هناك ناحية في حياة الثوار يصر الروائي أنطونيو سكارميتا على التقاطها برهافة في روايته، وهي تعلقهم بالنصر، إن حياتهم بالكامل مرهونة بانتظار النصر، فنقرأ في رسائل الثائر الشاعر ليونيل مخاطباً حبيبته فيكي: "أفكر دائماً بأنني سألقاك بعد النصر. كنت أتخيل نفسي بينما أدخل ليون بحقيبة ظهري ممتلئة بالزهور،
ضمن إطار مشروعه الروائي في تناول اللحظات المفصلية في الثورات الشعبية على الديكتاتورية في مجموعة دول أميركا اللاتينية عموماً وليس بلده تشيلي فقط، تأتي رواية «التمرد» لأنطونيو سكارميتا، والتي تدور أحداثها في مدينة ليون في نيكاراغوا، وذلك خلال الأسابيع الأخيرة التي سبقت التمرد النهائي الذي أدى لإسقاط الحكم الديكتاتوري للرئيس سوموثا، حيث كانت المدينة منقسمة بين أغلبية مؤيدة للمتمردين، وأقلية من المنتفعين من نظام الحكم بالإضافة إلى القادة العسكريين المؤيدين لحكم الرئيس ساموثا.
في الرواية التي تصدر قريباً عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، يختار الروائي بعناية حكايات مدينة وقصص مجتمع يعيش تراوحاً بين: الديكتاتورية، التمرد، الصراع الأهلي، الحرب. فيفتتح الرواية بحكاية ثانوية عن ساعي البريد ساليناس، الذي يضطر وفق حقيقة أن 60 % من المجتمع أميين، أن يقرأ الرسائل التي يسلمها إلى أصحابها. في الماضي، كان حضوره إلى الأحياء يعني وصول الحكايات والأخبار فكان يستقبل بالترحاب وتقديم الأطعمة له وبالتجمعات. منذ بدأ التمرد المسلح، فإن الرسائل التي تصل تحمل فقط أخباراً عن الموت. لقد تحول ساعي البريد ساليناس من صاحب الحكايات والأخبار إلى مرسال الموت لأهالي المدينة. هكذاً، بحكاية لماحة، يضعنا الروائي في أجواء القسوة والمعاناة التي يعانيها المجتمع في حال الصراع الأهلي.
ما نلبث في الصفحات التالية أن نطالع رسالة كتبها أسقف المدينة مانويل إسبينوزا إلى رئيس الجمهورية سوموثا. تعرفنا هذه الرسالة على آثار الحكم القمعي والحروب على المجتمعات. يشكو القس أن المدينة أصبحت محتلة من قبل فرق الجيش التي تجوب الشوارع وتزرع الرعب: "سيدي الرئيس، لتضع نهاية لكل هذا الألم. هناك الكثير من البيوت تبكي على فقدان المحبوبين. إن الوطن يفقد رجال الغد. سيكون لدينا وطن دون وجهة أو بوصلة. باستمرارنا على هذا الحال سيسود الموت".
يوزع الكاتب شخصياته الروائية على طرفي المعادلة السياسية في مدينة ليون في تلك الفترة، فالبعض منهم كالعقيد والمقدم ينتمون إلى الحرس الوطني المدافع عن بقاء الرئيس، والقسم الآخر من الثوار أو المتمردين. وكما في كل حكايات الصراع الأهلي، أو الصراع بين السلطة والمتمردين، فإن أفراداً من العائلة الواحدة سينقسمون بين معارضة موالاة. وهذه حكاية الأسرة التي نتابع شخصياتها في الرواية، فيتركز هذا الانقسام في حياة الفتاة الساحرة ومن ثم المناضلة السياسية فيكي، التي ينضم أخوها أجوستين إلى الخدمة العسكرية، بينما يقاتل حبيبها ليونيل على الجبهة المقابلة من طرف الثوار المتمردين.
" انتهز الفرصة وارقص
لأنهم سيسلخونك
إن لم تذهب إلى المعسكر
سيذهبون بحثاً عنك".
