الفكرة العامة التي يجري تداولها هي أن يكون هدف الدولة الواحدة في فلسطين دون تحديدات أخرى، حيث أن هذا الهدف يجمع تيارات مختلفة، وهذا أمر ضروري لتشكيل “تيار واسع” يمكنه تحقيقه. وهنا يُشار إلى تيارات قومية وإسلامية في الجانب الفلسطيني، وربما لا يشار إلا بشكل هامشي لتيارات في الوسط “اليهودي”. هذا الأمر يطرح أسئلة عدة تحتاج إلى إجابة واضحة، وبالتالي لا بدّ من تفكيكه لكي يتوضّح الأمر. فهو هدف عمومي، يقوم على الوحدانية فقط، أي دولة واحدة في فلسطين، دون لمس لطابعها الطبقي، أو شكلها السياسي، وحتى دون تحديد هويتها.
أي دولة واحدة؟
السؤال الأول هو: أي دولة واحدة، فلسطين أم إسرائيل، أو فلسطين/ إسرائيل، أو أي تسمية أخرى؟
إن الفكرة التي قامت عليها الدولة الصهيونية تتمثل في أن في فلسطين دولة واحدة هي إسرائيل، وليس هناك من دولة أخرى. وهذا ما تسعى الآن من أجل تحقيقه من خلال ضم القدس وجزء كبير من الضفة الغربية. هذه “دولة واحدة”، هناك من يقبل بأن تكون أساس الحل من منطلق أن الوضع الديموغرافي سوف يفرض تغييرها نحو دولة فلسطينية، وهذا وهم بالطبع، لأن الدولة الصهيونية تعمل بوضوح لإخراج فلسطيني الضفة الغربية وقطاع غزة من الضم، وبالتالي ستضم الأرض دون السكان الذين يجري تحديد حلّ خاص لهم خارج البنية السياسية للدولة الصهيونية.
وهناك من يركّز، ليس على “اسم الدولة” بل على شكلها، أي يركز على أن تكون دولة ديمقراطية لكل مواطنيها، أو دولة ثنائية القومية، لكنها “دولة إسرائيل”. باعتبار أن الاسم ليس هو المشكلة بل أن المشكلة تكمن في تكوين الدولة الصهيونية القائم على التمييز العنصري، ولهذا يكون الهدف هو “النضال” من أجل إزالة هذا التمييز وتحويلها إلى دولة ديمقراطية. في هذه الصيغة يجري القفز عن كل المشكلة التي أدت إلى تدمير شعب واحتلال بلده وتشريد جزء كبير من سكانه، وكذلك مشكلة وضع الدولة الصهيونية ودورها الإقليمي في خدمة الإمبريالية. وأيضاً يجري تجاهل أن هذا الحلّ يفضي حتماً إلى وضع الفلسطينيين في وضع أدنى في تكوين الدولة والمجتمع، حيث تسيطر النخبة الصهيونية، ويتحكم الرأسمال الصهيوني. مع ملاحظة أن الصراع في جوهره هو صراع عربي صهيوني نتيجة كون الدولة الصهيونية مرتكز السيطرة الإمبريالية، وبالتالي ليست فلسطين معزولة عن محيطها، ولا يتعلق الأمر بوضع مشابه لجنوب أفريقيا، التي أدى الحلّ فيها إلى استمرار هيمنة الرأسمال “الأبيض” على الاقتصاد، وبقاء التمييز قائماً.
إذن، هل أن الدولة هي فلسطين؟ مما هو مطروح يظهر أن هناك، من الفلسطينيين، من لا يتمسك بهذه المسألة، ولا يتوقف عند “الاسم”، ويميل إلى اعتبار أن الدولة لا بدّ أن تكون دولة ثنائية القومية وليست دولة واحدة لكل مواطنيها. وهناك من “اليهود” من يطرح ذلك كذلك. وهنا يمكن أن يبقى الإسم هو إسرائيل، أو فلسطين/ إسرائيل، لكن ليس فلسطين. وربما يجري البحث عن إسم جديد. هنا أيضاً يجري تجاهل تاريخية الصراع وطبيعته، بل يُنظر إلى الأمر من منطلق أن هناك مشكلة في تكوين هذه الدولة لا بدّ من حله، وبالتالي يغيب أمر أن المشكلة تكمن في تكوين هذه الدولة ذاتها.
