عن أقنعة خفيّة نرتديها علناً

2020-06-12 00:00:00

عن أقنعة خفيّة نرتديها علناً
The Masked Woman - Max Pechstein

رد نمرود متسرع، ساخر، يستخف بـ"النبي"، ليهدد إطار "المعجزات" الذي أتى به إبراهيم، ينفي السينيكي الصدق، ما يجعله دوماً مُهدّداً، إذ يمكن أن تتلاشى حجته و منطقه بسبب سلوكه ذات، كذلك هو يستطرد بالمسلّم به، يدور حوله، يسائله، لماذا تهتز طاولة المطعم دوماً ؟، لماذا يتألّم البعض بصوت عال والآخر منخفض؟

"امتلكت لزمن طويل وجهًا بلا فائدة، 

أمّا الآن،

لي وجه كي أكون محبوباً،

لي وجه كي أكون سعيداً."

بول إيلوار، قصائد من أجل السلام، 1918

 

تفصل الكمّامة حالياً بين الأصحاء والمرضى، أو لا نعلم بدقة، فالتوصيات الرسميّة مختلفة بين البلدان في ظل الجائحة، البعض ينصح المصابين بكوفيد 19 بارتدائها، في حين تنصح دول أخرى الأصحاء، لكن، غالبيّة التصريحات الرسميّة تقول إنها إلزاميّة للجميع، "الكلّ" سيغدو مُقنّعاً/ مُكمما في الفضاء العام.

تخفي الكمّامة الفم، فتحة الصوت والضحك والتذوق والالتهام، يفقد مرتديها جزء من وجهه ليبقى صوته من خلفها، تكميم الفمّ سياسي دوماً، فنان الأداء الروسي بيوتر بافلينسكي أخاط فمه، احتجاجا على ممارسات السلطة في روسيا، أيضاً هناك عمليّة جراحية تخاط بها الشفاه للتحكم بما يدخل من "الخارج" حفاظاً على شكل الجسم، فقدان فتحة الفم والـ"تقنّع" يظهر دوماً إثر قرار استثنائيّ، يعاد عبره تقديمنا للـ"خارج" أمام الآخرين، وهنا يظهر دور القناع، هو علامة علنيّة نختفي وراءها نعم، لكنها "تفضح" أكثر منها تخبّئ، وتظهر سياسيّة القناع حين نعلم أن بعض الدول تمنعُ "إخفاء" الوجه، وتغرّم من يتنقل علناً دون أن يتطابق شكله مع صورته على الهويّة الشخصيّة الرسميّة، أي من يهدد إمكانية التعرُف عليه.

انفصل القناع عن الوجه، وتلاشى ماديّاً ضمن الكثير الفضاءات الجدّية، لكن أثره ما زال قائما، وكأنه يختبئ تحت الجلد أو يتطابق معه، لنشهد فقط "أعراضه" علناً، الكثرة و"الآخرون" والسلطة" يفرضونه عليناً أداء محدداً، Persona بصورة أدق، المشتقة من كلمة قناع باليونانيّة والتي تعني فرد حالياً، فردٌ يحدق به الآخرون و يحدق بهم، وحسب عالم الاجتماع الكندي إيرفينغ غوفمان، كلّنا "نؤدّي" ذواتنا أمام الآخرين علناً، هناك دوماً ما هو خفيّ أمام الأداء/القناع العلنيّ، نحن نؤدّي الصدق والكذب، الحب والكراهيّة، نؤدّي نماذج علنيّة ونحاول إنتاج "الصدق" كي نحقق "الصورة" التي نريد عن أنفسنا، اختفاء الأقنعة حلّ مكانه أوجه وأشكال من الأداء لا يمكن رسمها بدقّة، هي التي تكشف عنّا وكيف نصنّف أنفسنا سياسياً وثقافياً.

قناع نيرون: الطاعة والاستنساخ

تورد الباحثة الأمريكيّة ليزا ويدن في كتابها "الهيمنة الغامضة" اقتباساً عن وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس يقول فيه إن "كل السوريين هم حافظ الأسد"، قال طلاس ذلك عام 1980 في 11 مارس أثناء حديث على الراديو، إبان ظهور الإخوان المُسلمين، لكن، ماذا يعني أن يتطابق "الجميع" مع شخص واحد، مع صورة شخص واحد بشكل أدقّ، صورةٍ منتشرة في كلّ مكان، تبنّيها يعكس السلطة والخضوع للقانون والقدرة على إنتاج "النظام العام" من قبل أي شخص.

