شلومو ساند بروفيسور يدرّس في جامعة تل أبيب، كتب ثلاثة كتب تسعى لتفكيك الأسطورة الصهيونية هي: «اختراع الشعب اليهودي» و«اختراع أرض إسرائيل» و«كيف لم أعد يهودياً». بالتالي فهو ضد الصهيونية وكل الجرائم التي ارتكبتها الدولة الصهيونية، ولا زال يؤيد “حل الدولتين”. ويعتقد بعد ما حدث في الواقع أنه لا يجب رمي الطفل مع الثياب المتسخة التي لُفّ بها.
لا شك في أنه أثبت أن ليس هناك شعب يهودي، وأشار إلى تنوّع انتماءات اليهود القومية، سواء الأوروبيين أو العرب. وبالتالي فهو يفكك خطاب “الأمة اليهودية” و”الشعب اليهودي” معتبراً أن اليهودية دين وليست إثنية. لهذا ليس هناك أرض هي “أرض إسرائيل”. ولقد قدّم في هذا المجال تحليلاً مهماً يفتت كلية منظور الحركة الصهيونية والأحزاب الصهيونية. ولا شك في أن كل ذلك يجب أن يدفعه إلى أن يرفض الدولة الصهيونية كأساسها الأسطوري وتكوينها الاستعماري، لكنه بدل أن يفعل ذلك يذهب إلى مستوى آخر، حيث يقرّ بوجود “إسرائيل”، ويعتبر أنها باتت أمراً واقعاً، وهذا يتناقض مع كل التحليل الذي قدّمه الذي يبيّن خرافة وجود شعب يهودي وأرض يهودية. المبرر الذي يقدمه فلسفي قليلاً، حيث يشير إلى أنه لا يجوز رمي الطفل مع ثيابه المتسخة، بالضبط لأن الثياب متسخة. طبعاً الثياب المتسخة هي مجمل الظروف والأفكار التي دفعت لنشوء الدولة الصهيونية، لكن كيف يمكن أن نحدد من هو الطفل؟
شلومو يعتبر أن “إسرائيل” كتكوين بشري وسياسي هي هذا الطفل، وهذا يطرح السؤال: إذن أين الثياب المتسخة؟
فالأفكار التي طرحتها الرأسمالية ونشأت الحركة الصهيونية على أساسها، والظروف التي كانت تدفع اليهود الأوروبيين أولاً إلى الهجرة رغماً عنهم، تجسدت في تشكيل دولة على أنقاض شعب آخر، وعلى أنقاض أحلامه بالاستقلال. هل نقبل بالأمر الواقع؟ الخضوع للأمر الواقع يعني قبول كل السردية الرأسمالية الصهيونية، باعتبار أن ما نشأ بات أمراً واقعاً. ومن هذا المنظور يصبح قبول حل الدولتين هو التغطية على قبول جريمة حدثت وتمثلت في نشوء دولة على أنقاض شعب. قد يكون هذا مراوغة اللا وعي، أو تبريد الإحساس بالجريمة، لأن المنظور لم يجد حلاً لإشكالية نظرية تتمثل في العلاقة بين الطفل والثياب المتسخة.
الأمر يتعلق بالدولة التي أنشأتها الرأسمالية لحماية مصالحها في الشرق، والتي قامت على أسس أيديولوجية متعصبة، ومن ثم الفئات اليهودية التي قبلت بأن تكون أداة إمبريالية، أو باليهود الذين فُرض عليهم التهجير نتيجة الوضع الوحشي الذي وُضعوا به في أوروبا خلال عقود طويلة قبل الهولكوست، ومن ثم في الهولكوست ذاته؟ هنا يجب أن نبحث عن الطفل وعن الثياب المتسخة، لكي نعرف من نلقي به. وإلا سنقبل بالطفل وبثيابه المتسخة معاً، وهذا يعني “موت الطفل” بالحتم. إن بقاء الطفل يفرض رمي ثيابه المتسخة حتماً، وهذا يعني بكل بساطة إنهاء الدولة الصهيونية لكي يتحرر الطفل من كابوسها. كابوسها الذي يتمثل في استخدام اليهود كأداة للسيطرة الإمبريالية، وكدولة قهر وسحق لشعب آخر، واستغلال لجزء كبير من اليهود كذلك.