طبعاً هناك من يصرّ على أن الدولة الجديدة هي دولة فلسطينية، أو جزء من دولة عربية موحدة. وهذا رأي شائع لدى الفلسطينيين، بالتأكيد ليس بالمستوى المقبول لدى “اليهود”. وهناك من الفلسطينيين من يريد التكيف مع “الوضع الجديد” بحيث يقبل التنازل عنه.
هذه التناقضات في تحديد “إسم” الدولة تحكم التيارات التي يمكن أن تنشط تحت مسمى “الدولة الواحدة”، فهل يمكن التوفيق بينها؟ أظن أن التوفيق مستحيل، لأن الأمر يتجاهل طبيعة الصراع، وينطلق من أمر واقع مفروض بالقوة.
أي دولة واحدة أيضاً؟
كذلك تُطرح مسائل أخرى، وتُفرض أسئلة جديدة، فالدولة الواحدة بلا تحديد لطبيعتها السياسية، هل هي دولة ديمقراطية، أو هي دولة علمانية ديمقراطية، أو أن الأمر متروك لوقت لاحق، حيث يفرض التيار الأقوى منظوره؟
إن ما يمكن أن يظهر أنه يجمع تيارات مختلفة حول هدف الدولة الواحدة سوف يبدو في الواقع مجال اختلاف واسع لطبيعة الدولة الممكنة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار مواقف وسياسات هذه التيارات سوف نلمس التناقض بشكل واضح، حيث أن الأمر هنا لا يتعلق باختلافات بل بتناقض حدّي. الكل يريد الدولة الواحدة، من الإسرائيليين إلى الفلسطينيين، وكما أشرت قبلاً يُطرح السؤال هل هي دولة عربية أو دولة يهودية، أو هي إسرائيل؟ لكن الأمر يتعدى هنا ذلك إلى البحث في طبيعتها، أي هل أنها دولة علمانية أو ديمقراطية أو إسلامية، أو يهودية. هذه خلافات كبيرة بين التيارات التي يمكن أن تتوافق على مبدأ الدولة الواحدة. هل يمكن أن تتوحد في إطار حركة أو حراك أو حتى حملة؟
إن إشكالية ذلك هو أن التوافق على الدولة الواحدة لا يفضي إلى توافق على طبيعتها، وبهذا يؤسس لتوجسات ورفض لا يسمح بأن تكون هناك إمكانية لتقبّل شعبي في مستويات عدة. حيث ليس مقبولاً أن يكون بديل “الدولة اليهودية” دولة “إسلامية”، وبهذا فيجب أن يكون واضحاً أن الدولة الواحدة هي ليست إسلامية. وهل يكفي الإشارة إلى أنها دولة ديمقراطية دون أن يتحدد أنها علمانية؟ إن رفض طابعها الديني، اليهودي أو الإسلامي، يفرض أن يكون التحديد العلماني واضحاً، حيث يجب تحييد الدين، وفصله عن الدولة. بهذا ستكون العلمنة مسألة مركزية هنا، رغم أن الديمقراطية لا تتحقق دون العلمنة، فهي أساس النظر إلى الأفراد كمواطنين في مقابل الدولة، وهؤلاء المواطنون هم الشعب الذي يجب أن يكون هو المشرّع لدستور الدولة ومقرر إرادتها.
إن التعميم هنا، بحيث يصبح “الهدف” هو الدولة الواحدة، بغض النظر هل هي عربية أو يهودية، فلسطينية أو إسرائيلية، أو حتى شكل من أشكال الدمج بينهما، وبغض النظر عن طبيعتها، هل هي إسلامية أو يهودية، إسلامية أو ديمقراطية. إن هذه التعميم يفرض بالحتم تناقضات لا تؤسس لبنية متسقة، حيث سيطرح كل تيار رؤيته، وهي رؤى متناقضة، سواء تعلق الأمر بالأساس “القومي”، أو بالأساس الديني، أو بالميل لتأكيد ديمقراطية “مخصية” عبر نزعها من أساسها (العلمانية). ومن ثم ستؤدي إلى تفكك حتمي. إن هذا التحديد لا يؤدي إلى تأسيس إطار “وطني” عام، ما دام هناك تيارات تطرح الوطنية في سياقات متناقضة، أو تلغي الوطنية لمصلحة ما هو ديني. وبهذا لن تتشكّل وطنية تجبّ الأيديولوجيات، رغم أنه ليس من وطنية تجبّ الأيديولوجيات.