كأنّ صُورةَ السيدّ تلك التي تتطابق مع "شكله" تظهر حين يواجه تهديدياً، فتسعى موضوعاته للتطابق معها لضمان انتمائها وحمايتها لنفسها، هذه "الصورة" السياسيّة، القناع، الذي يمكن تبنّيه عبر الطاعة وإنتاج "الأسد"، يُشابه القناع الرومانيّ الشمعي "Imagines" أو قناع الموت، قناع الأسلاف الجنائزي، الذي يتطابق مع صورة "الميت" ذو السلطة، ويمكن تناقله بين المنتمين لذات الأسرة.

 قيمة هذا القناع السياسية تكمن بأنه لا يظهر فقط في الجنازة بل أيضاً في مجلس العموم، أي يتم استعراضه، ويكتسب المنتمون له ذات السطوة السياسيّة التي كان يمتلكها الجسد الأصلي. هذه الأقنعة تُصنع أثناء حياة "الميت" وترتبط بالجاه والمكانة السياسيّة، وحين موت صاحب القناع، وأثناء العزاء، يرتدي "ممثلون" القناع و"يؤدّون" النحيب والطاعة استمراراً لجاه من رحل وسطوته، وكأنهم جميعاً "يؤدّون" دوره أمام أعين بعضهم البعض، يتطابقون معه رافضين رحيله.

لم يصل لنا من الحقبة الرومانيّة أي واحد من تلك الأقنعة، هناك فقط وصف لها، لكن، يقال إن نيرون، قيصر روما، كان مؤديّا مسرحياً، ومن عشاق الاستعراض، وكان يرتدي قناعاً يتطابق مع وجهه حين يؤدّي أدوار أوديب الأعمى، أو هرقل المجنون أو أوريست المفجوع. نيرون، السيّد، السلطة العليا، يؤدّي دور نفسه عبر قناع سياسيّ حين "يلعب"، وكأن أي شخصيّة ولو متخيّلة، يجب أن تنتج السيد فيما تقول أو تؤدّي، سواء أثناء اللعب أو الجد. 

قناع السيد أشد سطوة من وجه السيد نفسه، وسلطة صورته تمتد في الزمن، متجاوزة حدود جسده الذي يحمل احتمالات الفناء والتلاشي، لكن هل كان نيرون مقنعاً حين ردد كلمات أوديب ناصحاً الجوقة :" صلّوا، لكن إن استمعتم إليّ، ستنالون ما تتمنون، استمعوا إلى ما سأقول، واشفوا أمراضكم، ربما يمكن أن تجدو بعدها حلاً لمشكلاتكم، أتحدث كغريب عن القصة، وغريب عن الجريمة"، أوديب هنا لم يدرك بعد ما فعله، كنيرون الذي لم يكن يدرك ما سيفعله.

التطابق مع صورة السيّد وإنتاجها، سواء كان حياً أو ميتاً، أشبه بارتداء قناع للطاعة، إذ يتبنّي الفرد أسلوب علنيّ لتقديم الذات ورسم العلاقة مع السلطة السياسيّة عبر إنتاج أشد رموزها علنيّة، ولو اختفى جسد السلطة، يبق أداء الطاعة ظاهراً، تزيينيّاً، ولو كان مبتذلاً، الأهمّ، أن الـImagines ، يعني الاعتراف السياسيّ، فمن يفقد قناعه تُهدد مكانته، من يكسر هويته أو يمزق صورة القائد أو يفسد أداء الطاعة، يصنّف كعدو، يحتوى داخل النظام السياسي على الحواف الخطرة.

قناع الساتير: إعلاء قيمة "الانتهاك"

لم يصلنا من المسرحيات الساتيريّة شيء يذكر، وحالياً، لا يظهر الساتيري إلا في مساحات اللعب غير الجديّة والموسومة بالـ"مُعيب"، وكأن تلك الرغبة بالرذيلة ونفي الأخلاق محكومة بالاختفاء، ربما ذات الأمر حصل مع المسرحيات الساتيريّة التي "أٌخفيَت" لفحش محتواها.

