المفكّر المناهض للكولونياليّة... مقدمة كتاب «الماركسية العربية والتحرر الوطني» (ترجمة)

2021-05-17 20:00:00

المفكّر المناهض للكولونياليّة... مقدمة كتاب «الماركسية العربية والتحرر الوطني» (ترجمة)

انتقد عامل كذلك تصوير إدوارد سعيد لفكر ماركس. فادّعى عامل -كما ادّعى ماركسيّون آخرون- أنّ سعيد لم يُجِد وضعَ اقتباساته المختارة عن ماركس في سياقها الصّحيح في كتابه المؤثّر بعنوان "الاستشراق". بل أهمّ من ذلك، وصف سعيد الفكر الغربي باعتباره جسدًا واحدًا متجانسًا أي مونوليث من دون الإشارة إلى طابعه الطّبقيّ أو تفصيله، وذلك يعود لتجاهل سعيد الأساسَ المادّي الّذي يستند إليه فكر ماركس فيُنكر استحداثاته الثّوريّة.

مقدّمة كتاب Arab Marxism and National Liberation: Selected Writings of Mahdi Amel، كتبها هشام صفيّ الدّين.
 

خاضت حركات التّحرّر الوطني في منتصف القرن العشرين معارك شرسة ضدّ الاستعمار الأوروبّيّ والإمبرياليّة الأمريكيّة، ونشطت فيها جبهة النّضال الأيديولوجي إلى حدّ بعيد. فطرح مفكّرون بميول ماركسيّة -بالتّزامن مع ازدياد عدد دول "العالم الثّالث" الّتي استقلّت سياسيًّا لكن ظلّت تابعة اقتصاديًّا- نظريّات عن "التّأخّر الاقتصادي" (underdevelopment) تحدّوا فيها المفاهيم اللّيبراليّة عن التحديث من جهة والصّياغات المناهضة للإمبرياليّة –لكن القائمة على المركزيّة الأوروبّيّة (eurocentrism)– من جهة أخرى(١).

تسعى ترجمة الكتابات المختارة هنا إلى إلقاء الضّوء على مساهمة الماركسيّ العربيّ مهدي عامل المهمّة في المجال هذا. يُعدّ عامل (١٩٣٦-١٩٨٧) منظّرًا بارزًا في الاستعمار و"التّخلّف" في السّياق العربيّ كما كان عضوًا مخضرمًا في الحزب الشّيوعي اللّبناني في حقبة التّحرّر الوطني. وكتب في مواضيع متنوّعة ووثيقة الصّلة بالنّقاشات الرّاهنة عن العالم العربيّ تتضمّن الطّائفيّةَ والإسلامَ السّياسي والاستشراق والثّقافة والثّورة وارتباط الإرث الثّقافي بالحداثة -استكشفَها جميعَها من خلال عدسة التّحليل الطّبقيّ. نما عامل على الفكر الماركسي-اللّينيني وتأثّر بمدرسة ألتوسير الفكريّة بدون دوغمائية. لكنه كان في المقام الأول، ماركسيًّا مناهضًا للاستعمار. سعى من خلال كتاباته إلى إنتاج نظريّة ماركسيّة تنطلق من الواقع الاستعماري لا الرأسمالي للمجتمع. ففسّر التّأخّر الاقتصادي والثّقافي وفق منطق الواقع الاستعماريّ نفسه. كما تفادى مصطلحات كبلدان "الهامش" أو "العالم الثّالث"، وهي مصطلحات لاتُمَرِكز الواقع ذاك أو ترتّبه هرميًّا وإن ضمنيًّا وحسب. أصرّ كذلك على استخدام مفاهيم كالتّحرّر (liberation)، ما شدّد على مقاومة المستعمَرين الفاعلة والمتطلعة الى المستقبل -أي بدّاه على مصطلح "تفكيك الاستعمار" (de-colonization) لأنّ الأخير يستحضر عمليّة تلقّي (لا فعل) تفترض عودة وهميّة إلى ماضٍ ما قبل-استعماريّ.

