراطية واحدة هجوماً من بعض ممن يضع ذاته في صفّ النضال من أجل تحرير فلسطين. والواضح في الوثيقة أنها تطرح إنهاء الدولة الصهيونية، أي بمعنى ما تحرير فلسطين، لأن هدف تحرير فلسطين هو إنهاء الدولة الصهيونية، ولأن إنهاء الدولة الصهيونية يعني تحرير فلسطين.
بالتالي ما هو منطلق هؤلاء الذين يتوترون، أو حتى يتشنجون، إلى هذا الحدّ وهم يسمعون فكرة الدولة العلمانية الواحدة؟ هل أنهم ينطلقون من تحرير فلسطين، وبالكفاح المسلح؟ أو أنهم ينطلقون من التمسك بحلّ الدولتين؟ الأمر هنا مختلط، حيث أن الذي يطالبون بتحرير فلسطين يتبنون حل الدولتين، ليبدو أن تحرير فلسطين هو شعار يغطي القبول بالاستسلام، أي بحل الدولتين الذي هو وهم مستحكم.
بالتالي، في الغالب لا يبدو المنطلق الذي يؤسس هؤلاء تصورهم عليه واضحاً، حيث أن كل ما يركزون عليه هو رفض فكرة الدولة الواحدة، ويدخلون في ديالوغ شتائم ضد الذين يطرحون حل الدولة الواحدة. هناك من طرح حلاً أكثر سخفاً من حل الدولتين، حيث فكك القضية الفلسطينية إلى قضايا تتخذ طابعاً حقوقياً مؤسّساً على الشرعية الدولية. لكن في المجمل ما يجري بعد نشر وثيقة الحركة الشعبية هو أن هناك من يعلن رفضه بأقصى مستوى من الشتائم، ويبدو أنه لا يجرؤ على طرح رؤيته. ما يمكن فهمه من كل ذلك هو أن هناك ثلاثة أطراف قررت التصدي لمشروع الدولة الواحدة العلمانية الديمقراطية، التي تقوم على أنقاض الدولة الصهيونية. رغم أن هناك شيزوفرينا تحكم العديد ممن يتصدى، حيث يرد من منظور وهو في الواقع يتبنى منظوراً معاكساً، حيث أن الرد يأتي من كادرات في فصائل فلسطينية تتبنى حل الدولتين وتدافع عنه، ويأتي الرد متوتراً لا يجرؤ على طرح المعاكس لذلك، لكنه يشتم انطلاقاً منه، أي أن الرد يأتي من التمسك بـ "تحرير فلسطين"، وبـ "الكفاح المسلح"، وبرفض وجود اليهود بعد التحرير، لكنه رد به غمغمة، ويختفي تحت سيل من الشتائم مع التبني الواقعي لحل الدولتين. وهو ضد "اليهود المستوطنين"، ومع تشريدهم، لكنه يقبل دولة على 20% من فلسطين. وهو يريد "تحرير فلسطين" وهو يفقد كل مكامن القوة، ليتحوّل العمل المسلح إلى عمل فردي، ومحدود. أو يأتي الرد من أفراد هامشيين لا يستطيعون سوى "التميّز" بإعلاء الصوت، ورفض كل ما يطرح، في منظومة متكاملة من الشتائم والتخوين والتجريح، هي كل ثقافتهم.
كيف نفسّر هذا الفصام؟ الجبن، أو الخشية من تجاوز سياسة الفصيل الذي ينتمي إليه؟ أو حتى تشوش الأفكار، ومتاهة التخيلات التي يؤسس لخليط من الأفكار المتناقضة المبنية على رفض شكل معيّن من البديل المطروح لوضع فلسطين؟
كيف يمكن النبش في خلفيات هذه المواقف من أجل فهم هذا التشنج الذي يبدونه تجاه الدولة الواحدة؟ فلا شك في أن وعياً عاماً قد تشكّل لدى الفصائل الفلسطينية، وخصوصاً لدى كادراتها، ومن أتى منهم من الخارج في ظل اتفاق أوسلو، يتمسك بـ "السلطة الفلسطينية" كـ "أساس" للدولة المستقلة وعاصمتها القدس. لقد نشأت مصالح تربط بهذه السلطة، وبات تجاوز خطابها يعني الخسران، لهذا يجري رفض كل بديل عنها. إن حساسية التعبير عن التمسك بهذه السلطة تفرض المراوغة، لهذا يجري رفض كل بديل لها. هنا سيكون خطاب المواجهة متشنجاً بالضرورة، لأن السير وراء البديل يعني فقدان مصالح. هذا أساس مصلحي يقبع في قاع الهجوم، إن الوعي العام لدى الفصائل تمحور منذ عقود أربعة حول حل الدولتين، وعلى ضوء ذلك نشأت مصالح للفصائل ولأفرادها، لهذا يصبح التمسك بالسلطة ضرورة. ولأن السلطة "مرذولة" فيجري التعبير عن ذلك من خلال الرفض المتشنج لكل بديل يُطرح، ويقوم على إنهائها. هذا رافد من روافد الهجوم على الدولة الواحدة، وهو رافد يرتبط بمصالح، ويتكيف مع "وعي" نشأ منذ بدء طرح السلطة على أي أرض "يتم تحريرها"، ومع تبلور "المشروع الوطني" القائم على دولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وصولاً إلى أوسلو. وبهذا بات "النضال" من أجل "الدولة المستقلة" هو الذي يحكم هذا الوعي. ومن ثم شكّل نشوء السلطة مصلحة واقعية تدعم هذا الوعي. لهذا، ورغم وضوح فشل حل الدولتين، وظهور نهايته المحتومة، ظل هؤلاء يتمسكون به ما دام هناك مصالح يقدمها. إن قيادات وكادرات حركة فتح تتمسك بهذا الحل لأنها تستحوذ على السلطة والمصالح، لكن ذلك يشمل مجمل الفصائل الفلسطينية التي لا زالت تتمسك بهذا الحل رغم خلاف بعضها مع السلطة.