هناك أمر واقع بات قائماً، هو وجود ملايين اليهود في فلسطين، ولهم دولة تدعي أنها تمثلهم وهي “دولة اليهود”، أو “الدولة اليهودية”. لكن بين هذين الطرفين (اليهود والدولة) وبين السكان الأصليين في فلسطين (وقد أشار شلومو إلى أن اليهود القدامى هم الفلاحون الفلسطينيون الحاليون)، ومع المنطقة العربية عموماً (حيث الدولة الصهيونية عنصر صراع ضد المنطقة كونها حاجزاً لمنع وحدتها وتطورها، وأداة لمواجهة كل ميل تحرري فيها) صراع، وهذا صراع تاريخي ممتد، وليس من حل له، لأن الدولة الصهيونية بدون دورها “العربي” (أي ضد المنطقة) لا قيمة فعلية لها في سياسات الدول الإمبريالية، وهي وحدها غير قابلة للاستمرار، بالتالي هي معنية بتوسيع سيطرتها وهيمنتها. لهذا لا تقبل “السلام” سوى ذاك الذي يسمح لها بأن تكون القوة المسيطرة. في المقابل ليس من خيار لدى العرب سوى الصراع لأن تطورهم ووحدتهم يصطدمان بوجود الدولة الصهيونية، وبالتالي لا بدّ من إزالتها. بهذا لا حل بوجود الدولة الصهيونية، ولا نهاية للصراع ولا ”سلام”.
نعود إلى الطفل والثياب المتسخة، حين أشرت إلى أن بقاء الطفل بثيابه المتسخة يعني موت الطفل كنت أقصد ذلك، حيث إذا كانت الظروف الآن تسمح باستمرار وجود الدولة الصهيونية نتيجة الدعم الإمبريالي، والسيطرة الإمبريالية على المنطقة العربية، فإن الواقع يؤشّر إلى إمكانية كبيرة لانقلاب الوضع، حيث ليس قدراً أن يبقى العرب في هذا الوضع المزري، ولقد أوضحت الثورات العربية أن الشعوب تنهض، وأنها ستحمل مشروعاً جديداً. كذلك فإن الرأسمالية ذاتها تعاني من مرض مزمن، وربما أسوأ من ذلك، وهي تشهد أزمة لا حلّ لها، كل ذلك ينعكس على الدولة الصهيونية حتماً.
بالتالي، يجب أن نفصل الطفل عن ثيابه المتسخة. هنا تعود إلى ما هو الأمر الواقع؟ أظن أن الأمر الواقع هو وجود أعداد كبيرة من اليهود الذين هاجروا أو هُجّروا إلى فلسطين، والذين أقيمت باسمهم دولة لكي تكون أداة سيطرة تستخدمها الرأسمالية، وتحوّل هؤلاء إلى “مرتزقة” في جيشها الاستعماري. ولا شك في أن هناك فئات مستفيدة من هذه الوضعية، وقابلة لأن تكون “حليفاً” للرأسمالية، ومنفذاً لسياساتها الإمبريالية. لكن لا يمكن إلا أن نرى أن في فلسطين بات هناك نسبة كبيرة ممن يدينون باليهودية، ممن أتى من بلدان عربية وأوروبية وأفريقية وغيرها، وممن ولد في فلسطين. وإذا كان قهر الأنظمة الأوروبية والضغوط التي مارستها على اليهود، والتخويف الذي وضعتهم فيه، هو الذي فرض هجرتهم إلى فلسطين. أو دور النظم العربية في ترحيل العرب الذين يدينون بالديانة اليهودية إلى الدولة الصهيونية بعد قيامها، فإن هذا الوجود بات أمراً واقعاً. رغم أن أي حل سوف يدفع إلى هجرة معاكسة بالضرورة (وهي تحدث الآن، وإنْ بشكل بسيط بعد أن ملّ الشباب استمرار الصراع وغياب الاستقرار، والأزمة الاقتصادية) لكن بات هناك أمر واقع هو وجود “سكان جدد” في فلسطين.
ما الحلّ بالتالي؟ رمي الثياب المتسخة والحفاظ على الطفل، حيث أن وجود الدولة الصهيونية التي تعبّر ليس عن مصالح اليهود بل عن مصالح الرأسمال، والتي قامت على جثة شعب آخر، وشرّدته، هو هذه الثياب المتسخة التي تحتاج إلى رمي. هذا يعني أن الأمر يتعلق بإنهاء الدولة الصهيونية بالتحديد، مع الاعتراف بوجود السكان الجدد كجزء من أي تشكيل جديد يستعيد فلسطين. بمعنى أنه على الطفل أن يسهم في رمي الثياب المتسخة، وأن يقبل الفلسطينيين بالأمر الواقع المتمثل بوجود “سكان جدد” في فلسطين، في ظل دولة علمانية ديمقراطية عربية.
هذا يعني أن وجود “إسرائيل” هو المشكلة التي تحتاج إلى حل، فهي الثياب المتسخة التي يجب أن تلقى بعيداً كي ينجو الطفل.