«عودة أوزيريس»… خطاب التنحّي على الطريقة الفرعونيّة

2020-06-09 10:00:00

«عودة أوزيريس»… خطاب التنحّي على الطريقة الفرعونيّة
عيسى غريّب, تصوير: عارف مصالحة

"عودة أوزوريس" هو فرصة لمشاهدة قطع تاريخيّة تتحدّث عن قطع تاريخيّة أخرى في لعبة متبادلة وممتعة بين الحدث وتأويلاته السينمائيّة والتلفزيونيّة، لكنّها كذلك فرصة للتفكير في الطريقة التي تتشكّل بها تيّارات فنيّة في الأنظمة الحاكمة على اختلافها، وكيف تصبح بنفسها وثيقة مضلّلة أو دالّة،

وفقا للأسطورة الفرعونية الشهيرة، يغدر الإله سِت بأخيه الإله الحاكم أوزيريس، يتسلّل ست إلى مضجع أوزيريس ليلًا آخذًا قياسات جسده، وعلى مأدبة حضرها ضيوف كثر من ضمنهم أخيه، يعلن سِت عن جائزة لمن يستطيع دخول صندوق قام بصنعه مسبقًا مفصّلا على حجم أوزيريس، وما أن دخل الأخير إلى الصندوق ليجرّب حظّه، قام سِت بإغلاقه ورميِه في النيل، لتبدأ الإلهة إيزيس بالتفتيش عن تابوت زوجها، وبعدما استطاعت إرجاعه من شواطئ جبيل إلى مصر، قام ست بتقطيع جثّته ورميها في النيل مجدّدًا، وما كان من إيزيس سوى لملمة القطع المتناثرة ليبعث أوزيرس من جديد ليكون إله إحياء الموتى وأوّل فرعون يحنّط. 
ملصق فيلم “عودة أوزيريس” ٢٠١٩ تصميم هيثم حداد

ما قام به الفنان البصري الفلسطيني عيسى غريّب شبيه إلى حدّ ما بما قامت به إيزيس. في عمله البصريّ "عودة أوزيريس" (13 دقيقة) المتأرجح على تخوم كونه فيلمًا قصير أو فيديو آرت، ولّف غريّب مشاهد مُجتزأة من 13 فيلما و6 مسلسلات مصرية، احتوت على أحد أشهر الخطابات العربية مأساويّةً في القرن العشرين، خطاب تنحّي الرئيس المصري جمال عبد الناصر يوم 9 يونيو عام 1967، في التقنيّة المعروفة سينمائيًّا بالـ supercut، وقد يكون أكثرها إبهارًا وشهرةً في تاريخ الفنون البصريّة عمل "الساعة" لكريستيان ماركلاي الذي رصد على مدار ٢٤ ساعة عرض متواصلة ظهور الساعات على اختلاف أنواعها في السينما وتطابق ظهورها مع الوقت الحقيقي للعرض.

حاول غريّب الخروج بحدّ كبير من التطابق بين صوت وصورة ناصر في التسجيل الأصليّ، وبين ظهورها في الأفلام والمسلسلات، واللافت في هذا العمل البصري البحث الواسع الذي صنعه غريّب في إيجاد الأعمال وفكرة بناء خطاب التنحي مستعينًا بما أفرزته الثقافة الجماهيرية المصريّة بصريًّا، وخلق تداخل بين حالة المتفرج وحالة الشخصيات داخل اللقطة وهي تجلس أمام التلفزيون أو بجانب مذياع. إنّنا أمام وسيط بصري يعرض حالة تلقي جموع مواطنين لوسيط بصري/سمعي آخر في لحظة انهيار مروّعة لأمّة ولرجل في آن واحد، وأغرب ما في الأمر أن خرج المهزوم بطلا من بعد الخطاب، ليُبعث من جديد بعد موته الرمزيّ تماما كأوزيريس.
 

صورة من فيلم “عودة أوزيريس” ٢٠١٩


في عمليّة التحنيط البصريّ هذه، يلازمنا نحيب شويكار في "الكرنك"، صرخة محسنة توفيق في "العصفور"، ذهول عبد المنعم مدبولي في "إحنا بتوع الأوتوبيس"، صدمة محمود عبد العزيز في "رأفت الهجان" وتشكيلات أخرى من التعبيرات التمثيليّة المتراوحة بين عظمة "مشخّصاتيّة" وبين مبالغة في التمثيل، كل تلك الوجوه والتعبيرات تتبادر إلى المخيّلة البصرية لدى الحديث عن تمثّلات فنيّة لحضيض وجدانيّ كالنكسة في تاريخ الأمّة العربيّة. بالإمكان تقسيم هيكل "عودة أوزوريس" إلى ثلاثة فصول: الترقّب، الصدمة والانكسار، والرفض، وهي حالات كرّستها السينما المصريّة في كثير من الأعمال، وكان في الانتقالات بين المقاطع المختلفة قدر عال من السلاسة والتناغم لخلق سردية منسجمة فيها توطئة وتصاعد وحلّ، باستثناء مقاطع خرجت قليلا عن الجو العام إيقاعا وصوتا في مقاطع من فيلم "الفاجومي" مثلا، لكن تجميعها على هذا النحو الفسيفسائي يفرش من جديد ملامح تيّارات وتوجّهات سينمائية وتلفزيونية تناولت عبد الناصر وحقبته في استقطابين بارزين: ماكينة بروباجاندا ساداتيّة همّت بدأَب تناول النكسة من باب المقارعة السياسيّة وإبقائها مخلّفًا تاريخيًّا وحيدا لمرحلة حكم عبد الناصر كدليل إدانة أبديّ ("الكرنك"، "إحنا بتوع الأوتوبيس")، وتلك الأخرى التي عرضت خطاب التنحّي والهزيمة بشكل رثائيّ حزين على زعيمه المهزوم دون تمجيد حاكم آخر ("ذات"، "أم كلثوم"، "العصفور")، لكن ما يوحّد هذين التوجّهين فكرة عدم تخطّي النكسة نفسيّا وبالتالي ضرورة العودة إليها لتأطير رزنامة الذاكرة التاريخية الجماعية من خلال السينما والتلفزيون. 
 

