العودة… خيالٌ في الخيال

2019-05-01 11:00:00

العودة… خيالٌ في الخيال
Farewell, 2018, acrylic on canvas, 41×47 cm. TAYSEER BARAKAT

إلى هذا القدر نحن بعيدون عمّا كان احتمالاً سائداً في أذهان الفلسطينيين قبل زمن قصير، غطسنا طبقتيْن في الخيال، مستويين يحتاج المرور من أحدهما للآخر، رجوعاً، زمناً طويلاً.

العودة بما تعنيه فلسطينياً، ليست إلا جماعية، مباغِتة، بالكاد ”يُعيد“ أحدنا معه ما يستطيع حمله، تماماً كما خرج جيل سابق، من فلسطين، ولا تكون إلا من نقاط تجمّع وانطلاق هي المخيمات، فتنزل الجموع الفلسطينية من حلب إلى حمص، ومن المدينتين إلى دمشق، في مخيّمات هذه المدن، متّجهين إلى الجولان، ولا يكون ذلك إلا في باصات جماعية، وسيّارات، ومشياً على الأقدام لمن استطاع. وكذلك هو الحال في مخيّمات لبنان، إذ ينزل النّاس من طرابلس إلى بيروت، ومن مخيّمات المدينتين إلى صيدا، متّجهين إلى الجليل.

فلسطينيون، وسوريون ولبنانيون، جموع تملأ حتى طرفيْها الأفق، شعوب آتية من كل المدن والقرى والمخيمات في سوريا ولبنان، ومن الأردن جنوباً، يسرعون راكضين متى اقتربوا من الحدود، المسنّون منهم يعرجون على عكاكيزهم، لا أحد يسقط، لا أحد يمشي على مهل، لا أحد لا ينظر أمامه.

هذه هي الصّور التي تتشاركها أذهان الفلسطينيين، بتغييرات خفيفة، فلكلٍّ نسخته منها، زاوية التقاطه لهذه الصّورة وتلك، تركيزه على وجوه دون غيرها، على قصص تفصيلية ولقطات مقرّبة، على حذاءٍ تُرك لوحده خلف الجموع، حَطّةٍ مستقرة على التراب، كيسٍ ممتلئ أعاق أحدهم عن سباق الآخرين فأفلته من يده دون أن ينظر إليه مكملاً طريقه، زمامير باصاتٍ النّاسُ على أسقفها، أغانٍ من مكبّرات صوت رديئة مثبّتة على سيارات بيك-أب، مقاطع من حوارات هنا ووجوه بعينها هناك، كلّها تتخلل هذه النسخة أو تلك في هذا الذّهن أو ذاك.

اليوم، في الذكرى السبعين للخروج الجمعي، وكان بالاتجاه المقابل، مشمّلين ومشرّقين، انقلب معنى العودة هذا، وانقلبت هذه الصّورة، لا أقول تغيّر المعنى وكذلك الصّورة بل انقلبا، فالشعوب صارت أفراداً، ونقطة الانطلاق صارت أوروبيّة، والطريق صار مطار بن غوريون، والعودة صارت زيارة.

هذا هو حال من نال منه الشتاتُ الراهن من فلسطينيي سوريا، في أوروبا وكل العالم، وهذا هو حال فلسطينيي لبنان، من استطاع منهم الخروج بأيّ اتّجاه، هذا هو حال نسبة كبرى من الفلسطينيين الذين إمّا وصلوا إلى غاياتهم، مبتعدين عن فلسطين إن قسنا المسافات بالكيلومترات، وإمّا ينتظرون فرصة ينالون فيها ذلك الابتعاد عن مكانهم الأوّل.

لا مكان لتلك الصورة في ذهني اليوم، لا مكان لأي احتمال يخرج فيه فلسطينيون جماعةً ومن المخيّمات إلى حدود فلسطين عائدين. أمام هؤلاء اللاجئين اليوم احتمال واحد للعودة، بمعناها المعجمي وليس الفلسطيني: أفراداً كأجانب.