من أغنية الجندي، كلمات آندي فيكو، غناء فريق رامبلرز
في مسرحية «حبك نار» للمسرحي السوري مضر الحجي، تحاول الحبيبة إقناع حبيبها بالفرار من الخدمة العسكرية، ما يجده قراراً مضراً بمصيره ومصير عائلته. كذلك في رواية «التمرد» يحاول الأب أنطونيو المتعاطف مع المتمردين، بإقناع إبنه أجوستين بخلع البدلة العسكرية والالتحاق بالثوار. لكن أجوستين يقدم حججه، فأغلب الرجال في البلاد بدون عمل، ولا يمكن للأهالي تأمين الحياة المناسبة لأولادهم الذين يلجأون لوظائف حمل السلاح والقتال والتطوع في الحرس الوطني. هكذا يكسبون رزقهم وقوتهم، ولكن بالآن عينه يكونون الوقود لاستمرار الاقتتال وبالتالي إفقار الشعب. إن الروائي يبين لنا أن كلاً من طرفي الصراع السياسي المسلح يملك براهين وضرورات نابعة من رغبتهما في العيش والاستمرار على قيد الحياة.
إن قوات الحرس الوطني المدافعين عن الرئيس الحاكم، هم ليسوا إلا أدوات في يد السلطة القمعية، وأنطونيو سكارميتا يتقصد في الرواية أن يرسم هذه الصورة، لذلك يذكر في نصه الروائي لقاءً بين الرئيس سوموثا وصحفي أميركي، يسأل فيها الصحفي: "إن جاء الحرس الوطني وقال لك، سيدي الجنرال، يجب أن ترحل. هل سترحل؟"، فيبتسم الرئيس ويرد بإيجاز "لا"، يسأل الصحفي: "ألا يمكنهم إجبارك على الرحيل؟"، يسأل الرئيس: "ألا يمكنني استخدام القوة ضدهم؟".
بالإضافة إلى السرد، يشكل الكاتب نصه الروائي من رسائل، ومن فقرات مأخوذة من كتابات مؤلفين آخرين، فالفصل 6 مستوحى من نص أرييل دورفمان، وفي الفصل 19 نقرأ قصيدة "بعد الكمين" من كتابة إيفان جيفارا، والفصل 25 مقتبس من بابلو نيرودا. لكن الرسائل التي يكتبها الثائر، المقاتل، والشاعر ليونيل إلى حبيبته فيكتوريا تشكل القسم الأكبر من النصوص الشعرية في الرواية.
في رسائله يروي الثائر ليونيل عن العلاقة مع فعل القتل: "اعتدتُ على إطلاق الرصاص، لكنني لا أريد أن أرى بعد ذلك إن كنت قد قتلت شخصًا ما". كذلك يروي عن العلاقة مع الموت: "أخاف الموت لأني أريد رؤيتك مجدداً". تزخر هذه الرسائل بفقرات مكثفة من التعابير العشقية التي يبرع أنطونيو سكارميتا في الكتابة عنها: "لم أعد أحلم أو أتمنى أي شيء الآن. أود رؤيتك اليوم، أود أن أكون قد رأيتك بالأمس. لا يهم إن كان سوموثا ما يزال في الحكم، لا يهم أن ينتشر الموت حولنا وينمو مثل الأعشاب البرية. أود رؤيتك، أن أُقدم لك نضالي، على الرغم من أنني لا أحمل لك النصر".
أجوستين المنتمي إلى الحرس الوطني يهرب من الخدمة العسكرية فيقبض عليه ويسجن عقاباً له في المعسكر، هناك يتساءل عن مصيره لو احتل الثوار المعسكر بينما هو ضحية مسجونة فيه. في فيلم «اشتباك»، 2016، للمخرج المصري محمد دياب نتابع حكاية مجموعة من المصريين منقسمي الآراء السياسية لكنهم احتجزوا معاً من قبل قوات الأمن في سيارة اعتقال عسكرية. داخل السيارة المغلقة بالحديد تتلاقى مصائر معارضين وموالين، إخوانيين ومعارضين للإخوان، يرتبط مصيرهم بمصير هذه السيارة التي تعتقلهم، فكلما اختلف الانتماء السياسي لسائقها تبدلت مصائرهم بين الحياة والموت. كما الحبكة في هذا الفيلم، يخلق سكارميتا تخيلاً عن الجندي المعتقل أجوستين، الذي يتخيل: ماذا لو انتصر الثوار في اللحظة التي ما يزال فيها معتقلاً كجندي في الحرس الوطني؟ إن مصيره وحكايته متأرجحة بالصراع المسلح الدائر في البلاد.