”جمال عبد الناصر, عمي” ٢٠١٩, صورة لتركيب العمل في الحيز


صرّح عيسى غريب لرمّان أنّ فكرة "عودة أوزيريس" وهو جزء من معرض بعنوان "خطاب الهزيمة" قدّمه مشروعًا لتخرّجه، تعود بشكل ما إلى طفولته في قرية كفر كنا في الداخل الفلسطيني، والمفاجئ في الأمر أنّ غريّب لا يعرّف نفسه ناصريًّا على الإطلاق أو حتّى من المتابعين الأوفياء للسينما والدراما التلفزيونية المصرية، لكن فكرة الانشغال بعبد الناصر كانت حاضرة في صغره، لتواجد صور الزعيم العربّي معلّقة في بيوت كثيرة في قرى ومدن الجليل وهي ظاهرة معروفة فلسطينيًّا وعربيًّا، كان يفتّش عن بورتريهات ناصر في كل بيت يزوره على تنوّعها: صور بالزيّ العسكري، صور ببدلات رسميّة، بعضها ملوّن، بعضها الآخر بالأبيض والأسود، قسم منها كان مرسومًا، وكان أكيدًا في طفولته أنّ هذا الرجل الكاريزماتي الوسيم هو عمّه الراحل يقابله على الحائط المقابل في بيت جدّته الكنّاويّة صورة عمّه عادل المتوفى في طفولته غرقًا في بحيرة طبريا. يقول غريّب أنّ في مرحلة لاحقة في نهاية التسعينات وبداية الألفينات بدأت هذه الصور تختفي من على جدران المنازل بشكل أقرب إلى طقس جماعي لم يتمّ اتّفاق مسبق عليه، ليُخيّل له أنّ هناك قبوًا كبيرا في الجليل خُبّأت فيه كل هذه الصور، وقام هو رمزيًّآ بلملمتها واستخراجها لتعلّق على حائط كبير في معرضه ليعيدها إلى الجدران، بالإضافة إلى زاوية في المعرض وضع فيها النص المكتوب للخطاب كاملًا، وقام بفهرسة المقاطع التي ظهرت فيها بورتريهات ناصر في الأفلام، ولوّن جملا من النصّ بألوان مختلفة تحيلك إلى الوقت المحدّد لظهورها على الشاشة، يقول غريّب إنّه حاول من خلال ذلك أن يبني سيرة بورتريهات فيها عنصر أزليّ، حيث أنّك في كلّ مرة تدخل فيها إلى زمن محدّد في فيلم "العصفور" مثلًا سيكون هنالك بورتريه معلّق للرجل ولن يتمّ إنزاله أبدًا، ومن الجانب الآخر للحائط عُرض الفيديو آرت، استمرّت مدّة البحث والتجميع عامًا كاملًا عوّل فيها على ذاكرة أهله وأصدقائه ومتخصّصين ومتابعين للسينما المصريّة، وقام بعمليّة مسح للحظات وجود الخطاب ومحاولة بناء النص من جديد بشكل قريب جدًّا من وتيرة النص الأصلي. لكن أكثر ما أثار دهشة غريّب الذي يتعامل مع عبد الناصر في خطاب التنحّي كدراسة حالة لقائد يخاطب شعبه معترفًا بفشله وبالرغم من ذلك يستطيع أن يخرج بطلًا في النهاية. 

"عودة أوزوريس" هو فرصة لمشاهدة قطع تاريخيّة تتحدّث عن قطع تاريخيّة أخرى في لعبة متبادلة وممتعة بين الحدث وتأويلاته السينمائيّة والتلفزيونيّة، لكنّها كذلك فرصة للتفكير في الطريقة التي تتشكّل بها تيّارات فنيّة في الأنظمة الحاكمة على اختلافها، وكيف تصبح بنفسها وثيقة مضلّلة أو دالّة، يستطيع الفنان البصري إعادة خلق معناها من جديد ووضعها في سياق مغاير، في محاولة منه لعدم التسليم بالسرديّات المُنزلة من أعلى، ولإتاحة التأويل الفرديّ للحظات تاريخيّة مفصليّة.