سلسلة مقالات لماركيز غير منشورة مسبقاً بالعربية، انتقتها المترجمة وننشرها تباعاً

غارسيا ماركيز: أجل، ما زالَ الحنين كسابق عهده (ترجمة)

2022-10-04 03:00:00

غارسيا ماركيز: أجل، ما زالَ الحنين كسابق عهده (ترجمة)

 قالَ تشي جيفارا ذات مرّة، مُتوجّهًا إلى رجالهِ المُتجمّعين حول النار في إحدى ليالي الحربِ المقفرة، إنّ الحنين يبدأ بالطعام. هذا صحيحٌ في حالة الجوع. لكنّي في المقابل أرى أنه يبدأُ دائمًا بالموسيقى. في حقيقة الأمر، يبدأ ماضينا الشخصيّ بالابتعاد عنّا منذُ لحظةِ ولادتنا، لكنّنا لا نَشعرُ أنّهُ يَمرّ إلا عند نهايةِ القرص.

إنّهُ لانتصارٌ عالَميٌّ للشِّعرِ في قرنٍ كانَ الفائزون فيه على الدوام هم أولئك الذين يُوَجِّهونَ الضّربة الأقوى والذين يحصلون على أكبر عددٍ من الأصوات والذين يُسجّلون أكبر عددٍ من الأهداف وأغنى الرجال وأجمل النساء، لذلك، فإنّ الضَجّة التي أحدَثَتها وفاةُ رجلٍ، لم يَفعل شيئًا سوى الغِناء للحبّ في جميعِ أنحاءِ العالم، مُشّجِّعةٌ للغاية. إنّها أقربُ إلى تأليهٍ لأولئك الذين لم يفوزوا يومًا، إذ أنّهُ لم يَتمّ الحديثُ عن أيّ شيءٍ آخر خلال الساعات الثمان وأربعين الماضية.

ثلاثةُ أجيالٍ – جيلنا وجيلُ أبنائنا وجيلُ أحفادنا الأكبر سنًّا - راوَدهم لأوّلِ مَرّةٍ الانطباعُ ذاتهُ بأنّنا نَمرّ بكارثةٍ مُشتركةٍ وللأسباب نفسها. سأل مراسلو التلفزيون سيّدةً تبلغُ من العمرِ ثمانين عامًا في الشارع عن أغنيةِ جون لينون المُفضّلة لديها فأجابت وكأنّها في الخامسة عشر من عمرها: "السعادةُ مُسدّس دافئ".

قالَ صَبيّ كانَ يُشاهد البرنامج: "بحبهم كلهم". سألَ ابني الأصغر فتاةً في عمرهِ عن سببِ مَقتلِ جون لينون، فأجابَت وكأنّها في الثمانين من عمرها "لأن العالم بيخلص".

إنّهُ كذلك: الحنينُ الوحيدُ الذي يَشترك فيه المرء مع أطفالهِ هو أغاني فرقة البيتلز. كلّ منّا لأسبابٍ مُختلفة، بالطبع، ولألمٍ مُختلف، كما يَحدث دائمًا مع الشِّعر. لن أنسى أبدًا ذلك اليوم المأثور عام 1963 في المكسيك، عندما استمعتُ بوعيي الكامل لأغنيةِ فرقةِ البيتلز للمرّة الأولى. منذ ذلك الحين اكتشفتُ أنّ الكون بأكمله قد تَلوَّثَ بهم. في منزِلنا في سان أنهل حيثُ بالكادِ تَوفَّرَ لنا مكان للجلوس، كان هناك اسطوانتان فقط: مجموعةٌ مختارةٌ من مُؤلَّفات كلود ديبوسي والألبوم الأوّل لفرقةِ البيتلز. في جميع أنحاءِ المدينة، في جميع الأوقات، كانت تُسمع أصواتُ حشودٍ تتعالى "النجدة، أحتاجُ إلى شخص ما".

أحدهم في تلك الحقبة أعادَ طرحَ فكرةٍ قديمةٍ تُفيدُ بأنّ أفضلَ الموسيقيّين هم أولئكَ الذين تَبدأُ أسماؤهم بالحرفِ الثاني من الأبجديّة: باخ، بيتهوفن، برامس وبارتوك. وأصرّ ألفارو موتيس، الذي لديه، كسائرِ علماءِ الموسيقى العظماء، ضعف عصيّ على العلاج تجاه الأيقونات الموسيقية، على إضافة أنطون بروكنر إلى القائمة. حاولَ آخرٌ تكرار الطرح لصالح هيكتور بيرليوس، وكنتُ أقف في الطرفِ المضاد لأنّني عجزت عن تجاهل الأقاويل التي تصف هذا الأخير بأنّه oiseau de malheur، أي طائر نذير شؤم. بدلًا من ذلك، صَمَّمتُ منذ ذلك الحين على ضَمّ فريق البيتلز إلى تلك القائمة. أخبرني إميليو غارسيا رييرا، الذي وافَقني الرأي، وهو ناقدٌ سينمائيٌّ ومُؤرّخ ذو رؤيةٍ ثاقبةٍ إلى حدٍّ ما، خاصّة بعد كأسِ المشروبِ الثاني: «أستمعُ إلى فرقة البيتلز بشيءٍ من الخوف، لأنّني أَشعرُ بأنّني سأتذكّرهم لبقيّة حياتي". إنّها الحالة الوحيدة التي أعرفها عن شخصٍ لديهِ ما يكفي من البَصيرة لإدراكِ أنّه كانَ يَمرّ بحالة ولادة الحنين إلى الماضي. كان المرء يدخل إلى استوديو كارلوس فوينتيس، ليجدهُ يكتبُ إصبعٍ واحدة، كما اعتادَ أن يفعل، وسط سحابةٍ كثيفةٍ من الدّخان، معزولًا عن أهوالِ الكونِ وموسيقى البيتلز تصدحُ في المكانِ بأعلى صوت.