إذن، يواجه هذا التيار مشروع الدولة العلمانية الديمقراطية الواحدة في فلسطين، من منظور التسمك بحل الدولتين. سواء أعلن ذلك، أو أخفى ما يضمر، أو ما يسكن في اللاوعي، فهو ينطلق من مصالحه وليس من أي منظور وطني. وهو يرفض أي حديث عن فشل حل الدولتين، ويستمرّ في "التفاوض" من أجل فرض وجود "دولة فلسطين". وكل الآخرين الذين يرفضون الدولة الواحدة يغضون النظر عن كل ذلك.
في المقابل، هناك من يرفض حل الدولة العلمانية الديمقراطية من منطلق الرؤية التي قامت على مبدأ "تحرير فلسطين"، والتي ارتبطت بـ "تحريرها" من اليهود، الذين قدموا كمستوطنين. إنه يعود إلى منطق أحمد سعيد، والميل القومي المتطرف، الذي لم يفعل سوى جرفنا من هزيمة إلى أخرى. هذا التيار يرفض ما نقول حول المستوطنين، وحل "المسألة اليهودية" في فلسطين، ويخوّن على أساس أن ذلك يعني التنازل عن فلسطين لـ "اليهود"، أو لـ "المستوطنين". حيث يعتبر أن علينا أن نفرض ترحيل هؤلاء، و"تطهير" فلسطين منهم، وأي حلّ غير ذلك يعني الاستسلام للمشروع الصهيوني. هنا يمكن أن نقول بأننا إزاء استعادة لأفكار "شوفينية" كانت تتخلل الحركة القومية تجاه اليهود المستوطنين. عودة إلى ماضٍ جرى تجاوزه، بالضبط نتيجة فهم أن هذا الطرح لا يقود إلى تحرير فلسطين بل إلى إفشال ذلك. لا شك في أن التطرف "اليميني" المتعصب الصهيوني يُنتج تطرفاً معاكساً، ولهذا تصبح العودة إلى "طرد اليهود" سياسة معاكسة لسياسة "يهودية الدولة". لكن عادة يكون الرد المعاكس هو تمتين للأصل وليس شطباً له.
هذا مكنون فئات، رغم أنها في الواقع تقبل حل الدولتين كما أشرت، لهذا ترفض الدولة الواحدة من منظور أنها تقبل بقاء "اليهود" متجاهلة للوقائع ولما هو إنساني، وحتى لكل منظور براغماتي. فالذي يريد أن ينتصر يجب أن ينطلق من الواقع لكي لا يخسر حلمه، والواقع يشير إلى وجود أجيال من "اليهود" استوطنوا فلسطين، وكثير منهم ولد فيها، وبالتالي باتوا جزءاً من الوجود المادي لتكوينها، وجزءاً من الصراع الدائر فيها، والذي يهدف إلى إنهاء الدولة الصهيونية. وكعادة العقل السائد، بدل تفكيك بنى العدو، ووضع منظورات تؤدي إلى ذلك، يجري الشغل على توحيدها، وإعطاء كل مبررات الميل نحو اليمين المتطرف، ودفع قطاعات شعبية في هذا المسار. وبالتالي بدل أن يتحقق الانتصار تحدث الهزيمة، فليس من إمكانية لانتصار على عدو موحّد. هذا الفهم ينطلق مما هو غريزي وليس مما هو عقلاني. وفي الغريزة لا تُرى الفروقات والاختلافات وإمكانات التفكيك والتفكك، وطبعاً تضيع القيم كلها، الطبقية والإنسانية وغيرها.
الخلاف الجوهري هنا هو حقوق الشعب الفلسطيني التي نُهبت والتي من حقه استرجاعها، بما في ذلك عودة اللاجئين. هذا ما يخلق إشكاليات لا بد للدولة الجديدة أن تحلها انطلاقاً من هذا الأساس، ودون التسبب بمشكلات جديدة. أما أن تصبح المسألة متعلقة بطرد "اليهود" فهذا ما يعزز بقاء الدولة الصهيونية، ويزيد من تطرفها، كأي موقف طائفي ضد طائفة معينة.
المشكلة في هذا الطرح تتمثل، أولاً، في أنه تغطية على موقف استسلامي يقبل بجزء ضئيل من فلسطين، وثانياً لأنه يضخّم الأمر بما لا يجعل أي إمكانية للوصل إلى حل حقيقي، ويطيل أمد الصراع بلا جدوى. ثم، إذا تجاوزنا كل ذلك، لا يطرح الرؤية التي تحقق هذا الحل، بل لا يكون سوى المضاد لحل الدولة العلمانية الديمقراطية الواحدة، أي "مناكفة" مع هذا الحل ليس أكثر.
انتهى حل "طرد اليهود" منذ زمن طويل، كما انتهى حل الدولتين، ولا بدّ من أن ننطلق من الواقع والوقائع دون القفز عن الحقوق، وأن نؤسس الصراع على ضوء الحقائق الجديدة وليس على أوهام لا قيمة لها. إنهاء المشروع الصهيوني مسألة حتمية، لأن الصراع حدّي وجذري، لكن ذلك لا يعني إعادة فلسطين كما كانت قبل الاستيطان اليهودي، حيث لا بدّ من الانطلاق من هذه الحقيقة دون التخلي عن حقوق الشعب الفلسطيني العامة والخاصة. وفي حدود ذلك يجري البحث عن تحقيق العدالة لسكان فلسطين عموماً.