قضيّة إسراء غريب وسياسات الشرف... المجتمع والسلطة والاحتلال

2019-09-03 10:00:00

قضيّة إسراء غريب وسياسات الشرف... المجتمع والسلطة والاحتلال
SHADA SAFADI, Keep Breathing II, 2015, etching on plexiglass, 90 x 180 cm

شيطنة إسراء في هذا الشكل ليس فعلاً غريباً عن المجتمع، وإن اعتبار إسراء "ممسوسة" هو عنفٍ له بعدٌ تاريخي طويل في مجتمعنا؛ فتأملٍ سريعٍ في أحيائنا وأسرنا وجماعاتنا، نجد أن وجود نساء متهمات بـ"الجنون" أو "المس الشيطاني" هو أمر "عادي". ولمحة سريعة عن حياة تلك النساء تعلمنا بأنهن ليس إلا نساء خالفن قواعد اللعبة الأبوية.

قُتلت امرأة فلسطينية على أيدي أهلها وزوج أختها. اسمها إسراء غريب. لعلكم لمحتم صورتها أثناء تصفحكم للفيسبوك أو تويتر. 

وصلت إسراء إلى المستشفى في التاسع من آب/أغسطس مصابة بكسر في عمودها الفقري وعلى جسدها عدة كدمات؛ بعد ذلك بأيام عادت إلى منزلها وتوفت هناك؛ ولربما أكثر ما هو مرعب في هذا الخبر هو أننا لكنا تعاملنا مع موتها لو أن صديقتها لم تنشر قصتها. قالت الصديقة إن إسراء نشرت فيديو مع خطيبها على موقع انستغرام مما دفع ابنة عمها إلى التحدث مع إخوتها وتحريضهم عليها. وانتشر فيديو من داخل المستشفى يُسمع فيه صوت إسراء وهي تتعرض للضرب، وهذا ما خلق حملة تضامنية تطالب بالعدالة لإسراء.

بدأ محمد صافي، زوج أخت إسراء الذي عينته العائلة متحدثاً رسمياً باسمهاً، بعرض فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي يهدد فيها من يتهمون العائلة بقتل ابنتهم، ويقول إن أي اتهام يطلقه شخص "سوف يحاسب عليه عشائرياً وقضائياً". وتحدى صافي في تسجيلاته النيابة والشرطة أن تثبت أن إسراء قد تعرضت فعلاً لأي شكل من أشكال العنف أو أنها قُتلت. واعترف محمد صافي أن الصراخ الذي سمع في المستشفى هو فعلاً صراخ إسراء، لكنه أكد أنها كانت حينها محاطة بطاقم من الأطباء والأهل "الذين يعرفون تماماً ما الذي كان يجري". ولمّح صافي إلى أن شخصية إسراء شهدت تغيرات كبيرة فور خطوبتها، في إشارة إلى أن إسراء كانت "مسكونة بالجن".

كل ما نعرفه عن إسراء هو أنها امتهنت التجميل وارتبطت بشاب؛ كل ما نعرفه عنها أنها تشبهنا كثيرًا في حياتها. نعرف أن القوانين غير المكتوبة حوّلت إسراء من صبية مفعمة بالحياة إلى جثة. قُتلت إسراء باسم قوانين الشرف؛ تضع قوانين الشرف أجساد النساء تحت مجهر الأبوية وتقيد حركاتهن وتمنعهن من الظهور في الحيز العام وتربط وجودهن وأدوارهن بالحيز الخاص. وهذا المجهر نفسه دفع ابنة عم إسراء إلى التحريض ضدها. فهذا المجهر يضعنا بوجه بعضنا البعض، ويحوّل علاقاتنا إلى ثنائية المرأة "الجيدة" في مقابل المرأة "السيئة"، بحسب المعايير الأبوية. نتحول كلنا إلى أدوات مراقبة، في محاولة منّا إلى -ما صاغته الناشطة سارة قدورة- حماية أنفسنا عبر توجيه العنف الموجه ضدنا إلى غيرنا. 

انتشرت صورة إسراء وقصتها بشكل واسع النطاق وأطلقت نسويات عربيات حملة تضامنية معها. تلقت هذه الحملة دعم وهجوم حاد في الآن عينه. وتعامل الإعلام العربي مع إسراء على أنها جريمة شرف أخرى، متناسين في ذلك، السياق الاستعماري الذي ارتُكبت فيه الجريمة، ومتناسين أيضًا أن إسراء ليست المرأة الفلسطينية الأولى التي تُقتل باسم الشرف؛ وبأنها لن تكون الأخيرة. 