كما هو الحالِ دائمًا، اعتقدنا حينها أنّنا بعيدون كلّ البعد عن السعادة، أما الآن فنعتقدُ العكس. إنّه فخُّ الحنين الذي يُزيلُ اللحظاتِ المريرةِ من مكانها ويرسمها بلونٍ مُختلف، ويعيدُ موضعتها بحيث تبطل أذيتها كما في البورتريهات القديمة التي تبدو لنا وكأنّها تشعّ بوهجَ سعادةٍ وهميّة ونندهش لرؤية أنفسنا شبابًا، ولا يقتصر الأمر على مشاهدتنا أنفسنا في ذلك الزمن، بل ونلاحظ كذلك المنزل والأشجار في الخلفيّة، وحتى المقاعد التي كُنّا نجلسُ عليها.

 قالَ تشي جيفارا ذات مرّة، مُتوجّهًا إلى رجالهِ المُتجمّعين حول النار في إحدى ليالي الحربِ المقفرة، إنّ الحنين يبدأ بالطعام. هذا صحيحٌ في حالة الجوع. لكنّي في المقابل أرى أنه يبدأُ دائمًا بالموسيقى. في حقيقة الأمر، يبدأ ماضينا الشخصيّ بالابتعاد عنّا منذُ لحظةِ ولادتنا، لكنّنا لا نَشعرُ أنّهُ يَمرّ إلا عند نهايةِ القرص.

في ظهيرةِ ذلك اليوم، أُفكّر في كلّ هذا أمامَ نافذةٍ قاتمةٍ حيثُ يتساقطُ الثّلج، مع تراكمِ أكثر من خمسين من السنين وما زلتُ لا أعرفُ جيّدًا من أكون، أو ما الذي أفعلهُ هنا بِحقّ الجحيم، لديّ الانطباعُ بأنّ العالم كان على حالهِ منذ ولادتي إلى أن بدأ فريق البيتلز بالغناء، كلّ شيءٍ تَغيّرَ بعد ذلك؛ أطلقَ الرّجال شعورهم ولحاهم وتَعلَّمَت النساءُ خلعَ ملابسهنّ براحةٍ أكبر، تَغيّرَ شكل ارتداءِ الملابس وكذلك الحبّ، ولإطلاق الأحلام بدأَ تحرير الجنس والمُخدّرات الأُخرى. كانت تلك السّنواتُ المُضطربة لحربِ فيتنام وتمرّد الجامعات. لكن، قبلَ كلّ شيء، كانت بداية التعلّمِ الشاق لعلاقةٍ مُختلفةٍ بين الآباء والأبناء، بدايةُ حوارٍ جديدٍ بينهما بدا مستحيلًا لعدّة قرون.

جون لينون، على رأس فريق البيتلز، مثلوا رمزًا لكل هذا. موته السخيف يتركنا مع عالمٍ مختلفٍ تسكنهُ صورٌ جميلة. في "Lucy in the skay"، واحدة من أجمل أغانيه، سيبقى حصانٌ من ورق بربطةِ عنقٍ على شكل مرآة. وفي أغنية "Eleanor Rigby" مع لمسةٍ من التشيلو الباروكي العنيد، ستبقى فتاة مهجورة تقطفُ الأرز في ردهة الكنيسة حيثُ أقيمَ حفل زفافٍ للتو. ويتساءل دون إجابة "من أين يأتي الأشخاص الوحيدون؟". وسبيقى كذلك الأب ماك كينسي يكتبُ خطبةً لن يسمعها أحد، ويغسل يديه فوق القبور، وفتاة تخلع وجهها قبلَ دخول منزلها وتتركهُ في جَرّةٍ بجانب الباب لتَضعهُ مرّة أخرى عندما تخرج. أدّى وجودُ هذه المخلوقاتِ إلى القولِ إنّ جون لينون كان سرياليًّا، وهي صفة تُطلق بسهولة عن كل ما يبدو غريبًا، الأمر ذاته يُقال عن كافكا من قبل أولئك الذين لم يقرؤوه بالشّكل الصحيح. في نظر آخرين، لينون صاحب رؤيةٍ لعالمٍ أفضل، شخصٌ جعلنا نفهمُ أنّ كبار السنّ ليسوا أصحاب السنواتِ الأكثر، بل أولئك الذين لم يستقلّوا قطار الأبناءِ في الوقتِ المُحدّد.