طارق حمدان... ضحك ونشيج في وجه الخزي والضجر

2018-07-20 14:00:00

طارق حمدان... ضحك ونشيج في وجه الخزي والضجر

يقاوم الشاعر رتابة حياة تمضي بين ارتداء الملابس وانتزاعها، نهارات عادية تطوى في نهارات عادية، عدم يقود إلى عدم، وخوف يجلبُ خوفًا، حيث تأخذ الحياة هيئة دوائر مغلقة، خاوية ومريرة، دوائر نتنة، تحملها أجساد متفسّخة وعقول متفسّخة، تئن ضجرة وملتاعة بالخزي تحت الكاميرات، وأمام كلاب الصيد والبنادق. على الرغم من التماس الإنسان الموحش الذي تشفّ عنهُ نصوص الديوان، إلا أنّها تُظهِر همًا إنسانيًا بالوصول إلى حيث لا يضيع أحد، لا يجوع ولا يحزن ولا يخاف أحد.

يحتفي الشاعر الفلسطيني طارق حمدان في ديوانهِ «ضحك ونشيج» بضحايا الحروب وزيف العالم المتحضّر؛ أولئك الذين غادروا النار إلى الشاشات، وغادروا الموت الهادئ إلى حلبة الاستعراض الماجن، كانوا قد نجوا من القتل إلا أنّهم لم ينجوا من تمثّله، دفعه عن الالتصاق بهم وانتزاعه من دمهم.

تظهر شاعرية حمدان في مشهدية حيّة ميّزت نصوصهُ، صور غنية وموحية تجابه وجهات نظر شتى، وتكتسب مرجعيتها من أنا الشاعر، والتي استوعبت، بدورها، أدوارًا وحيواتًا متعددة. راح الشاعر عبر كشفهِ تلك الذات، يكشف إرثها الممتد لخمسة آلاف عام، إرثها المتنوع، المسكون بالأخطار والناطق بالندم، عبر لحظاتٍ انتخبها حمدان لكي تشي بإنسان مُتقلّب، يُفاجئ نفسه، يرفض البطولة، يقترب من الانتحار ثمّ يرفضهُ، يقبل على الحياة وهو بَرِمٌ منها، لا يعرف ما يريد، حياته امتثال لإرادة الآخرين قبل أن يتجاوز إراداتهم. يُعرّف ذاته على أنّه مجرد مشاهد دُفِعَ عنوةً إلى مسرح التاريخ الشاسع؛ صار بطلًا وصار كومبارسًا وانتهى ليكون ديكورًا مهجورًا وبائسًا، يبادل الرقة بالقسوة، والنكران بالحنان، يلقي التحيات على الخيبات وعلى مدن بمثابة زوجة الأب.

وفي غمرة هذه التقلبات الدرامية يُسنِدُ حمدان للشعر مهمةً، لطالما أسندتُ لهُ؛ أن يكون شاهدًا على امتداد الأزمنة. سوى أنّه في «ضحك ونشيج» شاهدٌ على أزمنة الاغتراب والشتات والاستلاب، شاهدٌ حصيف ومتزن ونزيه، شديد القرب من موضوعهِ، يجمع البشر إلى الحيوانات والأشياء، يحاكي الصفات أكثر مما يحاكي الأصناف، ويجعل عناصر متباعدة، ضمن كتابةٍ واعية، تلتئم في مصيرٍ واحد، ظاهرهُ لعبٌ لغوي، وفي طياتهِ، بين كلماتهِ وإشاراتهِ، بين انفعالاتهِ واسترسالهِ أو استدراكهِ، إحساسٌ عالٍ بالوجود ووعي بالذات وموقعها، وعبر ذلك الكشف عن الذات المحاصرة والمغبونة، كان الشاعر يرفع الحصار عنها ويدفعها إلى فضاء شعري أكثر رحابةً وقبولًا لنهاياتٍ تثيرُ السأم والنقمة وتتشهّى العزلة والابتعاد.