مَركزَ عامل التّجربة الكولونياليّة وتجلّى ذلك في تحليله للعلاقة الكولونياليّة. يشكّل الاستعمار نفسَه -في عالم عامل النّظريّ- الأساسَ الموضوعيّ لوحدة النّظام الاجتماعي في الدّولة المستعمَرة كونه يحدّد الإطار التّاريخيّ لتطوّر قوى الإنتاج في المجتمعات الكولونياليّة. هي علاقة شاملة أكثر منها اقتصاديّة بحتة بحيث اندمجت فيها أنماط إنتاج رأسماليّة وما قبل الرّأسماليّة. أدّى الاندماج هذا إلى تبعيّة بنيويّة جديدة، فكتب عامل أنّ كل دراسته "هي محاولة لتحديد نوع هذه التبعيّة، أي شكلها، وهذا التحديد بالذات هو إنتاج مفهوم نظام الإنتاج الكولونيالي."(٢)

ونمط الإنتاج الكولونيالي هو "شكل الرأسمالية المرتبطة ارتباطًا تبعيًّا بنيويًّا بالإمبريالية في تكوّنها التاريخي وفي تطوّرها الراهن أيضًا"(٣). تعمل التّناقضات الّتي تشكّل الصّراع الطّبقي ضمن نمط إنتاج كولونيالي وتحرّكه في مستوى تفاعل للبنيتين الاجتماعيّتين والمترابطتين لكلٍّ من الرّأسمالية (المركز) والكولونيالية (المستَعمَرة). فيخلق ذلك مستويات متعدّدة ومركّبة من التّناقضات(٤).

شرع عامل في عمليّة تبيين السّمات الّتي تميّز نمط الإنتاج الكولونيالي عن نمط الإنتاج الرّأسماليّ، فبنى عبرها معجمَ مصطلحات ومفاهيمَ خاصّة بنمط الإنتاج الكولونيالي. وعدّ عامل ما قد تبدو نواقص مفاهيميّة من منظور الفكر الماركسيّ الكلاسيكيّ تأكيدات نظريّة لخصوصيّة النّظام الاجتماعي الكولونيالي. فمثلًا، عَرّف نمط الإنتاج الكولونيالي تحديدًا عبر عرقلة تطوّره إلى نمط إنتاج كامل. وعَدّ التّقلقل السّياسي في دول "العالم الثالث" بحدّ ذاته – الّذي كثُر استخدامه إثباتًا على ضعف بنية الدّولة أو نَسْبه إلى ثقافة سياسيّة منقوصة- من سمات ظاهرة الاستبدال الطّبقي -لا الثّورة الطّبقيّة- الّتي سادت تحت نمط الإنتاج الكولونيالي وتجسّدت في الانقلابات العسكريّة المتعاقبة أو الحكومات قصيرة الأجل. فأشار عامل إلى أنّ التّقلقل ينبع جزئيًّا من ثبات البنية الاجتماعيّة ككلّ لا ركودها، وذلك لأنّ التّطوّر الاجتماعي مُعرقَلٌ ضمن إطار نمط الإنتاج الكولونيالي. "الاستبدال الطبقي يتم في إطار البنية الاجتماعية نفسها، من غير أن يُحدِث تغييرًا بنيويًّا في نظام الإنتاج الاجتماعي"(٥). أمّا شريحة البرجوازيّة الصّغيرة فنجدها في لبّ استبدال الطّبقات ضمن نمط الإنتاج الكولونياليّ، أي "نقطة المحور في حركة التّاريخ" ضمن البنية الكولونياليّة، لا هامشيّة أو"طُفيليّة" كما يُمفهمها عامل في إطار نمط الإنتاج الرّأسمالي الّذي تطوّر في أوروبّا.

ونرى سمة أخرى لنمط الإنتاج الكولونيالي في الغياب النسبي للتّفارق الطّبقي. لا يُشير هذا اللاتفارُق إلى روابط رأسماليّة لانامية وإنّما إلى محدوديّة بنيويّة في نمط الإنتاج الكولونيالي. لذا يتضمّن الصّراع الطّبقي صراع الطّبقات المستغَلّة على وجودها بصفتها طبقة في المقام الأوّل، "أي كصراع من أجل تحرير الحركة التّاريخيّة لتكوّنها الطّبقيّ. وهنا يكمن تميّز التّناقض [الطبقي] في المجتمع الكولونيالي"(٦). فعلاقة الاستغلال غير مباشرة بحيث تكون طبقة العدوّ الأساسيّة هي البنية الكولونياليّة بحدّ ذاتها بدل طبقة محدّدة. لذا يختلف شكل الصّراع الطّبقي في المجتمع الكولونيالي عن شكله التّقليديّ في الثّورة البروليتاريّة في أوروبّا الرّأسماليّة، فنجد الثّورة الاشتراكيّة جزءًا لا يتجزّأ من التّحرّر الوطني في المجتمعات الكولونياليّة:

النضال من أجل التّحرّر الوطني هو الشّكل التّاريخي الوحيد لتميّز النضال الطّبقي في البنية الكولونيالية. ومن تغيّبت عنه هذه النّقطة الأساسيّة في حركة تاريخنا المعاصر فيحاول استبدال النضال الطبقي "بالنضال القومي" أو حصر النضال الوطني بنضال اقتصاديّ بحت، يفقد القدرة على فهم واقعنا التّاريخيّ وبالتّالي على السّيطرة عليه لتحويله(٧).

