تعرف في سورية تلك الطبقة المتعلقة بصناعة الإنتاج الدرامي والمسلسلات. عبر حكايته ابنة عمه لبنى الساعية إلى الشهرة، تدخل قصة "ضريبة الشهرة" إلى ذلك الحيز الإجتماعي-الفني. غالباً ما يتحدث المؤلف عن هذه الفئة بربطها مع الفساد، المزاوجة بين الطبقة السياسية الحاكمة وبين الطبقة البرجوازية المتحالفة والمستفيدة.
في افتتاحية مجموعته القصصية الثالثة «كتاب الحكمة والسذاجة» (٢٠١٩، ممدوح عدوان للنشر والتوزيع)، يتساءل عدي الزعبي: كيف يكون الأدب ساذجاً؟ ويقدم قصيدة (العالم، جيسواف مييوش) كنموذجاً على ذلك: "فالقصيدة تتوزع على موضوعات ثلاثة: الأشياء كالدرب والبوابة والدرج، والأفكار المجردة كالحب والخوف والأمل، وحكاية عائلة تعيش الحرب. كلها ساذجة، بالطبع تملؤها المحبة والبساطة، والحنكة تكمن في مزجها المدهش، سحر خالص يعبث بنا بخبث"، هذه المواصفات الموضوعاتية والفنية والسردية نتلمسها بوضوح في القصص الإثنا عشر التي قدمها القاص في المجموعة القصصية.
في قصة "ملكة الأبراج" يحاول الراوي المنفي استعادة حكاية من مراهقته. يتساءل عن الأسباب التي جعلته لعوباً ساخراً وقاسي القلب مع حبيبة قديمة تؤمن بالأبراج. لقد سخر منها بقسوة، وأطلق عليها لقب ملكة الأبراج لإيمانها بالأبراج والغيبيات. الآن، بعد 15 عاماً، تتالى الأسباب في ذهنه عن دوافع ممارساته وتصرفاته في مرحلة الشباب. لقد كان تقدمياً علمانياً، يسارياً نيتشوياً قاسياً في نقده لفكرها الغيبي. لكنه الآن، بعد النضوج وبعد الثورة، أصبح لكل شيء تقييم آخر، واكتسبت أكثر الذكريات تفاهةً أهمية استثنائية بينما الراوي يعيش في المنفى. إنها حكاية تنطلق من الذاكرة التافهة لتبين أهميتها بعد النضوج وبعد عيش التجارب، حيث تصبح تحليلات سلوكيات المراهقة بأهمية استثنائية لشعور الذات المنفية باستمراريتها.
قصة "الفيديو الذي أبكى الملايين" تنطلق أيضاً من حدث أولي سطحي، وهي رغبة المصور محمد أن يطلع الممثل سامر وأصدقاءه الثلاثة على الفيديو الذي صوره وأبكى الملايين. وبينما تجري المحاولات لتشغيل الفيديو، تمر الحكاية على كامل حال اللاجئين السوريين في غازي عنتاب التركية. حيث نتابع نقص التمويل للجمعيات الإغاثية، الفقر المقدع للعائلات، المعاناة التي يعايشونها جراء فقدان أبنائهم في الحرب. وكأن حال اللاجئين السوريين هو الفيديو الذي أبكى الملايين والذي لم يٌشاهد في القصة.
يبحث القاص في عدد من القصص على بنى فكرية من الثقافة الشعبية ليبين المفارقة التي تعيشها، بين أفكارها وبين الواقع السياسي والإجتماعي من حولها. في قصة "اليهود يحكمون العالم"، نقابل شخصية مصلح السيارات أبو محمد المقتنع أن اليهود من يحكمون العالم، بينما يعيش القمع والتعدي من قبل قبضايات المنطقة أو المسلحين فيها على أطراف مدينة دمشق، يتهجمون عليه وعلى طفل ابن أخيه، ويشتمونه ويلعوننه بمهانة، يستمر أبو محمد بالإعتقاد بأن اليهود هم المسؤولين عن زرع هذه السمات بالبشر، بينما هو يعاني الظلم من أبناء حارته.
كذلك قصة "قسمة ونصيب" تبين الشروط الطائفية، الدينية، الإقتصادية، والسياسية، وكذلك المعوقات العنصرية لكي تتم عملية زواج بين ثنائي في المجتمع السوري، بينما يردد الجميع قناعة ان الزواج هو "قسمة ونصيب". من خلال حكاية خالة الراوي، نتابع صعوبات زواجها من فلسطيني لأسباب سياسية، من سائق لأسباب اقتصادية، وغيرها من المعيقات التي تتم عملية زواجها، بينما الفكر الجمعي الذي يحاول القاص اقتناصه، وتبيان مفارقاته هو الذي يكرر العبارة الثقافية ذاتها: قسمة ونصيب.