بهذا فإن الانطلاق من الهدف العام الذي هو: الدولة الواحدة، يتضمن تناقضات تفكك كل تكوين يقوم على أساسه، وفي الواقع لا تسمح بانخراط فئات مجتمعية فيه، سوى المنتمين للتيارات التي تشكّل الإطار الذي يقوم على هذا الأساس. وهنا سيهيمن التيار الأقوى، الذي هو الآن التيار الأصولي الإسلامي، بالضبط لأنه لا يستطيع إخفاء أيديولوجيته، ولا دعوته الإسلامية، بينما يخفف الديمقراطيون من ديمقراطيتهم، ويتجاهلون أساسها الذي هو العلمانية. بالتالي لا يصبح ممكناً تأسيس تكوين مجتمعي داعم للدولة الواحدة، بل تبقى فكرة تطرحها تيارات سياسية. حيث أن هذا الطرح لا يشكّل رؤية أو بديلاً بل هو هدف سياسي يمكن أن تتوافق عليه تيارات سياسية، بينما يجب أن يتحدّد الآن ليس واحدية الدولة، فهذه محسومة منذ أن طُرح شعار تحرير فلسطين، بل أن المطلوب هو حلّ يسمح بقبول كتلة كبيرة من السكان الأصليين والمستوطنين الجدد، وهنا لا بدّ من تحديد طبيعة البديل، طبيعته التي يمكن أن تؤسس لأغلبية تستطيع التأثير في فرضه. أما حين يجري البحث في التوافق مع تيارات سياسية فيمكن تحديد نقطة اتفاق بينها لكن ليس كرؤية بل كهدف عملي، وهذا أمر يتعلق بالتكتيك وليس ببلورة برنامج وحركة أو حملة أو مبادرة. فكل ذلك يُطرح لقطاع شعبي عريض وليس لتيارات، هذا التمييز ضروري لأنّ تجاوزه يفرض الخضوع لـ “الصوت الأعلى”، ويفرض بديله وليس ما يبدو أنه توافق.
الفكرة الجوهرية هنا هي أنه بدون وضوح في طرح الدولة الواحدة لن يكون ممكناً أن يتشكّل تيار يدعمها، والوضوح لا يتحقق حول هدف عام بل يجب أن يتحدد البديل المطروح لتجاوز وجود الدولة الصهيونية، والذي يمكن أن يستقطب تكوينات مجتمعية. لهذا إن واحدية الدولة في ظل الوضع القائم تفرض أن يكون واضحاً أنها محيده تجاه الدين، خصوصاً أن الدولة القائمة هي “دولة اليهود”، وأن هناك تياراً “إسلامياً” تقوّى في العقود الماضية يريدها “دولة إسلامية“، رغم أن العلمنة ضرورة حتمية في كل مشروع يهدف إلى التطور والحداثة. وأن تكون ديمقراطية بالتأكيد، مع ملاحظة أنه لا دولة ديمقراطية لا تقوم على أساس علماني. ويبقى وضع الحقوق التي يجب أن تعود لأهل فلسطين الأصليين، دون أن يعني ذلك خلق إضطهاد جديد. بالتالي فإذا كانت الدولة هي فلسطين خلال الاحتلال الإنجليزي وحوّلها هذا الاحتلال إلى دولة إسرائيل، فإنه يجب أن يكون واضحاً أنها ستعود فلسطين، لكن متضمنة كل من يريد البقاء من المستوطنين الجدد، في ظل طبيعتها المشار إليها للتو، أي أن تكون دولة علمانية ديمقراطية.
تبقى مسائل أخرى عديدة تخص ذلك، منها طبيعة الاقتصاد، وكيف يمكن إنهاء الارتباط بالنمط الرأسمالي، الذي أوجد الدولة الصهيونية، وبالتالي ما هو دور الدولة الجديدة في بناء الاقتصاد في مصلحة الطبقات الشعبية. كل ذلك يحتاج إلى منظور طبقي سياسي أوسع من التركيز على الشكل السياسي للدولة الجديدة. هنا يظهر دور الأحزاب وأيديولوجياتها وبدائلها الشاملة.