يشبه قناع الساتير رجلاً كثيف الذقن، فاتحاً فاه دوماً، ، يصرخ أو يبلع لا يتضح ذلك بدقّة، لكنه يمتلك قضيباً ضخماً يتدلى بين قدميه، المثير للاهتمام أن هذه الأقنعة، لا يمكن أن نميز بسبب شكلها العبد من الحرّ، لا يوجد دليل مرئي على مكانة الساتير السياسيّة، وكأن ذاك الكائن الشبقي، العصيّ على التعريف، عدو الأخلاق والنظام السياسيّ الجدّي، يمكن أن يكون أي أحد، لا هويّة واضحة له، ليبقى أسير المخيّلة فقط، أثره مسموع في ضحكه الذي يتردد، ونكاته الفاحشة.

خطورة قناع الساتير تكمن في مُخيّلته الشبقيّة، ما هو مشتهى لديه يختلف عن التصوّر التقليديّ عن المتعة واللذة، إذ يعيد ترتيب لحم الآخرين في عقله، لا حكايات لديه، بل سلسلة من اللوحات المتصلة يعيد إثرها ضبط إيقاع العالم ليتماشى مع إيقاع مائه، الساتير كالمستمنيّ، أشد الأعداء خطراً على السلطة فاختفى قناعه وراء وجهه، لأنه يراهن على التضخيم والفضح، تحركه الرغبة نحو ما نخشى الإفصاح عنه، هو يدعو الجميع للتشكيك بأنفسهم لأنه بالأصل لا يقتنع بالشكل الظاهر، يرى ما يحصل أمامه "أداءً" و تنكراً، ويدعونا لتخيل ما هو موجود وراء الثياب، وراء اللحم، وكممثلي الساتير، المقنّعين، لا يهم من وراء القناع ولا تصنيفه السياسي، المهم هو حواره مع الغرائز و انتقاده للشكل القائم.

هناك سبب سياسي وراء اختفاء الساتيريّ، ووصمة العار التي تلحق من يمارس فحشه، فالساتيري "ضاحك" نرى فمه بوضوح تنبعث منه القهقهة واللعاب، وهو يدفعنا للانحلال حين ندخل عالمه المتخيلّ، الشهوانيّ والمغري، لكنه أيضاً سياسيّ، كونه يجسد المفارقة بين "القبيح" و"الجميل"، خصوصاً أن هذا القبيح، لا يتألّم حين يمارس عليه العنف، هو دوماً ناج من كلّ ما يحصل، لا يعطي درساً سوى في الترفع عن الأخلاق، وانتهاكها، الضحك وغياب الألم نراه في الأشكال الثقافية المعاصرة، في مقالب توم وجيري، وفيديوهات السادو مازوخيّة، بالرغم من كل ما يحصل من أذى، يمشي بعدها المؤدون دون أن يمسّهم مكروه، يتحول ما مروا به إلى كوميديا، لا "تطهير" فيها.

يشير جون هوبز إلى الإشكاليّة المرتبطة بالضحك الساتيري، إذ يرى أنه يمنح الضاحكين "مجداً مفاجئاً" ونشوة عبر إبراز عيوب الآخرين وفحشهم الشديد، فالساتيري الشهواني يُضخم "أذيّة" الآخرين وقد يتبناها لمتعه الشخصيّة، لكن، كيف "نرى" هذا الساتيري الآن، المضحك، المستمني، الشبقيّ، الذي لا يتألّم، هو بلا قناع، بلا أي علامة، حتى فمه المفتوح متلاشي وراء الكمّامة، يمكن تتبع "أثره" في المواقع الإباحيّة عبر التعليقات والفيديوهات الهاوية التي يتلاشى فيها "الوجه/القناع" خوفاً، ونرى فقط الأداء المبالغ به وأشكاله ضمن سياق اللعب.

القناع السينيكي: مفارقات المزاح المُفرط

نستعير معنى كلمة سينيكي هنا من إيرفينج غوفمان، والمقصود شكل من أشكال تقديم الذات، الذي لا "يصدّق" خلاله الفرد ما يقدمه للآخرين من أداء، ولا يعنيه إن صدّقو أو لا، السينيكيّة هنا ترتبط بامتياز يظن الفرد أن يمتلكه، وهو عدم أخذ شيء أو من حوله على محمل الجدّ، السينيكيّ يحطّم جديّة مخاطبه، يهزأ من حججه ومن الإطار الذي يقدّم نفسه ضمنه، نرى هذه السينكية مثلاً في حوار قرآني بين النبي إبراهيم ومن يقال إنه نمرود الجبار:

- قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.