يتطلّب التّحوّل إلى الاشتراكيّة -في المجتمعات الرّأسماليّة والمستَعمَرة سواء- قطع العلاقة الكولونياليّة هذه: "إنّ الثّورة ضدّ الكولونياليّة هي الطّريق الوحيد نحو تحرير التّاريخ البشري".

وفي عام ١٩٦٨، قدّم عامل توجّهه الفكريّ بخصوص العلاقة بين الاستعمار والتّخلّف في دراسة رياديّة بعنوان "الاستعمار والتّخلّف"، ونُشرَ جزآها في مجلّة الطّريق، وهي مجلّة سياسيّة فكريّة تصدر عن الحزب الشّيوعي اللّبناني. تُرجمَت المقالتان بكاملهما في الأنطولوجيا هذه(٧). عَنوَن عامل الأولى "محاولة في فهم العلاقة الكولونياليّة" والثّانية "نمط الإنتاج الكولونيالي". سيطوّر عامل أفكاره لاحقًا ضمن نظريّات تتعمّق في نمط الإنتاج الكولونيالي في عمله الأهمّ بعنوان "مقدّمات نظريّة لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التّحرّر الوطني"، وقد نشر جزأيه الأوّلين عام ١٩٧٢ بعنواني "في التّناقض" و"في نمط الإنتاج الكولونيالي"، أمّا الجزء الثّالث بعنوان "في تمرحُل التّاريخ" فتأجّل. في تلك الفترة التي تلت عصر عبد الناصر، رافق صعود النّيوليبراليّة العالميّ في العالم العربيّ انتشار التّيّارات الأيديولوجيّة المحافظة بما في ذلك التّحوّل إلى النّزعة الثّقافويّة. غيّر ذلك وجهة نتاج عامل الفكريّ نحو ما رآها مشاكل ملحّة تواجه الوطنيّة العربيّة. ففي ردّه بخصوص مؤتمر الكويت في نيسان ١٩٧٤ لتباحث الأزمة المزعومة في التّطوّر الحضاري في العالم العربي قرّع عامل البرجوازيّة العربيّة لقلبها أزمةَ حكمٍ تخصّها هي إلى أزمة الحضارة العربيّة برمّتها على هذا النّحو(٩). وزعم أنّ تعارض التّراث العربي الإسلامي المحتَمَل مع الحداثة -وهي فكرة يعتمدها ليبراليّون كثر- هي ذاتَها من مشاكل الحاضر، أي نجد مصدر المشكلة في طريقة تفسير المفكّرين هؤلاء للماضي لا في الماضي نفسَه. فقد استحضرت القوى الإمبرياليّة فكرة التّراث هذا بأسلوبٍ استشراقيّ برّر "المهمة الحضارية" والّتي تبنّتها -لأسف عامل- القيادة البرجوازيّة في حركات وطنيّة عدّة وبصورة مخزية(١٠).

انتقد عامل كذلك تصوير إدوارد سعيد لفكر ماركس. فادّعى عامل -كما ادّعى ماركسيّون آخرون- أنّ سعيد لم يُجِد وضعَ اقتباساته المختارة عن ماركس في سياقها الصّحيح في كتابه المؤثّر بعنوان "الاستشراق". بل أهمّ من ذلك، وصف سعيد الفكر الغربي باعتباره جسدًا واحدًا متجانسًا أي مونوليث من دون الإشارة إلى طابعه الطّبقيّ أو تفصيله، وذلك يعود لتجاهل سعيد الأساسَ المادّي الّذي يستند إليه فكر ماركس فيُنكر استحداثاته الثّوريّة. وارتأى عامل ضرورة لا تقلّ أهمّيّة عمّا سبق في الرّدّ على صعود "الفكر اليومي" المعادي للفكر(anti-intellectual) في الصّحافة، فحدّد ثلاثة تصنيفات أساسيّة من الفكر اليومي في مسودّة نُشرت بعد وفاته بعنوان "في نقد الفكر اليومي" هي العدميّة والظّلامية والبرجوازيّة المتأسلمة.