في قصة "بحث كرة الشحم عن ذاتها" شريحة من واقع حياة الأنثى السورية في العشرينيات من عمرها ضمن الواقع الحالي. حكايات القصة تطلعنا على حالات اختطاف، اغتصاب، زواج بالإكراه، محاولات السفر، وجوانب من حياتهن اليومية المتعلقة بالبدانة والشكل والأكل. إنها رصد لحكايات شخصيات أنثوية تتدخل السياسة والواقع الإقتصادي رويداً رويداً في حياتهن، بينما هن لا يملكن الإدراك الكافي للتغير الجاري من حولهن. إنه دخول السياسي والإقتصادي إلى حياة شخصيات دون أن تمتلك الوعي الكافي لإدراك تأثيره.
المفاهيم ذاتها مجتمعة نقابلها في قصة "قضاء وقدر"، بينما فقدت الجدة حفيدها قيس تحت التعذيب، لكنها ما تزال تؤمن بأن الحدث وقع قضاءاً وقدراً. في مسرحيته "المغنية الصلعاء" يبرهن المسرحي "يوجين يونيسكو" أن اللغة الإجتماعية تستولي على الفكر دون أن يعي مفرداته. في قصة "قضاء وقدر" يرصد الكاتب الفجوة بين واقع الشخصيات السياسي والاجتماعي وبين اللغة المستعملة لتعبر الشخصيات عن ذلك. إن الشخصيات تردد "قسمة ونصيب، قضاء وقدر، اليهود يحكموا العالم"، دون الوعي أن هذه العبارات الجاهزة في اللغة، تمنعهم من إدراك الواقع من حولهم. إنها بنى الثقافة الإجتماعية التي ترصدها قصص المجموعة.
في قصة "كافكا في الهافانا" يرصد المؤلف عبر المقهى الدمشقي المعروف في وسط العاصمة واقع الشعر والثقافة عبر حكايات شخصيات المقهى خلال إقامة معرض الكتاب في المدينة.
الأسلوب السردي تقريباً موحد في نصوص القصص السابقة، لكن في قصة "هوتيل كالفورنيا" يدخل صوت السارد في القسم الثاني من القصة ليخاطب القارئ مباشرةً، يخبر الكاتبُ القارئَ عن رغبته في تأليف حكاية عن ثنائي سوري عاشق يلتقي في استانبول، كلاهما في الثلاثينيات وهما يحاولان ممارسة الجنس للمرة الأولى، يخبرنا الكاتب أنه استلهم القصة من قصيدة الشاعر الشهرزوري، التي يدمجها المؤلف في النص، فتتجاور واحدة من أجمل قصائد الشعر العربي الكلاسيكي، بواحدة من أكثر أغان البوب انتشاراً (هوتيل كالفورنيا)، هذي هي المزواجة بين الحكمة والسذاجة في الذائقة الفنية.
تتنوع الشرائح الإجتماعية للشخصيات التي يختارها القاص في مجموعته، لكن الحال السياسي والإقتصادي يجتاحها جمعياً، وكما في مجموعته السابقة (نوافذ) فإن القصص تتجاور لترسم فسيفساء عن حالة البلاد، سورية والمجتمع السوري بين الداخل والشتات. قصة "سامر والوحش" تدخلنا إلى عالم الكتائب المسلحة التي تقاتل في الحرب. ثلاثة شبان كانوا طلاباً في جامعة حلب، تركوا العلم للعمل الثوري. سامر أبرزهم، اعتقل سابقاً وتعرض للتعذيب، ومازالت تختلط ذكريات من طفولته حين كان أبوه يضربه صغيراً وبين ما قاساه من التعذيب. في هذه القصة أيضاً لعب في الأسلوب السردي، فيتألف الفصل الثاني من القصة من نص يعرفنا بشخصيات القصة. كما هي مقدمات التعريف بالشخصيات في النصوص المسرحية.
تتنوع الأمكنة التي يأخذنا إليها المؤلف لرصد الحال السوري، حكايات في دمشق، وأخرى في بيروت، عنتاب واستانبول في تركيا، والدنمارك. هناك قصص مبنية على أساس المكان، كما في قصة "كافكا في الهافانا" حيث المقهى هو العنصر الأساسي في الحكاية. في قصة "سامر والوحش" تتمحور الحكاية مكانياً حول مدرسة في حلب، يصفها الكاتب: "المدرسة قصفها النظام مرتين، مازالت أنقاضها شاهدة هناك على ما كان مدرسة ومستوصفاً للمقاتلين".
