في مهرجان السينما الفلسطينية في تولوز

"عائدة" إلى يافا... لكارول منصور

2024-03-07 02:00:00

قررت عايدة بجسدها الرفات أن تعود لتنام إلى الأبد في بحر يافا، وقررت كارول ابنتها أن تحتفظ بذاكرة عايدة في هذا الفيلم، ولا يمكن في اللقطات الأخيرة منه، إلّا أن نستحضر بعض كلمات الشاعر الفرنسيّ بول إيلوار الذي قال مرّة: وكما في الأزمنة الغابرة، يمكنكِ أن تنامي في البحر.

 ربما كانت مصادفةً، حين سُميّت والدة كارول منصور، المخرجة اللبنانية من أصول فلسطينية بـ “عايدة"، وعايدة تلك التي ولدت قبل حلول النكبة الفلسطينية في مدينة يافا، أبتْ إلّا أن تُعيد جسدها عن طريق التضحية بالنار مثل تارانيس Taranis، إله الوثنية السلتية، إلى منزلها الذي ولدت فيه وترعرعت، إلى أن أجبرتها العصابات اليهودية، على الرحيل عبر البحر إلى منطقة "برمّانا" في لبنان. والمثير حقًّا، في الفيلم الذي أعدتهُ ابنتها بعناية، على مدار سنوات متعددة وبطريقة دراماتيكية، هو الاحترام الحقيقي التي أظهرته "للهبّ"، إذ إنَّ فكرة معرفتنا الأولى بالنار سقطت وتبعاتها الخطيرة، لنكون إزاء مشهدية غير معتادة وفانتازية في بعض الأحيان عن صورة حرق الجسد ونثر رفاته في الماء والتراب والهواء أيضًا.

ربما كارول، ذهبت أبعد من توثيق حياة عائدة، أُمها التي هُجرّت كباقي فلسطينييّ الشتات في هذا الفيلم، إلى  جعله كحفل تأبينيّ وثنيّ ملفت، بوجه من حاولوا سنين طوال منعها من العودة، وهذا ما ظهرَ جليًا حينَ لم تتخلَّ كارول عن النار وجعلت من الشمعدان رسالة تحريض للماضي واتحاد للزمن الخفيف مع الزمن الثقيل وتفكّرٍ بالموت إذا ما استعرنا العبارة من الفيلسوف الفرنسيّ غاستون باشلار. وإذا حاولنا الذهاب أبعد من ذلك، مع هذا الفيلسوف فإنَّ فاجعة الضوء، ومآسيه ستظهر في الفيلم، بنهاية قيّمة ومهيْمنة وحاضرة أيضًا. إنه جسد عائدة الذي تحوّل وتنوعت ألوانه من الأحمر، والأصفر والنيليّ ربما، إلى اللازورد، كما حال الشمعدانات التي أحاطت أكياس ما تبقّى من جسدها (جسد عايدة). إنّه جسد على شكل رفات، تناثرت بجميع أحجامها إلى الأعلى في جنازة امتدت على طول الفيلم، الذي عنونته كارول: بعودة عايدة.

ومن المصادفة ربما، قيام كارول بعرض أدائيّ يستتبع الفاجعة، في محاولة رصدها لـ"قافلة الدموع" التي انهمرت على وجهها، عبر "الكاميرا"، لنكون أمامَ حالة من الانتحاب ومن طقسٍ جنائزيّ لائق. وأقصد هنا بالأدائي، فنّ الحزن الذي شعرت بهِ كارول مع رحيل والدتها، وإيقاعاته التي ما إن شاهدتُها حتّى أعادتني إلى صورة "الطبول الناطقة".

عودة عائدة بمثابة تسكين للذاكرة المتألمة؟

تُعتبر الذّاكرة "الخيط الناظم" للفيلم، إذ نجد كارول تجول بين الأزمنة المختلطة باتساق، وتمنح كاميرتها دلالة مصيرية لذكريات "عايدة" الأمّ، التي نستشعر من خلال ما عُرضَ، أنها كانت من عائلة فلسطينية برجوازية، منحتها طبقتها امتياز تعلّم اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وبناء علاقة متينة مع البريطانيين، وعلاقة منفتحة مع المجتمع آنذاك. وتُظهر بعض اللقطات هشاشة الخطاب السياسيّ الذي حملته الأم. فحين سألتْها كارول: ماذا حدث، لماذا انتهت فلسطين؟ أجابتْ عايدة بشكلٍ مقتضبٍ جدًّا: إنها الحرب، كانت مريعة بين الفلسطينيين واليهود. لتعود كارول بذكاء، وتدور بأسئلتها حول الحيزّ الخاص لحياة أمها التي تستفيض بالحديث عنه: عن شكلها، عن لون شعرها، عن مدرسة الرقص التي كانت تتردد عليها.. ولكن للمفارقة، فإنَّ هذا الحيز الخاصّ جدًّا للأم عايدة، يشترك به الكثير من الفلسطيينين، لذلك تُعتبر ذاكرة الأم، التي حاولت كارول طوال فترة الفيلم العناية بها، هي نفسها الذاكرة التي يجتمع عليها الفلسطينيين في الترانسفير، مع فارق الحياة التي عايشوها قبل حلول النكبة.