أنبأت النّزعات المتنامية هذه بتحوّلات أيديولوجيّة في الفكر البرجوازي العربي الّذي نتج عن تطوّرين. كان أوّلهما التّحوّل اللّيبراليّ الّذي عايشته قوى وطنيّة معيّنة في حقبة ما بعد النّاصريّة وثانيهما صعود الإسلام بصفته قوّة في السّياسات العربيّة عقب الثّورة الإسلاميّة في إيران وانتشار السّلفيّة السّعوديّة. تفادى عامل التّفسيرات الّتي تميل إلى النّزعة الثّقافويّة والمثاليّة في نقده للفكر البرجوازي المتأسلم، فارتأى لزوم قياس الطّابع الثّوري أو الرّجعي للإسلام وفقًا لطبقته بدل قياسه وفقًا لطابعه الميتافيزيقيّ: "والكلام عن الإسلام السّياسي بعامة، دون التحديد للطّابع الطّبقي الخاصّ بهذا السّياسيّ فيه -إن كان ثوريًّا مثلًا أو مناهضًا للثّورة، برجوازيًّا رجعيًّا، أو مناهضًا للبرجوازيّة، هو كلام عليه من موقع نظر البرجوازيّة المسيطرة"(١١). لا يكمن التّناقض الأساسي في الإسلام -وفقًا لنظرّية عامل- بين الإيمان والإلحاد بل بين أتباع السّلطة والخارجين عليها. فيترتّب على ذلك أنّ إسلام الطّبقات الحاكمة المُمأسَس -بما في ذلك إسلام الفيلسوف العقلانيّ الأندلسي ابن رشد- هو عثرة في مسار التّغيير الثّوري.

وأثّرت، كذلك، الحرب الأهليّة اللّبنانيّة الّتي اندلعت عام ١٩٧٥ على نتاج عامل الفكري. عاين عامل أسباب الحرب وحلّل الطّائفيّة عبر عدسة التّحليل الطّبقي، ولعلّه المفكّر اللّبناني الأوّل الّذي عرّف الطّائفيّة بصفتها ظاهرة حديثة وسياسيّة وحسب، لا أزليّة دينيّة. فقد أوضح عامل تناقضات الدّولة اللّبنانيّة وأزماتها بصفتها منظومة حكم برجوازيّة وطائفيّة، مؤكّدًا أنّ الطّوائف -على عكس ما يزعم الفكر البرجوازي- ليست أنظمة اجتماعيّة قائمة بحدّ ذاتها. فالطّائفة علاقة سياسيّة محدّدة في نظام سياسي محدّد، أي الطّائفيّة. بكلمات أخرى، الطّائفة شكل من أشكال الهيمنة الطّبقيّة ومحدّد تاريخيًّا وخاصّ بنمط الإنتاج الكولونيالي. وانتقد عامل علاوةً على ذلك جانبًا من الفكر اليساري الّذي وقع في فخّ إعادة إنتاج الفكر البرجوازي اللّبناني أو ترسيخه ضمنيًّا عبر منح الطّوائف حضورًا وجوديًّا مستقلًّا عن العلاقات السّياسيّة.

بل توسّع عامل في المسألة ليكشف عن أكذوبة الاستعارة البرجوازيّة الكامنة في ترتيبات نظام المحاصصة الطّائفيّ. فشرح أنّ "المشاركة" السّياسيّة الّتي تتمتّع بها الطّوائف كانت شعارًا طوباويًّا رفعته فصائل برجوازيّة غير مهيمنة لغرض تحسين مكانتها الطّبقيّة ضمن تقسيمات سلطة طائفيّة. إنّ التّوازن الطّائفي، وفقًا لعامل، غير ممكن من دون هيمنة طائفة معيّنة وحسب، لا عبر مشاركة الطّوائف جميعها. لذا، كلّما هُدّدت الهيمنة طُرحَ الحلّ الفاشيّ لإنقاذ النّظام، وهو ما حاول حزب الكتائب الطّائفي فعله في أثناء الحرب الأهليّة اللّبنانيّة. وأنذر عامل أنّ استبدال منظومة هيمنة واحدة بأخرى -فلنقل سنّيّة أو شيعيّة بمارونيّة- لن يغيّر الطّبيعة الطّائفيّة أو يحلّ الأزمة بل يعيد إنتاجها(١٢).