جريمة الشرف و"المسحورات"

ثالوث العائلة ورجال الدين والشرطة/السلطة، هو تعبير عن مدى تنوع واختلاف هياكل القمع ونظم الرقابة الاجتماعية التي تتحكم بأجساد النساء. هذه النظم والهياكل لا تعمل أو تنوجد من العدم والفراغ، بل تتطور ضمن السياق التاريخي الخاص للمجتمع نفسه وتتقاطع مع هيكلية الدولة واقتصادها، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياق الاستعماري الذي تتمأسس بداخله؛ وتتحكم هذه الهياكل والنظم بمفهوم الشرف. 

الحفاظ على الشرف في مجتمعاتنا ليس إلا محاولة إدامة السيطرة الأبوية على أجسادنا؛ وخرق قواعد "الحفاظ على الشرف" يقوض نظام الهيمنة هذا. تعيد الهيمنة الأبوية إنتاج نفسها من خلال استغلال سياسات الشرف، أي تحديد مجموعة من القوانين الملزمة بشكل رئيسي للنساء عبر فرض الوصاية والرقابة الأبوية على سلوكهن وأفعالهن ورغباتهن وحتى أفكارهن. تشرح ليلى أبو لغد شكل هذا السلوك من خلال مصطلحات "الاحتشام" أو "الحشمة" حيث يُعتبر الخروج عن حدود الحشمة تهديداً مباشرٍاً للنظم الأبوية. في الماضي، ارتبط مفهوم الحشمة بالسلوك الجنسي للنساء بشكلٍ أساسي؛ ولكن اليوم، ونظرًا للتغيرات الجوهرية التي طرأت على المجتمع العربي عمومًا والمجتمع الفلسطيني بشكلٍ خاص، أصبح هذا المفهوم أكثر شمولية. بالإضافة إلى توسع خارطة حدود الشرف لتشمل أشكالاً جديدة من السلوكيات التي يُنظر إليها على أنها مُهددة للهيمنة الأبوية، مثلًا: نشر الصور الشخصية في الفضاء الرقمي.

مفهوم الشرف هو جدار محصّن خلفه جميع القوى التي تسعى إلى تقييد أجساد وسرديات النساء والحفاظ على الدونية الاقتصادية والاجتماعية وإدامة الامتيازات الخاصة بالرجال. ويتم ذلك من خلال توظيف وسائل تحريضية وترهيبية كحملات التشهير وتشويه السمعة، والقتل. ويُعطى هذا العنف طابعًا شرعيًا من خلال الحماية التي توفرها المؤسسات الدينية وكذلك السلطة. فتبريرات عائلة إسراء كانت سريالية إلى حد مريب؛ فعندما لم تجد سلوكيات جنسية يمكن استخدامها لتبرير القتل، بدأت باستخدام حجج دينية/نفسية محض واتهمتها بالمس الشيطاني. إن إسراء ليست المرأة الأولى التي تُتهم بأنها "ممسوسة من الجن"؛ ولطالما اختلقت العائلة والسلطة اتهامات ضد النساء تهدف بشكل أساسي إلى تجريدهن من شرعيتهن وتقييد استقلاليتهن وقدرتهن على إعادة استملاك حياتهن. باعتبار إسراء "مسحورة"، ترى العائلة أنها أنقذت نفسها من "عارين": الأول خروج إسراء عن قواعدهن الأبوية، والثاني جريمة قتلها. 

شيطنة إسراء في هذا الشكل ليس فعلاً غريباً عن المجتمع، وإن اعتبار إسراء "ممسوسة" هو عنفٍ له بعدٌ تاريخي طويل في مجتمعنا؛ فتأملٍ سريعٍ في أحيائنا وأسرنا وجماعاتنا، نجد أن وجود نساء متهمات بـ"الجنون" أو "المس الشيطاني" هو أمر "عادي". ولمحة سريعة عن حياة تلك النساء تعلمنا بأنهن ليس إلا نساء خالفن قواعد اللعبة الأبوية.

قتل النساء الفلسطينيات (في الوطن والشتات)

هناك علاقة جدلية بين النظم القانونية والاجتماعية الرسمية وغير الرسمية في فلسطين، وهذه العلاقة تمأسس قتل النساء الفلسطينيات. ولا يمكن حصر القتل والخطاب الذي يتبعه في بقعة جغرافية واحدة، فالعنف يعبر الحدود ويخرق الاحتلال. ففي الشتات أيضًا، توجد هذه الجدلية أيضًا. وهذه الجدلية تأتي من سياق أوسع من الاستعمار. وهنا نجد أن هناك سياسة إقصاء وطنية للنساء تبنتها السلطة والفصائل الفلسطينية، وهذه السياسة تتواطأ مع ثقافة أبوية في ظل سياق استعماري يغذي العنف ضد النساء الذي يُبرر من قبل المُستعمِر والمُستعمَر على حدٍ سواء. سياسة الإقصاء تقتضي بحرمان النساء من حقوقهن الأساسية كالسلامة والمسكن وحرية التنقل والحقوق السياسية والاقتصادية.  