وعودة كهذه لا تبقى عودة، حتى معجمياً، فهي، أكثر، ذهابٌ أو، بمعنى أقسى، زيارة. زيارة بڤيزا محدودة الأيام فلا يكون البقاء في فلسطين بَعدها ”قانونياً“، ڤيزا يطلبها مواطن أوروبي ويمنحها آخر إسرائيلي. والزيارة ليست كالعودة، والفردية ليست كالجماعية، وإقامة أحدهم في بيت كان يوماً لجدّه، أو في مكان كان يوماً لجدّه بيت عليه، ليست كالإقامة في بيوت أصدقاء يتناوبون على استضافة هذا المنبهر ببلده، الغريب عنها، المستمر بانبهاره إلى أن يعود إلى مكانه ”العادي“ ”المألوف“ حيث حياته ”العادية“ ”المألوفة“.

فمكان أحدنا هنا لا يكون فلسطين، بل هو المدينة أو البلدة التي أتى منها -أقول ”أتى“ ولا أقول ”يأتي“- تلك التي لا يكترث أحد من أبناء بلده، مستضيفيه، بتذكّر اسمها، هناك حيث إقامة أحدنا، نحن اللاجئين، دائمة كما الزيارة إلى البلد مؤقّتة، وتُرسّخ هذه ”المؤقّتة“ باستعداد العديد لاستضافة هذا الزائر، للتعبير عن رغبتهم في أن يلفّوا به البلد، لذكرٍ محدودٍ لأمكنة سيأخذونه إليها، لأمكنة لا يرونها هم جديرة بذكرها ليأخذوه إليها. هذا كلّه لأنّ القادم قادمٌ مؤقّت، لأنّه زائر، لأنّه سيعود يوماً ما إلى مكانه حيث يمضي باقي أيام السّنة.

هذه هي العودة المتخيّلة لدي، لكن حتى هذه مُتخيّلة، وتلك الجماعية الأسطوريّة لم تعد في وارد التخيّل، هي أكثر ما تكونه اليوم إشارةً في رواية أو فيلم، تكون في فقرات أو مشاهد في ذهن شخصية ما، لا تكون أحداثاً في الحكاية بل خيالات. هي ليست واقعاً حتى في الخيال، في الأدب والسينما، هي خيالٌ في الخيال، هي تصوّرات ذهنيّة لشخصية مؤلَّفة في تصوّرات ذهنيّة للمؤلِّف.

إلى هذا القدر نحن بعيدون عمّا كان احتمالاً سائداً في أذهان الفلسطينيين قبل زمن قصير، غطسنا طبقتيْن في الخيال، مستويين يحتاج المرور من أحدهما للآخر، رجوعاً، زمناً طويلاً.

العودة الجمعيّة لا تكون إلا مُحتواة بالخيال، والحديث عنها في الواقع -هو ما أفعله في هذه الأسطر- هو مجاز بحد ذاته، يصعب حتى كتابته واقعاً في الخيال، حدثاً في رواية أو فيلم، هو مجاز يأتي من أمنية أعرف مدى استحالتها، كأن أغمض عينيّ الآن وأفتحهما منتظراً أن تكون حبيبتي، وهي في بلاد أخرى، أمامي. أفعل هذا بشخصيّاتي لا بنفسي، بمصائر أستطيع التحكّم بها. أستطيع العودة إلى فصول سابقة في نصٍ ما، أغيّر بتفصيلات بسيطة تخلق احتمالاً تجعل إغلاق العينين والتمنّي ثم فتحهما فعلاً غير عبثي، فعلاً باحتمالٍ -لن يكون ضئيلاً في الرواية والفيلم- لحضور الحبيبة، صدفةً أستطيع تطويع كل ما حولها من أجلها. هناك فقط أستطيع الحديث عن العودة المتخيّلة. كي يأخذها أحدنا على محمل الجد، لا تكون العودة إلا خيالاً في الخيال.

أمّا هنا، في واقعي، في مكاني الأوروبي، الأبعد بالكيلومترات عن فلسطين، كل ما يمكن أن أحكيه عن العودة بالمعنى الفلسطيني ليس سوى مجاز لحياة متمنّاة، لاحتمالات عبثيّة، لحياة موازية أعيش اللاحق منها في ذهني، مجاز أصنع به حكايات يتخيّل أحدهم فيها العودةَ جماعيّة تنطلق من المخيّمات، تستقبلها جموع أخرى، على الطرف الآخر من العالم، في الجليل، بأيديهم سلال من الكرز والتّين وزجاجات ماء بارد وأباريق قهوة وشاي للراحلين الجدد، للقادمين الجدد.

نُشرت في العدد ١١٦ من مجلة الدراسات الفلسطينية ضمن ملف "العودة المتخيلة"