لم ينجُ عامل من الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، اغتيل في ١٨ أيّار ١٩٨٧. كانت تصفيته جزءًا من حملة قتل نفّذتها القوى الإسلاميّة الطّائفيّة باستهدافها مفكّرين شيوعيّين. مضى ثلاثون عامًا على اغتياله لنرى جيلًا جديدًا من اليساريّين العرب الّذين كبروا في فترة الانتفاضات العربيّة يحيي إرثه في المساحات العامّة وشبكات التّواصل الاجتماعي. ومازالت كتاباته العربيّة تُطبع وتباع. كما منح الاهتمام العلمي مؤخّرًا في الأكاديميّات ودراساتها المنشورة بالإنكليزيّة لمحة خاطفة وأوّليّة عن فكر عامل، لكنّها لم تتعمّق فيه بل أحيانًا شوّهته تصريفاتها ما بعد الحداثويّة أو تعميماتها القائمة على نظرة رومانسية(١٣). تُعدّ قراءة عامل بكلماته خطوة أساسيّة في الطّريق نحو تقييم كامل ونقديّ لفكره -مهما كانت تناقضاته وتغييراته التّطوّريّة. وعسى أن تساهم هذه التّرجمة أيضًا في إدراج فكر عامل ضمن منظورٍ يُقارَن فيه مع النّظريّات الماركسيّة المعاصرة عن الاستعمار والتّخلّفّ بدل اختزال مساهمته وتهميشها أو استعمال اغتياله وسيلةً لتشويه سمعة حزب اللّه اليوم وذلك ضمن سرديّة لاتاريخيّة ومسلوخة عن سياق ودور القوى الشّيوعيّة والإسلامويّة في مقاومة الصّهيونيّة.

تقدّم المجموعة هذه ولأوّل مرّة مقتطفات [مترجمة إلى الإنكليزيّة] من ستّة أعمال أساسيّة لعامل. تتضمّن النّصّين التّأسيسيّين عن الكولونياليّة والتّخلّفّ الاقتصادي آنفا الذكر -وفيهما بدأ عامل بالخوض في مسألة التّبعيّة- وبحثه في الطّائفيّة والدّولة ونقده تحليل إدوارد سعيد لماركس وكشفه عن نزعات في الفكر البرجوازي الإسلاموي ضمن نقده العام للفكر اليومي وكذلك تأمّلاته في الإرث الثّقافي من منظور البرجوازيّة العربيّة.

بطبيعة الحال، لن تتمكّن المجموعة هذه من تقديم جميع جوانب عامل الفكريّة الّتي تحتويها كتبُه الكثيرة، بما في ذلك دراسته في تمرحُل التّاريخ الّتي تقدّم مدخلًا إلى تطوّر فكره عن الزّمانيّة والحتميّة في بنيويّة لوي ألتوسير وإيتيين باليبار، حيث تنبّه عامل إلى تضمينها نزعات غير ثوريّة. شدّد عامل -في المجموعة هذه وبقيّة كتاباته ككلّ- على العلاقة المتداخلة بين الكوني والمحدد. وماركسيّته -كحال ماركسيّة ماركسيّين مناهضين للكولونياليّة آخرين- تشكّل نقضًا للسّفسطات ما بعد الاستعماريّة المتواصلة والّتي تختزل الماركسيّة في نظريّة ضيّقة الأفق ترتبط بأوروبّا لا إلّا، نقضًا كذلك للدّوغما الماركسيّة الغارقة في الفكر الغربي. عُدّت الماركسيّة في أيّام عامل تيّارًا رئيسيًّا يتضافر مع العمل السّياسي والنّشاط الفكري في العالم العربي. لذا فإنّ إعادة إحياء الفكر هذا ضروريّة لفهم المنعطف التّاريخي المرتبط بمشروع التّحرّر الوطني في التّاريخ العربيّ، الّذي غالبًا ما يُحجَّم بصفته لحظة عابرة من الإصلاح التّقدّمي أو يُزدَرى بصفته مشروعاً حداثويّاً فاشلاً.

هذا ومازال الفكر الماركسي غير الأوروبّي -كفكر عامل- قادرًا على تغذية النّضالات المستمرّة حول العالم، ولو ليذكّر فقط بحاجة تجديد الفكر الماركسي بحيث يُبنى على واقع اجتماعي راهن وملموس ومفصَّل فيتوافق مع متطلّبات النّضالات السّياسيّة القائمة. شدّد عامل على الطّابع الموحِّد للنّضال السّياسي، فرأى في النّشاط الهادف إلى التّغيير أي العملي لا النّظريّ التّخمينيّ -بما فيه إنتاج نظريّة تتناول التّخلّف الاقتصادي والثّقافي- جزءًا لا يتجزّأ من نضاله السّياسيّ. عكست تجربة عامل وموته المبكّر -الموصوفان بإيجاز في الجزء التّالي- النّضال المناهض للاستعمار تمامًا كما عكسَته كتاباته. ولا يزال كلاهما ينتظران إدغامهما في إرث فكر التّحرّر الوطني، على انتصاراته وتراجيديّاته(١٤).