ينطق شعر حمدان بلسانِ عالم داخلي مأزوم ومُعذّب، يراقب تداعي الأشياء من حولهِ، وينقل آثار الاضطراب الذي حدث جراء ذلك التداعي، لذا فإنّ حمدان يقابل الموضوعات التي تتبدى بهيئة أمراضِ المترفين، الأرق والملل والوحدة؛ حتى أنّه يسمّي الكآبة "قطتي الأليفة"، يضحك حتى تتشقق شفاهه من الضحك، يقرأ الجرائد في المقاهي، يرقص حتى ارتجاف ناصيات الشوارع. إنّ حمدان يقابل هذه الموضوعات وهذه الصورة المتعالية والمترفة، بحديث متواصل عن المهاجرين والفقراء، عن المشردين والأرصفة الضيقة والكوكب الضيق. إلى أن ينقسم عالم نصوصهِ، الذي ظهر منسجمًا، إلى عالمين مغايرين، ينسج الشعر صلاتهِ بينهما، ولا يتأخر الشاعر بإخبارنا استنتاجه: "اليوم فقط أفهم أن لا فرق بين/ عالم تقتله القذائف والقنابل/ وعالم يقتله الكذب على نفسهِ وعلى الآخرين". فالشعر لدى حمدان، لم يعد شاهداً على امتداد الأزمنة وحسب، وإنما هو ملجأ للمخذولين، في الوقت نفسه، إنه ذلك الصراط الذي تتهاوى عن جنباته الإنسانية.

يحتشد الديوان بالعديد من المفاهيم التي يجهد الشاعر في إسناد تعريفاتٍ خاصةٍ لها من خلال صورٍ يومية، حياتية أو متخيلة، نعرف الكآبة في تفاصيل نحياها جميعًا، والخيبة إشهارًا وتحديًا لآمال الآخرين بنا، الحزنَ نوعًا من الهروب اللذيذ العذب والمتواصل. نعرف الهزيمة شكلًا من الشعر، أو هي الشعر نفسهُ في أكثر أشكاله تورية واجتنابًا للضجيج، والعزلة مآل النهايات الصارم. تبرز الحرية من بين هذه المفاهيم الساكنة، نزوعًا أصيلًا، غاضبًا ورافضًا، تحضر هذه المفردة الساحرة، الحرية، حضور المخالب في الحياة البريّة: "الخوف/ يصنع العبيد/ المال/ يصنع العبيد/ الأمل/ يصنع العبيد/ الحب/ يصنع العبيد/ الأديان كلّها/ تصنع العبيد/ الأفكار/ تصنع العبيد/ السلطة/ تصنع العبيد/ الطعام، الكحول، الجنس، المخدارت كلّها تصنع العبيد/ حتى الأطفال/ يصنعون العبيد أيضًا./ أتساءل/ كيف لعامل مياومة مثلي/ أن يخرج من هذا المصنع الكبير/ أتساءل/ فلا أجد جوابًا/ إلا بالكلام/ عن الحرية".

يقاوم الشاعر رتابة حياة تمضي بين ارتداء الملابس وانتزاعها، نهارات عادية تطوى في نهارات عادية، عدم يقود إلى عدم، وخوف يجلبُ خوفًا، حيث تأخذ الحياة هيئة دوائر مغلقة، خاوية ومريرة، دوائر نتنة، تحملها أجساد متفسّخة وعقول متفسّخة، تئن ضجرة وملتاعة بالخزي تحت الكاميرات، وأمام كلاب الصيد والبنادق. على الرغم من التماس الإنسان الموحش الذي تشفّ عنهُ نصوص الديوان، إلا أنّها تُظهِر همًا إنسانيًا بالوصول إلى حيث لا يضيع أحد، لا يجوع ولا يحزن ولا يخاف أحد. يُشيّد حمدان هذا العالم عبر لغةٍ واضحة وحاسمة، لغة يائسة وبسيطة تنشد الجمال والسلوى، لأنّ التيه يترصد البشرية، والشعر يشير إلى عالم ناصع حقيقي وإنساني عبر تلويحات تأخذ بالغياب.

صدر الكتاب عن دار النشر الفرنسية «editions pleine page» باللغتين: العربية والفرنسية. الترجمة الفرنسية لأنطوان جوكي.