وأشير في هذا الإطار، إلى أهمية الذاكرة التي ينبثق عنها أشكال مختلفة من التوثيق، كالمرويات التي حرصت كارول على إظهارها داخل الفيلم، والتي تثمّن الإرث الهوياتي المشترك للفلسطينيين إن صحّ التعبير. ويقول صاحب كتاب "الذاكرة والهوية"، جويل كاندو في هذا السياق، إنَّ الذاكرة تصنعنا ونحن نصنع الذاكرة. وهذا يلخّص تلخيصًا تامًا جدل الهوية والذاكرة اللتين تقترن الواحدة منهما بالأخرى، وتُخصّب كلّ منهما الأخرى بالتبادل وتذوب الواحدة منهما في الأخرى على حدّ تعبيره، ويتجدد الذوبان في هذا الفيلم على شاكلة: قصة رفات جسد عائد إلى يافا تصورّه كارول بلقطات ملحمية شديدة التأثير، وذاكرة مؤلمة لفلسطينية انتقلت في النكبة مع عائلتها "مؤقتًا كما كانوا يعتقدون" من يافا مدينتها التي نشأت فيها، إلى برمانا في لبنان حتّى وفاتها في مدينة "مونتريال". 

سوناتا جنائزية لجسدٍ من رماد

تعود "عايدة" بجسدها المكثّف داخل كيسٍ بلاستيكيّ مخصص للرفات، إلى فلسطين، رفقة صديقات ابنتها كارول، إذ تتعمدن الأخيرات، في بعض المشاهد إحياء الرفات، لا بل تذهبن إلى أنسنة الكيس، نراه تارةً على مقعد السيارة واضعًا حزام الأمان، وتارة أخرى يُجرى التكلم معه، أو احتضانه بقوّة. هذه عايدة، لكن تنوعت أشكالها.. عايدة وللمرة الأولى بعد عام 1948، تدخل الأراضي الفلسطينية وتجول فيها إلى أن تصل البلدة القديمة، حيثُ منزلها "ذاكرتها الأولى". في أحد المشاهد، تصف عايدة لكارول، منزلهم الكبير، المُحاط بحديقةٍ ملأى بالورود بلغةٍ أنيقة تدلّ على عمق ذاكرة عايدة التي لم يهددها الزمن ولم تتلاشَ في الماضي. وعبرها، تجمع كارول بقايا الصور التي روتها أمامها والدتها قبل مماتها، للبحث عن منزل "آل عبود". 

تصل الفنانة رائدة طه، صديقة كارول، إلى منزل عايدة، لتجدَ أن ساكنيه، الذين استولوا عليه بعد النكبة، ليسوا في المنزل، فتسرع بلقطات عبر التلفون، في توثيق لحظة عودة "رفات" عايدة إلى دارها أخيرا. تحفر رائدة بأظافرها، بكلتيّ يديها وجه الأرض، لتنثر بعضا من أجزاء عايدة، ولتراودَ المُشاهد أسئلة على شاكلة: هل هذه عينيّ عايدة أم قلبها الذي نراه يُدفن بطقس جنائزيّ فاجع وصارخ إلى حدّ الصمت. أي جزء من أجزائها دُفن تحت ظلّ شجرة هذا البيت التي لم تعد من ساكنيه، لكنها ستصبح لعنة على ساكنيه، خاصّة بعد أن يكتشفوا مصادفة ربما أو بمشاهدتهم الفيلم، أنَّ مالكة البيت عادت بجسدٍ من رمادٍ.

تستكمل رائدة طه، رحلتها مع عايدة في يافا، لتعثر على القبور المتراصة لـ “عائلة عبّود"، فتنثر بعض الرفات قربها، ثم تتجه بالرماد المتبقي من رفات عايدة صوب البحر، وجهتها الأخيرة، بحر يافا. لتوثّق جنازة صامتة وحزينة لكارول ابنتها التي تشاهدها -طوال الوقت- من كاميرا الهاتف.

قررت عايدة بجسدها الرفات أن تعود لتنام إلى الأبد في بحر يافا، وقررت كارول ابنتها أن تحتفظ بذاكرة عايدة في هذا الفيلم، ولا يمكن في اللقطات الأخيرة منه، إلّا أن نستحضر بعض كلمات الشاعر الفرنسيّ بول إيلوار الذي قال مرّة: وكما في الأزمنة الغابرة، يمكنكِ أن تنامي في البحر.