موقف السلطة الفلسطينية المتمثل بإجراءات الشرطة الفلسطينية هو عدم التعامل مع حالات قتل النساء كحالات قتل، بل كتعبيرات عن المواقف التقليدية تجاه المرأة: أي تبرير قتلهن وإضفاء صفة الشرعية عليه. ومن البديهي أيضًا، بما يتعلق بنساء الداخل المحتل ٤٨ بأن "الشرطة الإسرائيلية" ليست معنية بحالات قتل النساء الفلسطينيات، وتعامل حالات القتل كوضع "ثقافي خاص بالفلسطينيين"، أي أنها ترى أن هناك استثنائية كراهية النساء بشكل فطري عند الفلسطينيين.

والواقع في الشتات لا يختلف كثيرًا، فلا يمكن حصي عدد النساء اللاتي قتلن على أيدي أقربائهن في المخيمات الفلسطينية. يختبئ القتلة في مكاتب الفصائل لمدة، ومن ثم يخرجون لاستكمال حياتهم بشكل طبيعي دون أي نوع من المحاسبة. ولا تجد النساء الفلسطينيات في الشتات أي نوع من الحماية القانونية أصلًا. 

إن جرائم قتل النساء لا يمكن فصلها عن سياسات وممارسات العنف والتهميش المرتكبة بحق الفلسطينيات سواء في فلسطين أو الشتات. فهذه الجرائم لم تُرتكب من العدم، بل لها نظم قانونية رسمية وغير رسمية تشرعنها وتدعمها، وتعتبر أي عمل مناهضٍ لها -وبشكل خاص المؤسسات والجمعيات النسوية- هو تفويض للمنظومة الأبوية كلها، وبالتالي تهديد لهياكل السلطة نفسها. 

كيف ننجو؟ 

هناك حاجة لاختصار كل المخاوف التي أظهرتها الحملة المطالبة بالعدالة لإسراء في شعارٍ واحد: كلنا ضحايا محتملات. هناك حاجة لإعادة صياغة ما قالته عشرات النساء من قبل، وقالته أمهاتنا وجداتنا وأخواتنا ورفيقاتنا بأكثر من طريقة: التحرر لا يتحقق إلا بتحررنا جميعًا. كل محاولات الإسكات المتكررة عند كل جريمة شرف، وتلك المحاولات تتخذ أشكالًا مختلفة، ذلك الذي يعتبر أن الحديث عن جرائم القتل تعزز من "العنصرية" ضد الفلسطينيين، أو من يعتبر أنها أمور شخصية وعائلية، أو من يرى أن القضية تحتاج إلى فريق دولي للتحقيق، وأن هنالك لغز غامض عليه أن يحله قبل أن يتضامن. كل هذه المحاولات ليست إلا تأكيدًا على أن الصمت والإسكات الذي يحيط جرائم الشرف لا يوجه إلا ضد من يدين هذه الجرائم، أما الجريمة نفسها، فيُعطى لمرتكبي الجرائم مساحة للتفاخر والتباهي. يُسمح للرجل بإعادة تعريف نفسه من جديد بعد "تطهير" عرضه، يُسمح له بأن يقدم نفسه على أنه "البطل". يبرز رجل العائلة قوته من مدى قدرته على قمع "نسائه".

تواجه النساء سياسات الشرف بأشكالها المختلفة وبتقاطعاتها مع قمع الاحتلال والسلطة والمجتمع وتتفاوض مع كل هياكل القمع هذه بشكل يومي. في سياقٍ تُعتبر أجساد النساء فيه مجرد مساحات سهلة الاستباحة وثانوية، يكون من السهل على المنظومة الأبوية تبرير-لا بل حتى الاحتفال- برحيلهن واحدة تلو الأخرى. ولكننا اليوم بحاجة لنؤكد على أن رحيل أي واحدة منا ليس أمراً عادياً، وبأن الحياة لا تستمر بشكل "طبيعي" بعد أي جريمة قتل بحقنا؛ لا نطبّع العنف لكونه يواجهنا في كل مكان. في ظل كل هذا العنف، تعمل النساء، والنسويات تحديدًا -سواء في منظماتهن أو مجموعاتهن- على بناء مقاومة تحررية شاملة وبديلة؛ مما يسهل علينا التمسك بإيماننا بأن حلمنا بالتحرر الفلسطيني لا ينفصل عن تحررنا كنساء، وبأننا لن نستطيع تحقيقه إلا سويًا. وهنا، يبقى السؤال نفسه: كيف ننجو ونحن نرحل، واحدة تلو الأخرى؟