العزلة التي كسرتْ غزلتَنا... الواقع الثقافي في غزة بعد عام من الجائحة

2021-04-28 02:00:00

العزلة التي كسرتْ غزلتَنا... الواقع الثقافي في غزة بعد عام من الجائحة
Hosni Radwan, Blue Jerusalem, 2020, watercolor on paper, 50 x 40 cm

 تقدم هذه المبادرة التلقائية والعفوية وذات الطابع الشعبوي شكلاً من اشكال الاستجابات الثقافية الهادئة والبسيطة والحقيقية والبعيدة عن التكلّف والاصطناع الزائف والمبالغ فيه الذي يشوب حيز كبير من نطاق الاستجابات والمبادرات. 

واقع الثقافة يطفو على سطح كورونا

منذ أن دخلت جائحة كورونا فلسطين في مارس آذار 2020، شهدت الحالة الفلسطينيّة ولا سيما الحالة الثقافية، حالة من الارتباك والقلق المتصاعدة والتي انعكست بصورةٍ مباشرةٍ على شكلِ الحراك الثقافي وما يتصلُ به من أنشطه وفعاليات ومهرجانات ثقافيّة، كانَ يُحضّر لها منذ بداية العام، حيثُ عطلّت جائحة كورونا أكثر من 100 نشاط ثقافي فلسطيني، أهمها "بيت لحم عاصمة الثقافة العربية" للعام 2020، بالإضافة إلى معرض فلسطين الدولي للكتاب ومجموعة من المهرجات والفعاليات الثقافية التي تنفذها المراكز الثقافية بصورة سنوية، حيث توقف 26 مهرجان ثقافي سنوي وتعطلّت 457 مؤسسة ثقافية بشكلٍ كبير هذا يعني مزيداً من الضرر للقطاع الثقافي المتضرر أصلاً، وأن عدداً كبيراً من الفاعلين الثقافيين والفرق المستقلة توقف عملها بصورة مفاجئة. 

يعاني القطاع الثقافي في فلسطين من جملةٍ مشتبكةٍ ومركبةٍ من مشكلاتٍ قديمة، ساهم السكوت عنها خلال السنوات الماضية، في أن تصل إلى منطقةٍ أكثرَ تعقيداً، تجعلُ من مهمةِ الحديث ِعنها وتفصيلها مهمةً شاقة، فبحسبِ تقرير مركز الإحصائي  الفلسطيني المركزي، فإن عدد المؤسسات الثقافية العاملة في قطاعِ غزة والضفة الغربية بلّغ في العام 2018، 597 مركزاً ثقافياً، يوجد منهم 528 مركزاً في الضفة الغربية مقابل 69 مركزاً في قطاع غزة، في حين بلغ عدد المراكز الثقافية العاملة في عام 2017 625 مركزاً يوجد منهم 545 في الضفة الغربية و80 في قطاع غزة، وهذا يعني أن 28 مركزاً ثقافياً توقفت عن العمل في القطاع الثقافي خلال عاماً واحداً فقط، تفتح الفجوة القائمة دائرة السؤال واسعاً، وتشير إلى حجم المشكلات وخطورتها.  

وفي الآونة الأخيرة دفع وباء كورونا هذه المشكلات دفعةً واحدة لتطفوا على السطح، بطريقةٍ لا تسمح هذه المرّة في غض الطرف عنها. 

العزلة التي كسرت الغزلة

في غزّة إلى جوار المُشكلات والأضرار السابقة، تُضاف حالة العزلة الجغرافيّة والانقطاع عن الأخر، التي بدأت منذُ ما يقارب خمسة عشر عاماً، هي عمر الحصار المفروض عليها، والّذي منعَ مراراً وتكراراً حُضورها الفزيائي في الكثير من المشاهد الثقافيّة. لعّل من أهمها معرض فلسطين الدولي للكتاب والذي مُنِعَ جزءٌ كبير من كُتّاب غزة ومثقفيها من حضوره في العام 2018، أي قبل دخول الوباء إلى فلسطين. 

كان ومازال مُثقفو غزة  وكُتابها والمنشغلون بالفعلِ الثقافي فيها الأقل تضرراً من حالة الانقطاع والعزلة التي عاشوها بالفعل خلال ما يزيد عن عقدٍ من الزمن، ما جعلهم أكثر قدرة على صناعةِ البدائل والانسجام مع متغيرات الظرف الطارئ، ففي الوقت الّذي كانت في المشاهد الثقافيّة في العالم تتجه نحوَ البديل الرقمي لتجاوز محددات الجغرافيا والقفز عن أسوار الإغلاق التي باتت تتزايدُ في كلِ مكان، كان مشهدُ غزة الثقافي يمارس هذا الفعل، في كلِّ مرّةٍ تتأخرُ فيها تصريحات الدخول أو يتوقفُ فيها عمل المَعبر بصورةٍ مفاجئة، أو تُرفَضُ فيها قوائم بكليتها لاعتباراتٍ أمينّة وسياسية، ودائماً كان الوسيط الرقمي صيغة لضمان التمثيل وسماع الصوت الأكثير تهميشاً واقصاءً. 