يرصد المؤلف مجموعة من المشاهد التي تدلل على التعامل القمعي للحرس الوطني مع الأهالي في مدينة ليون، تتم عملية اغتصاب فيكي، يعتقل الأب أنطونيو بسبب فرار ابنه من الخدمة العسكرية، يتم تدمير الكنيسة وبرجها بعد أن يرفع الثوار عليه شعارات متمردة. في هذا الفصل، يطلعنا الروائي على طريقة تفكير العقيد ثيفوينتس قبل القيام بعملية اقتحام للأهالي العزل المتحصنين داخل بناء الكنيسة: "راجع تشكيل رجاله. مدافع بونتو 50 الموجودة تحت إمرة ثيفوينتس في الشاحنات بدت له درعًا رائعاً يتيح له الدخول كفارس من العصور الوسطى إلى الحلبة، مغطى بالذهب، يشعُ رصاصات، بريقها فقط يجعلها كرماح تُخضع الشعب دون حاجة لأدوات ردع مُعقدة".
هناك ناحية في حياة الثوار يصر الروائي أنطونيو سكارميتا على التقاطها برهافة في روايته، وهي تعلقهم بالنصر، إن حياتهم بالكامل مرهونة بانتظار النصر، فنقرأ في رسائل الثائر الشاعر ليونيل مخاطباً حبيبته فيكي: "أفكر دائماً بأنني سألقاك بعد النصر. كنت أتخيل نفسي بينما أدخل ليون بحقيبة ظهري ممتلئة بالزهور، وجيوب السترة والبنطلون مترعة بالقصائد، أعانق أهل البلدة، وحينئذ تظهرين بين الجموع وتقبلينني بقوة في فمي، تدخلين لسانك كله بين لثتي وشفتي. لكن النصر يتأخر. ذلك النصر حتى الآن ليس سوى أيام كاملة أمضيها في نوبة الحراسة بجانب البحيرة دون أن أراك".
كذلك تزخر الرواية بتعابير أخرى ذهنية ونفسية عن حالة انتظار النصر: "أن يكون للنصر يوم في التقويم، فقد بدا لهم بديهياً وعصياً على التصديق". وفي نهاية الرواية، ينجح الثوار في دخول المدينة وإنهاء الحكم القمعي للرئيس سوموثا، فيعبر الكاتب سكارميتا عن ذلك بعبارات من قبيل: "شمس الشروق لم تعد غواية".
لكن النصر وهمٌ في الصراعات الأهلية، فرغم انتصار الثوار على الحكم في نهاية الرواية، إلا أن الشخصية الأساسية فيها، والتي يتعاطف معها القارئ على طول الرواية، أي أجوستين، والذي ترصد الرواية تحوله من الموالاة إلى التمرد يقتل بالنزاع المسلح الأخير قبل دخول الثوار إلى المدينة. وللتأكيد على أن النصر وهمٌ في الصراعات الأهلية، ينهي الروائي روايته بحكاية أم تظهر فقط في نهاية الرواية، لتروي لنا كيف التحق ابنها بجبهات القتال، وكيف انتظرت عودته أياماً وأياماً، ثم أمضت عمرها وهي تبحث عنه في المعسكرات والسجون والمستشفيات. إنها صفحات عن مأساة أم فارقت ابنها لانضمامه إلى الثوار ليعود جثة، فتصر الأم على أن تقام جنازة ابنها على أصوات اسطوانات الموسيقى لأغان أحبها ابنها مثل "قبر المحارب" و"الشعب المتحد".
في الأرجنتين، يكتب خورخي بورخيس عن أمهات الشبان المختفين قسراً أثناء فترة حكم الجنرالات العسكري، ويروي كيف اعتصمن أمام المقار الحكومية والعسكرية للمطالبة بأبنائهن المختفين. وقد شن الحكم العسكري في الأرجنتين على تلك الأمهات حملات تشويه، أطلق عليهن لقب "أمهات الوهم"، لوصفهم بالأمهات اللواتي حملن وهماً ولم يملكن أبناءً من قبل، وإنما كن واهمات. يصور سكارميتا في نيكاراغوا هذا النوع من الأمهات، إنهن أمهات المختفين قسراً، واللواتي تنتشر صرخاتهن من نيكاراغوا إلى كامل مساحة الوطن العربي، تهتفن أمام الأنظمة القمعية: نريد أبناءنا أحياءً، وليس أمواتاً.