الهوامش


١- غالبًا ما تحال مساهمتهم -بعد نصف قرن من صدورها- في تطوّر النّظريّة الماركسيّة إلى هوامش الجدل الأنغلوفونيّ عن الاقتصاد السّياسي. وثمّة نزعة لدكّ أعمالهم -متى ما ذُكرت- تحت عنوان نظريّة التّبعيّة مباشرةً والمنسوبة إلى بضعة كتّاب، منهم فيرناندو كاردوسو وأندريه غوندر فرانك في أمريكا اللّاتينيّة وهامزا آلڤي في جنوب آسيا وسمير أمين في العالم العربي. حتّى مؤخّرًا، لاقت معالجة ماركس للعالم الكولونيالي نفسَها تجاهلًا إلى حدّ بعيد أو اختُزلت بربطها بمفاهيم معيّنة كنمط الإنتاج الآسيوي. انظر/ي أندرسون ٢٠١٠ لمعالجة جوهريّة أكثر للموضوع.
٢- انظر/ي عامل ٢٠١٣، ص. ٥٢٤.
٣- انظر/ي عامل ١٩٩٠، ص. ١١.
٤- أشار عامل إلى "تناقض أساسيّ يحيط بالتّناقضات البنيويّة في كلّ بنية على حدة؛ ومن ثمّ ثمّة تعقيد يطرحه وجود بنيةٍ سائدة في الوحدة؛ وأخيرًا ثمّة تناقض سائد -وهو التّناقض الرّئيسيّ- في وحدة التّناقضات في كلّ بنية". عامل ٢٠١٣، ص. ٥٢٩.
٥- عامل ٢٠١٣، ص. ٥٤٢.
٦- انظر/ي عامل، ٢٠١٣، ص. ٥٥١.
٧- عامل ٢٠١٣، ص. ٤٧٢.
٨- ملاحظة المحرّر: يحوي نصّ الجزء الثّاني الأصلي والمكتوب بالعربيّة قسمًا تمهيديًّا يلخّص بالأساس جزءًا واحدًا من دراسة عامل "عن الكولونياليّة والتّخلّفّ". حُذف القسم التّمهيدي للجزء الثّاني في العمل المترجَم هنا وذلك باعتبار أنّ الجزء الأوّل قد تُرجم بأكمله.
٩- انظر/ي مسعد ٢٠٠٧، ص. ٢٠ للاستزادة عن عامل بصفته أحد المفكّرين القلائل الّذين قاوموا النّزعة الثّقافويّة في تفسير الآفات الاجتماعيّة العربيّة.
١٠- أفصح عامل عن آرائه هذه في "أزمة الحضارة العربيّة أم أزمة البرجوازيّات العربيّة؟" (عامل ٢٠١٣).
١١- انظر/ي عامل ٢٠٠٥، ص. ٣٣٠.
١٢- نشر عامل ثلاث دراسات أساسيّة تبحث في الموضوع هذا، هي "النّظريّة في الممارسة السّياسيّة – بحث في أسباب الحرب الأهليّة في لبنان (عامل ١٩٧٩)؛ و"مدخل إلى نقض الفكر الطّائفي – القضيّة الفلسطينيّة في الأيديولوجيّة البرجوازيّة اللّبنانيّة" (عامل ١٩٨٠)؛ و"في الدّولة الطّائفيّة" (عامل ١٩٨٦).
١٣- لمزيد من الدّراسات والكتابات الحديثة بالإنكليزيّة الّتي تتناول أعمال عامل تحديدًا وبالإنكليزيّة انظر/ي فرنجية ٢٠١٢، ص. ٤٦٥-٤٨٢؛ سينغ ويونس ٢٠١٣، ص. ١٤٩-١٩١؛ أبو ربيع ٢٠٠٤، ص. ٣١٨-٣٤٣؛ طعمة ٢٠١٢؛ پراشاد ٢٠١٤.
١٤- أخصّ بالشّكر إيڤلين حمدان ورضا حمدان وجيلبير الأشقر لتعقيباتهم المفيدة على المقدّمة هذه.