في الوقت الذي يكون فيه المنشغلين بالفعل الثقافي مجتمعين حول طاولة مستديرة في عاصمة من العواصم أو على هامش فعالية ثقافية هنا أو هناك، كان ثمة ناشط ثقافي غزي يشارك عبر الوسيط الرقمي ويُشاهد ويُسمَعُ عبرَ أجهزةِ الحاسوب. يقول محمود الشاعر وهو كاتب وناشط ثقافي ورئيس تحرير "مجلة 28" العاملة في غزة، في الإجابة عن سؤال كيف ساهمت عزلة كورونا في كسر غزلة الحراك الثقافي في غزة وفتح اتصال جديد مع الأخر البعيد الّذي يعيشُ بعد الجائحة نفس حالة الانقطاع والغزلة؟

" لقد كسرنا من خلال التكنولوجيا عزلنا الإجباري بسبب الجائحة، وفتحنا من خلال الاتصال الرقمي قاعات ومنصات ليس للتواصل فقط إنما لاستكمال برامج وممارسات كُنّا ننظمها في الغرفِ المُغلقة والمساحات الفيزيائيّة المُختلفة.

اختفت الحواجز والمطارات والمعابر والحدود الجغرافية، وصرنا جميعاً في فضاء رقمي حُر، وهذا في لحظةٍ ما جعلَ من مشهدنا المُحاصر في قطاع غزة منذ 14 سنة مشهداً حاضراً يُعبّر عن نفسه كما الجميع في المساحات الرقميّة، وصارت الحالة الثقافيّة في قطاع غزة مشهداً مُعاصر لجميع التجارب الفلسطينيّة بشكلٍ خاص والعربيّة كمشهدٍ عام" 

الحقيقة أن العزلة التي خلقتها الجائحة والعزلةُ التي خلقها ويَخلقها الحصار والعزلةُ التي يَخلقها السجّان هي واحدة من حيثُ كونها حالة من حالات الانقطاع عن لقاء الآخر بوصفِهِ كائن حي، وليس صيغة رقميّة يقوم الحاسوب بإعادة تقديمها عبرَ الشاشة، والإنسان "الكائن الاجتماعي بطبيعة" كما يقول ابن خلدون في مقدمته، يحاول بكل ما يستطيع أن يُحدِث فجوات في جدرانِ الوحدة والانقطاع عن الأخر الّذي يُحيطُ به، الأخر الّذي يُمكنهُ أن يرى نفسَهُ من خلاله وأن يشعرُ بذاته النامية والمشتبكة والموجودة في نطاق الحضور والفعل والذاكرة، ومن يستطيع أن يُبرّهن ذلك كلّهُ هو الأخر فقط، لذا تَحدثُ العزلة حين يعجزُ الفرد أو المجموع في حالةِ الوباء الاستثنائيّة التي جعلت المجموع أمام ذات الشعور جملةً واحدة، عن إحداثِ هذه الفجوات كما يشير إلى ذلك جيرسون وبيرلمان (Gerson & Perlman) في تعريفها: "عجز الفرد عن بناء علاقات اجتماعية مصحوباً بإحساس مزعج بعد الارتياح".

الحقيقة أن محاولات المجموع للإحداث فجوة بواسطة الرقمنة في جدار العزلة الضخم الّذي سببته الجائحة، تقابلتْ مباشرةً مع محاولات الأفراد المُنشغلين بالشأنِ الثقافي في غزة، المحاولات المُعمرّة والسابقة زمنياً لإحداث فجوة في جدار العزلة التي سببها الحصار، والتقاء العزلة الصغيرة بالعزلة الكبيرة كسر الشعور بها بالنسبة للفردِ المُنغمس بتفاصيلها ومفرداتها داخل غزة منذُ ما يزيد عن العقدِ من الزمن، يشبه الأمر تماماً أن تَدخل العائلة مُجتمعةً على فردٍ مسجون في حبسٍ انفراديّ منذُ سنوات، فيذوب شعورُ الفرد بالعزلة دفعةً واحدة عندَ دخولِ البقية، الداخلين لتوهم في عزلة جديدة. 

المبادرة الثقافيّة ودحرجة الفعل

وعلى الرغم من أن حالة الوباء أحدثت أولويات جمعيّة جديدة تَمحورّت حولَ الاحتياج الصحي ومن ثم المَعيشي والاقتصادي نتيجة حالات الإغلاق الشامل وما تَرتبَ عليه من ارتفاعٍ مُفاجئ وسريع في صفوف المُتعطلين عن العمل، ظلَّ الاحتياج الثقافي قائماً ومُلّحاً خاصة في مساحةِ الفراغ الهائلة، ساعات طويلة تقضيها العائلات بينَ جدران المَنازل وانقطاع عن الخارج الّذي يُشكّل الثقافي زاوية مهمة منه.