تضع قصة "قوانين رياضية" طبقتين اجتماعيتين مختلفتين في مقابل بعضهما البعض، عبر حكاية الأخ حسان الذي يحاول إخراج أخيه من بار في حفل ليلي في دمشق. هكذا يحتك مع طبقة أخرى موجودة أيضاً، هي طبقة الموظفين في المكان. تفتح القصة عن مفاهيم اجتماعية حول العلمانية والدين، حول المركز والهامش، حول القناعات الشخصية والحاجة إلى المال. بينما تتناول في قسمها التالي موضوعة الفساد في المجتمع، عبر حكاية الأخ الأصغر "أنس" الذي يعاني من آلالام فقدان حقه بالمنحة الدراسية في أوروبا بسبب الواسطة. في الوقت الذي تنتهي فيه القصة مع مشهد لتلميذ في الإبتدائية يسعى الوصول إلى مدرسته لإمتحان الرياضيات بكامل اللهفة والإلتزام. تنتهي الحكاية بالصورة التالية: "تنطلق السيارة بصمت، فيما الفتى غارق تماماً في دفتره مراجعاً القوانين الرياضية المحكمة التي لا تتغير، ولا تخطئ أبداً"، كأن المؤلف يقول إن الواسطة والفساد أقوى تجذراً في ثقافة المجتمع من دقة القوانين الرياضية. وأن مستقبل التلميذ الملتزم، آيل إلى الفساد حتماً.
قصة "مدرسة المشاغبين" أيضاً تحمل أسلوباً سردياً مختلفاً أقرب إلى نصوص تيارات الوعي بدايات القرن العشرين مع الثلاثي فرجينيا وولف، جيمس جويس، ويليام فوكنر. هكذا ندخل إلى وعي شخصية شاب انطوائي، لا يحترمه الناس بسبب طيبته، يتحمل التنمر واستغلال الأصدقاء: "لست طيباً مع الناس عادةً، بل أنا انطوائي على العموم، لست اجتماعياً، ولكنني لست عدائياً أيضاً"، وبينما يسعى للزواج من حبيبته، فإنه يجد نفسه مجبراُ إما على السفر إلى الخليج وإما على الإلتحاق بالخدمة العسكرية. حبيبته مهددة بمصير الزواج من رجل كهل غني. هذا الذهن الإنطوائي يدرك رويداً رويداً المشكلات السياسية والإجتماعية من حوله: الطبقية، الفساد، الطائفية. الإحالة إلى مسرحية "مدرسة المشاغبين، علي سليم، 1973" هي توضيح لقيم الفساد، الفهلوية، التلاعب التي تسيطر على الطلاب بدلاً من قيم العلم، والاجتهاد، والمعرفة. في هذه القصة وعي بسيط ساذج يتبين لا أخلاقية القيم الإنسانية من حوله، وذلك في المجتمع السوري المعاصر.
تعرف في سورية تلك الطبقة المتعلقة بصناعة الإنتاج الدرامي والمسلسلات. عبر حكايته ابنة عمه لبنى الساعية إلى الشهرة، تدخل قصة "ضريبة الشهرة" إلى ذلك الحيز الإجتماعي-الفني. غالباً ما يتحدث المؤلف عن هذه الفئة بربطها مع الفساد، المزاوجة بين الطبقة السياسية الحاكمة وبين الطبقة البرجوازية المتحالفة والمستفيدة.
بين مجموعتيه القصصيتين السابقتين (صمت، 2015) و(نوافذ، 2018)، والمجموعة الحالية، يسعى القاص عدي الزعبي إلى بلورة مفهومه عن النص المدعو القصة. فالقصص في مجموعاته الثلاثة تبدو محاولات مستمرة من المؤلف للتحقيق الأمثل لنموذج القصة الأدبية حسب رؤيته، كأنها محاولات مستمرة في تعريف هذا النوع الأدبي وتحقيق الأمثلة عنه. وإن كان القاص قد انطلق سابقاً من مفهوم الصمت أو النوافذ على حياة السوريين، فإنه في المجموعة الحالية أوضح في قدرته على تأليف مجموعة قصصية مبنية على أساس مفهوم محدد، وهو هنا الجدلية بين الحكيم والساذج، بين الذاتي والجمعي، بين العرضي التافه والاستثنائي التاريخي. دوماً في رغبة لتجسيد حياة السوريين المعاصرة.