- قَالَ (نمورد): أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ !

رد نمرود متسرع، ساخر، يستخف بـ"النبي"، ليهدد إطار "المعجزات" الذي أتى به إبراهيم، ينفي السينيكي الصدق، ما يجعله دوماً مُهدّداً، إذ يمكن أن تتلاشى حجته و منطقه بسبب سلوكه ذات، كذلك هو يستطرد بالمسلّم به، يدور حوله، يسائله، لماذا تهتز طاولة المطعم دوماً ؟، لماذا يتألّم البعض بصوت عال والآخر منخفض؟

تخلط أسئلة السينيكي التراجيدي مع الكوميديّ، تفكك الجدّية وتطرح سؤالاً لا يمكن الإجابة عنه، صديق لي كاتب وناقد ثقافي، سألني مرّة : "في كل مرة أرى صور الجثث على الشاشة، أحاول معرفة نوع الثياب الداخليّة التي يرتديها الضحايا، وهل مات واحد منهم بذَكر منتصب؟"

يتلاعب السينيكي بالآخرين والإطارات التي يقدّمون فيها أنفسهم، وفي هذا مُتعة ناتجة عن اضطرار الآخر أخذه على محمل الجدّ بالرغم من عدم جديته، ربما هناك فائدة ما من اللاجديّة أو من الأداء الساخر، لكنها تظهر في بعض الأحيان كمسافة عميقة، بين الأنا وتلك النقطة العميقة التي تؤسس للوعي، هي عدم يقين بجدّية ما يحصل بسبب إدراك عيوب العالم، وكأن السينيكي على علاقة وطيدة مع الموت، لا ذات حقيقية أو شكل حقيقي قادر على جعله "يصدّق" ما يحصل من حوله.

لا يقيم السينيكي وزناً لشيء، يقبل العالم بشكله الحالي، هو متصارح مع العيوب الحاضرة، ويستخف بها فقط، و يتهكم من المفرطين في جدّيتهم، لأن قيمة ذاته نفسها مهددة، كونه لا يراهن على صدقه أو صدق الآخرين، بل على المفارقة التي يخلقها معهم، هو قادر على التبدّل والتغير حسب "الإطار" الذي يظهر ضمنه، القناع السينيكي غير موجود بوضوح، يتطابق مع الوجه والأداء العام، نكتشف عبر أسئلة غريبة ومفارقات منطقيّة تلوّح في جوهرها للموت، استخف الملك لير بجواب كوريدليا حين قالت أنها تحبه فقط، ولا تمتلك شيئاً لتضيفه، المأساويّة تكمن بالمفارقة والحيرة حين محاولة تحديد هوية الصادق من الكاذب، في الفصل الأخير نقرأ علامة إخراجيّة تقول: يدخل الملك لير مرة أخرى وكورديليا ميتة بين يديه، وأثناء نحيبه يسألها: "ما الذي قلتيه ؟"، يريد لير أن يستمع الآن، أدرك أن استخفافه بكورديليا و"لا جديّته" أودت بحياتها.

استُخدم "القناع" السينيكي كأسلوب للسخرية من رجال السلطة، والتهكم من أوجههم المتعددة والجدّية المحيطة بهم حتى لو كانوا يهذرون، الوجه نفسه تحول إلى قناع ساخر، نعلم أن وراءه حقيقة ما خفيّة، و ما نراه علناً ليس إلا أداءً من نوع ما، هذه "الأوجه" نراها في رسومات و كاريكاتوريات الفرنسي أونوريه دومية التي تعود للقرن التاسع عشر، ونلاحظ حين تأمل الرسوم أنه جعل الملك مشوهاً في منتصف الأقنعة خوفاً من الرقابة، وحوله رجال المجلس العمومي، المثير للاهتمام أنه لم يحاول فقط التقاط معالم وجوههم، بل أيضاً تعابير مختلفة رسمتها ملامحهم، هذه التعابير نستخدمها حتى الآن حين "نؤدّي" في سياق ما، ونحاول إخفاء ما نشعر به حقاً، ألا وهو استخفافنا بالقائل، هي نوع من الألعاب الاجتماعيّة غير اللفظية، نفصل فيها ما نقول عن حقيقة ما نريد قوله.
 

Masks of 1831, 1832 - Honoré Daumiere