 في منطقة دير البلح وسطَ قطاع غزة، استجابت مكتبة البرامج النسائيّة في المخيمِ لاحتياج الأطفال واليافعين من أصدقاءِ المكتبة، والّذين منعهم الإغلاق من ارتيادهم للمكتبة التي كانت تستقبلهم بصورةٍ يوميّة، استجابت المكتبة العضو في شبكة المكتبات التي تُشرف عليها "مؤسسة تامر" للتعليم المجتمعي لهذا الاحتياج من خلال مبادرة ثقافيّة مجتمعيّة آمنة، هي مبادرة " بسكليت الحارة" البسكليت الّذي أراد له أمين المكتبة أسامة فياض أن يكون وسيلة لإيصال الكتب والإصدارات التي يطلبها الأطفال واليافعين منه عبر صفحة المكتبة في فيس بوك، أن يوصلها من المكتبة إلى بيوت الأطفال في المخيم، ليجوب بعدها أسامة فياض والمتطوعين أزقة المخيم ببسكليت الحارة المُزين بأغلفة الكتب والإصدارات. 

قوبلت المبادرة بالتفاف مُجتمعي واسع، حيثُ وصلَ البسكليت إلى السواد الأعظم من بيوت مخيم دير البلح، وامتدت اصداءها بصورةٍ سريعة في المحافظةِ ككل وحظيت باهتمام ومتابعة إعلامية محلية وإقليميّة ودوليّة، ثم تم تعميم  الفكرة من خلال شبكة المكتبات المجتمعية والعامة التي تعمل معها "مؤسسة تامر"؛ ليتم تطبيقها في كل محافظات قطاع غزة، يقول أسامة فياض مشيراً إلى التدحرج السريع لفعل المبادرة الثقافي "أن المبادرة كانت ليوم واحد وخاص بالأطفال من الأصدقاء المكتبة، لكن الأهالي الأخرين تشجعوا للفكرة وطالبونا بتوسيعها، وكذلك المُجتمع المحلي، لذا أصبحنا مع فريق المتطوعين نخرج يوميا، حتى أن الناس تواصلوا معنا عبر صفحة المكتبة على الإنترنت أو الجوال الخلوي لطلب الكتب والروايات" .

 تقدم هذه المبادرة التلقائية والعفوية وذات الطابع الشعبوي شكلاً من اشكال الاستجابات الثقافية الهادئة والبسيطة والحقيقية والبعيدة عن التكلّف والاصطناع الزائف والمبالغ فيه الذي يشوب حيز كبير من نطاق الاستجابات والمبادرات. 

وفي إطارٍ آخر متصل استجابت "مجلة 28" لاحتياج التئام الذات الفلسطينيّة والعربية، الذات المُبعثرة والمقسمة بين الجغرافيا بواسطة فعل ثقافي مُنفتح وفرّت له المساحة الرقميّة مجالاً خصباً للتوحد والانسجام في إطار رقمي واحد ينصهرُ فيه الجميع بفعلِ حالةِ العزلة والانقطاع التي صنعتها الجائحة، يقول محمود الشاعر "كانت مسألة سهولة الوصول والتنسيق مع الفلسطيني في أي مكان في العالم أكثر من كونها شعوراً بالحرية إلى أنها فرصة للحوار وتبادل الأفكار، جاءت سلسلة حواريات "كيف نقرأ غزة" مُناقشة لفكرة العزلة والحدود ليس فقط داخل غزة إنما من فلسطينيين  خارجها.تبع ذلك الترتيب لحوارية مع الشاعر اللبناني عبّاس بيضون وأُخرى مع الشاعر السوري نوري الجراح والفنان التشكيلي اللبناني سمعان خوام، لقد شكّلت هذه الحواريات اتصالاً للداخل مع الخارج الذي وقفت بينا وبينه الحواجز وممارسات الحصار، واعادة وصل لمشهد غزة مع المشهد العربي" 

بعد عام من الجائحة، من الانقطاع والارتباك ومحاولة الفعل والتأمل في الذات وخارجها، ومن العزلة والاندماج والاختبار للكثير من القيم والمشاعر والمفاهيم، يمكننا القول أن الفعل الثقافي الفردي والجمعي المستقل والبعيد عن المؤسسة اكتسب فرصةً أعلى لتجاوز عزلته، ومجالاً أوسع لاختبار أدواته وقدرة أكثر حضوراً في إيجاد بدائله، أنه فعل مدفوع بالأمل أو لنقل محكوم بالأمل، كما يقول سعد الله ونوس، يأبى أن يظل حبيس خطاب المطلبية، ويحاول أن يحفر بكثير من الايمان في جليد واقعه المتأزم والمهمل.